Trending Events

Mega-corporatio­ns

الأدوار والتحديات غير الاقتصادية للشركات الكبرى ”دولية النشاط“

- أحمد رشدي إبراهيم باحث اقتصادي متخصص في قضايا التمويل وسوق المال - مصر

لا يمنع تصاعد الأدوار الاقتصادية العالمية التي تقوم بها الشركات الكبرى، مثل تدفق رؤوس الأموال، وتطوير البنية التحتية، وخلق المزيد من فرص العمل، وبناء قدرات العاملين، ورفع القدرات التصديرية للدول النامية، ونقل التكنولوجي­ا؛ من وجود مجموعة من التحدياتٍ غير الاقتصادية التي تواجه عمل هذه الشركات في الوقت الراهن، وهي تحديات تتراوح بين الأبعاد السياسية والأمنية والاجتماعي­ة والثقافية.

ومع أن الشركات عابرة القومية ‪Transnatio­nal Corpora-(‬ tions،) والتي تعرف أيضاً باسم المشروعات متعددة الجنسيات ‪Multinatio­nal Enterprise(‬ ،) هي تعبير عن كيانات وشركات ضخمة ‪Mega Corporatio­ns(‬ ،) أصبحت تشكل أحد أهم أشكال الاستثمار الأجنبي المباشر في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء؛ فإنها اضطرت كذلك للعب أدوار سياسية ومجتمعية، سواءً على المستوى الداخلي في الدولة الأم للشركة، أو في الفروع الخارجية لها في دول أخرى.

يعود ذلك إلى تزايد المخاطر السياسية والأمنية، متمثلة في عدم الاستقرار السياسي وارتفاع مخاطر الاستثمار في مناطق الاضطرابات الأمنية، علاوة على تحدياتٍ نابعة من التحولات الدولية ذاتها، أو من توتر علاقة دولة ما مع بعض الدول أو مع المجتمع الدولي، مثلما هي الحال الآن مع العديد من الشركات الكبرى التي من المرجح أن تخسر عقوداً بمليارات الدولارات في إيران، نتيجة فرض إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" عقوبات جديدة على إيران، عقب انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الإيراني في مايو 2018، وهو ما يبرز كذلك في خسارة بعض الشركات في العديد من دول العالم نتيجة صعود سياسات الحمائية التجارية ووصول قادة شعبويين إلى الحكم في عددٍ من دول العالم.

وعلى سبيل المثال، من المتوقع أن تخسر شركة "بوينج" لصناعة الطائرات عقوداً بقيمة تبلغ حوالي 20 مليار دولار في إيران، وأن تخسر شركة "إيرباص" عقوداً بقيمة 19 مليار دولار، وأن تخسر شركة النفط الفرنسية "توتال" عقوداً بقيمة ملياري دولار)1.)

من جانب آخر، تتعدد التحديات المجتمعية والثقافية التي تواجه الشركات الكبرى أو الضخمة، بالنظر للقيود التي تفرضها الدول المُضيفة فيما يتعلق بسياسات حماية البيئة والمسؤولية الاجتماعية وطبيعة عمل هذه الشركات في مجتمعات محلية معينة، بالإضافة إلى التعامل مع تعدد الثقافات في بيئة العمل.

في هذا الإطار تتناول هذه الدراسة التطور التاريخي للشركات الكبرى متعددة الجنسيات، ولأهم تعريفاتها، والاتجاهات الأساسية لهذه الشركات من حيث الانتشار وطبيعة الأنشطة الاقتصادية، ثم تعرض الخصائص والأدوار الاقتصادية لهذه الشركات، وأدوارها السياسية والمجتمعية، وأخيراً تنتقل إلى بحث أهم التحديات السياسية والأمنية والاجتماعي­ة والثقافية التي تواجه عملها في الوقت الراهن.

اأولً: ن�شاة وتطور ومحددات تعريف ال�شركات الكبرى

على الرغم من أن الشركات متعددة الجنسيات، أو ما يتعارف عليه اصطلاحاً بالشركات الكبرى، تعد أحد أهم ملامح العولمة الاقتصادية حديثاً، فإن تاريخ نشأتها يرجع إلى بدايات عصر الرأسمالية التجارية، وتحديداً خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر. وقد تعددت المداخل التي اسُتخدِمَت لدراسة وتحليل دور هذه الشركات، ومقومات نجاحها، والقيود التي تُواجهها في القيام بأعمالها. ويرجع هذا التعدد إلى اختلاف البعد المفاهيمي الذي يستخدمه الباحث أو المؤسسة المعنية بالدراسة. 1- تاريخ الشركات الكبرى: تعد الشركات الكبرى أحد الملامح الرئيسية لنمو حركة التجارة الدولية وحركة رؤوس الأموال منذ بدايات نشأة الرأسمالية التجارية، والتي ارتبطت بظهور الشركات التي أنشأتها القوى الاستعماري­ة، خاصة "شركة الهند الغربية" التي أنشأتها هولندا، و"شركة الهند الشرقية" التي أنشأتها بريطانيا في عام 1660، و"شركة الهند الشرقية الفرنسية" التي أنشأتها فرنسا في عام 1664؛ فكانت هذه الشركات بمنزلة دافع لتطور الرأسمالية التجارية التي ساندت التوسعات الاستعماري­ة للدول الأوروبية.

وتطورت ظاهرة الشركات الكبرى خلال فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، وتوسعت خارج حدود الدولة الأم، مثل شركة "سينجر الأمريكية لماكينات الخياطة" Singer( ‪Sewing Machine Company‬ ،) والتي أقامت أول مصنع لها في بريطانيا عام 2( 1867(. أما الانتشار الحقيقي لهذه الشركات فيعود إلى مطلع القرن العشرين، وبداية من عام 1914 حيث أصبح مفهوم الشركات الكبرى أكثر رسوخاً، وقد قُدِّر الرصيد العالمي للاستثمارا­ت الأجنبية المباشرة لهذه الشركات بنحو 14 مليار دولار في ذلك الوقت. وكانت الشركات البريطانية هي المصدر الأكبر لتلك الاستثمارا­ت، تليها الشركات الأمريكية ثم الشركات الألمانية)3(. وفي فترة ما بين الحربين كان الشكل المميز للشركات الكبرى هو "الكارتل"، فظهر أول "كارتل" لصناعة الصلب في عام 1926، وأول كارتل للنفط في عام 4( 1928.)

وعقب الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الأكثر هيمنةً على الشركات الكبرى. وفي عقدي الستينيات والسبعينيا­ت بدأت الشركات الكبرى متعددة الجنسيات تشهد ديناميكية جديدة، حيث ظهرت الشركات الأوروبية واليابانية، والتي بدأت في تنويع نشاطها ليشمل الإنتاج والتسويق والتجميع، وبدأ شكل "الكارتل" الاحتكاري المُهيمِن على هذه الشركات يقل تدريجياً. وكان لتطور آليات عمل البنوك خلال هذه الفترة أثر كبير على نمو الشركات الكبرى، حيث ساعد ظهور البنوك متعددة الجنسيات في نمو هذه الشركات. ومنذ عام 1980 أصبحت الشركات الكبرى دعامة أساسية، وملمحاً رئيسياً، لحقبة الاقتصاد الرأسمالي)5.)

ولم تكن الشركات الكبرى ذات وجود كبير في الدول النامية منذ البداية، وذلك حتى النصف الثاني من الثمانينيا­ت من القرن العشرين، لكن منذ ذلك التاريخ بدأت بعض الدول النامية بجذب هذه الشركات بهدف نقل الخبرات التكنولوجي­ة والمعرفة اللازمة للنمو، لاسيما مع انفجار أزمة الديون في تلك الدول. ومع التسعينيات بدأ دور الشركات الكبرى في الاقتصاد العالمي يتعاظم، مع التقدم التكنولوجي ومع محاولات التوسع التي قامت بها هذه الشركات، إذ بدأت مرحلة جديدة من مراحل هيكل وطبيعة هذه الشركات؛ ما دفع الأمم المتحدة إلى محاولة وضع تعريف محدد للشركات الكبرى، وبداية العمل على رصد ومتابعة أداء هذه الشركات. 2- تعريف الشركات الكبرى: على الرغم من ارتباط الشركات الكبرى بالمراحل الأولى لنشأة الرأسمالية التجارية، ومعايشتها مراحل التطور الاقتصادي كافة التي تلت ذلك، بداية من نشأة تكتلات "احتكار الأقلية"، مروراً بقيام هذه الشركات بتطوير هياكل وآليات عملها من التجارة فقط،

لتضم الصناعة والتسويق أيضاً، ومواكبتها كذلك معطيات الثورة الصناعية الرابعة، مع تصاعد دور الإنترنت والذكاء الاصطناعي في عمليات الإنتاج، وكذلك مواكبتها للاهتمام العالمي بمفاهيم الاستدامة، فإنه لا يوجد تعريف موحد أو محدد للشركات الكبرى. ويعود ذلك إلى عوامل عدة، أهمها اختلاف المداخل والمنهجيات المستخدمة لدى تعريف تلك الشركات.

وقد كان "ديفيد لينينثال" ‪David Lilienthal(‬ ) أول من صاغ مصطلح "الشركات متعددة الجنسيات"، ضمن ورقة عمل قدمها في عام 1960، فعرفها بأنها "الشركات التي يوجد مقرها الأم في دولة ما، ولكنها توجد وتعمل في ظل قوانين ومعايير دول أخرى". لكن المصطلح لم يحظ بالاهتمام الكبير من قبل الأكاديميي­ن والباحثين منذ الوهلة الأولى، حيث فضل البعض، وعلى رأسهم الاقتصادي "تشارلز كيندلبيرجر" ‪Charles Kindleberg­er(‬ ) تسميتها ب "الشركات الدولية"، حيث تأثر هؤلاء بإسهامات "هايمر" Hymer() بشأن هذه الكيانات، والتي كانت تتمحور في مجملها حول ما يسمى "الأنشطة الأجنبية للشركات الوطنية")6.)

وبدأ استخدام مصطلح "الشركات متعددة الجنسيات" على نطاق واسع في نهاية عقد الستينيات، عندما استخدمه "راي فيرنون" ‪Ray Vernon(‬ ،) ضمن دراسة مسحية قدمها لجامعة "هارفارد" حول أنشطة هذه الشركات)7(. ومنذ ذلك الحين، تعددت التعريفات الخاصة بالشركات متعددة الجنسيات، وذلك وفقاً لطبيعة الدراسة أو المؤسسة التي تقدم هذا التعريف؛ فهناك من يعرفها على أنها "شركات تقتصر على الأنشطة المرتبطة بملكية أصول ثابتة في الخارج، وعلى وجه التحديد الاستثمار الأجنبي المباشر"، وهو المعنى التقليدي والضيق للمصطلح) .)

وثمة تعريف للاقتصادي "جون دونينغ" ‪John Dunning(‬ ) يشير إلى أن الشركات متعددة الجنسيات هي "مؤسسات الأعمال التي تمتلك أصولاً وأنشطة في دولتين أو أكثر")9(. كما عرفها "دونينغ" في مواضع أخرى على أنها "مشروع يمتلك ويسيطر على وحدات إنتاجية كالمصانع والمناجم في أكثر من دولة"، إلا أن هذا التعريف يقتصر على النشاط الصناعي، ويستبعد الأنشطة الخدمية) 10 .)

وتؤكد بعض التعريفات للشركات متعددة الجنسيات على ضرورة امتلاك حملة أسهم )المالكين( لهذه الشركات ووكلائهم الإداريين في الدولة الأم القدرة على إدارة العمليات في الدول الأجنبية. ولكن يُؤخذ على هذا التعريف أنه لا يضع في الاعتبار أهمية اختلاف الآليات التنظيمية والنظم الاقتصادية والاجتماعي­ة التي تعمل فيها الشركات من دولة إلى أخرى، حيث إن نشأة الشركة في الدولة الأم وفقاً للنسق الاجتماعي والثقافي لهذه الدولة، ثم توسعها للعمل في أسواق ودول أخرى، من شأنه أن يمثل تحدياً وصراعاً مع الأنساق الاجتماعية والثقافية المحلية؛ وهو ما يفرض تحدياً على الحكومات المحلية والإقليمية الهادفة لجذب الاستثمارا­ت ونقل التكنولوجي­ا)11.)

وقد أقر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" في عام 1992 بالدور المركزي لنشاط الشركات الكبرى، وعرفها على أنها "كيان اقتصادي يُزاول نشاط التجارة والإنتاج عبر القارات، ولو في دولتين أو أكثر، وله شركات تابعة أو فروع تتحكم فيها الشركة الأم بشكل فعال وتخطط لكل قرارتها تخطيطاً شاملاً". وتضمنت "مسودة السلوك الدولي للشركات متعددة الجنسيات في إطار الأمم المتحدة" في تعريفها أن هذه الشركات "هي كيانات تعمل في دولتين أو أكثر، بصرف النظر عن شكلها القانوني، ومجال النشاط الذي تعمل فيه، وأنها تعمل في ظل نظام لاتخاذ قرار يسمح بإقرار سياسات متجانسة واستراتيجي­ة مشتركة من خلال مركز أو أكثر لاتخاذ القرار، وأن هذه الكيانات ترتبط فيما بينها عن طريق الملكية أو غيرها من الروابط الأخرى،

بحيث يمكن لواحدة أو أكثر ممارسة تأثير فعال على أنشطة الكيانات الأخرى، وبصفة خاصة المساهمة في المعرفة والموارد والمسؤوليا­ت مع الآخرين"(12.) 3- الاتجاهات الحالية للشركات الكبرى: يتميز الاستثمار الأجنبي المباشر بمزايا عدة مقارنةً بمصادر التمويل الأخرى، مثل القروض والمساعدات الخارجية، والتي من بينها عدم التقلب وعدم توليده أعباءً إضافة على موازنات الدول كالقروض، أو أعباءً سياسية كالمساعدات الخارجية. ولذلك فقد ازداد اهتمام الدول بالحصول على الاستثمار الأجنبي خلال السنوات الماضية، خاصة الدول النامية، حيث ذكر تقرير الاستثمار العالمي لعام 2018، والصادر عن "مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية"، أن مساهمة هذا الاستثمار في التمويل الخارجي للدول النامية خلال الفترة )2017–2013) بلغت نحو 39%، وأن هذه النسبة تمثل المصدر الأكبر للتمويل الخارجي في هذه الدول على مدار العقد الماضي.

ولمَّا كانت الأنشطة الاستثماري­ة للشركات الكبرى تُعتبر هي المكون الرئيسي للاستثمار الأجنبي المباشر حول العالم، فإن ذلك يوضح إلى حد كبير مدى الأهمية التي يحتلها دور الشركات الكبرى في الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن، بل إن التماهي الحاصل بين أنشطة تلك الشركات من ناحية والاستثمار الأجنبي المباشر من ناحية أخرى، جعل دراسة وتحليل اتجاهات هذا الاستثمار والتغيرات التي تطرأ عليه، تسهم في التعرف على اتجاهات التغير التي تطرأ على أنشطة الشركات ذاتها، سواءً من حيث دولة المنشأ، أو من حيث طبيعة عمل هذه الشركات والأنشطة التي تقوم بها.

وفي هذا الإطار، ذكر تقرير الاستثمار العالمي لعام 2018، أن أكبر 100 شركة متعددة الجنسيات في العالم لديها نحو 9% من إجمالي الأصول الأجنبية عالمياً، وأن أصولها ازدادت بنحو 8% في عام 2017. كما استحوذت هذه الشركات على 17% من المبيعات الأجنبية عالمياً، وارتفعت مبيعاتها في ذلك العام بنسبة 8%، لتصل نسبتها إلى نحو 10% من الناتج المحلى الإجمالي العالمي. كما ساهمت هذه الشركات بنحو 13% من التوظيف العالمي في عام 13) 2017(. وتأتي هذه المساهمة الكبيرة في الاقتصاد العالمي لأكبر 100 شركة كبرى في وقت لايزال فيه إنفاقها الرأسمالي منخفضاً منذ عام 2013، نظراً لانخفاض أسعار السلع وأثره على الصناعات الاستخراجي­ة وغيرها.

وقد شهدت السنوات الخمس الماضية، تغييرات عدة في تركيبة أكبر 100 شركة كبرى على مستوى العالم، فوفقاً لتقرير الاستثمار العالمي لعام 2018، خرجت بعض شركات الصناعات الاستخراجي­ة مثل شركة "بي بي" البريطانية، وشركات التجارة مثل "كارفور" الفرنسية وشركة "تيسكو" البريطانية التي عانت في الأسواق الناشئة وقررت الانسحاب من هذه الأسواق. كما أن تركيبة الدول الأم لهذه الشركات تغيرت بشكل بسيط، حيث أصبحت إيرلندا دولة أم لأربع شركات متعددة الجنسية، وارتفع عدد الشركات اليابانية والألمانية بين الشركات المائة الأكبر.

ويُلاحظ هنا أن نصيب الدول النامية كدولة أم للشركات متعددة الجنسيات خلال عام 2017 ارتفع بعدد شركة واحدة، حيث إن الشركات ذات الدول الأم في الدول النامية تبقى هي

الأقل عدداً بين فئة المائة شركة الأكبر عالمياً، ولكن يشير التقرير إلى أنها شركات ديناميكية، ويتوقع زيادة عددها وتمثيلها بشكل أكبر ضمن فئة المائة الكبار في المستقبل القريب.

أما التغيرات الجوهرية التي يجب أخذها في الاعتبار، فتتعلق بانضمام الشركات العاملة في الأنشطة الرقمية ‪Digital Firms(‬ ،) والتي تضاعف عددها بين أعوام 2012 و2017، ضمن فئة المائة في عام 2017، حيث بلغ عددها 15 شركة تكنولوجية، و7 شركات عاملة في مجال الاتصالات، ومن هذه الشركات شركة سامسونج الكورية الجنوبية، وأمازون وإنتل الأمريكيتي­ن، وتينسيت الصينية.

ثانياً: ال�شمات والأدوار القت�شادية لل�شركات الكبرى

تلعب الشركات الكبرى متعددة الجنسيات دوراً مهماً وكبيراً في الاقتصاد العالمي وصياغة السياسات الاقتصادية العالمية، حيث إن طبيعتها وسماتها تساعدها في التأثير على الأسواق الناشئة التي تستثمر فيها. ولا يقتصر دورها على الجوانب الاقتصادية فقط، بل يتعدى ذلك ليشمل التأثير في الجوانب السياسية والمجتمعية والثقافية، وهو ما يمكن استعراضه بإيجاز فيما يلي: 1- السمات الرئيسية للشركات الكبرى: تكتسب الشركات الكبرى سماتها من التعريفات التي اقترن بها تطور الأدبيات المتعلقة بدراستها، علاوة على الأهداف الرئيسية والاستراتي­جية لعملها. ومن واقع التعريفات الواردة سابقاً، يمكن التعرف على السمات الأساسية للشركات الكبرى في الآتي: أ- الحجم الكبير: تتسم هذه الشركات بضخامة حجمها مقارنة بالشركات الأخرى، فهي كيانات اقتصادية عملاقة، من حيث رأس المال وقيمة الإيرادات والمبيعات السنوية وعدد العاملين وعدد المقار أو الفروع في الدول المختلفة. كما ترتفع قيمة إنفاقها على البحث والتطوير.

وفيما يتعلق بضخامة حجم هذه الشركات، لابد من التفرقة بين مقارنتها وفقاً لحجم المبيعات مع الناتج المحلي الإجمالي لدولة ما، وكذلك وفقاً لنسبة القيمة المضافة لهذه الشركات من الناتج المحلى الإجمالي للدول، حيث يتفوق حجم هذه الشركات وفقاً للمبيعات على الناتج المحلي لعدد كبير من الدول، أما لدى اتباع مبدأ القيمة المضافة، فإن نسبتها عادة ما تكون أقل من الناتج المحلي الإجمالي للدول)14.) ب- تنوع المنتجات والتوسع الجغرافي: تتسم الشركات الكبرى بتنوع المنتجات والخدمات التي تقدمها، وهي سمة توفرها لها ميزة الانتشار الجغرافي، التي تسمح لها باستخدام موارد إنتاج متنوعة وكذلك دخول أسواق مختلفة، وبالتالي فإن انتشار فروع الشركة يؤدي لتعدد الأعمال التي تقوم بها، وكل ذلك يظل تحت مظلة الشركة الأم. ومن الأمثلة التي يمكن ذكرها في هذا الإطار هو أن شركة ABB() التي قامت عام 1987، نتيجة اندماج شركة سويدية هي ASEA() وشركة سويسرية هي Vovery(‬ ‪Broan،) استطاعت من خلال الاندماج استثمار نحو 3.2 مليار دولار. كما أنها تمكنت من إحداث المزيد من التوسع الجغرافي في عام 2014 من خلال السيطرة على نحو 1300 شركة، منها 130 شركة في الدول النامية، وأخرى في دول أوروبا الشرقية) 15 .) ج- المزايا الاحتكارية والتمويلية: تتسم الشركات الكبرى بممارسات احتكارية، مثل احتكار تكنولوجيا معينة، ومهارات فنية وإدارية وتنظيمية، وتُتِيح ممارساتها في أساليب مراقبة الجودة والتسويق المزيد من قدراتها التنافسية في الأسواق العالمية)16(، وتوفر لها قدرتها الكبيرة على الحصول على التمويل مزايا تمويلية تنافسية، حيث تستطيع الاقتراض من الأسواق المالية العالمية بأفضل الشروط نظراً لسلامة وقوة مركزها المالي. د- التفوق والتطور التكنولوجي: تتسم الشركات الكبرى بالتفوق التكنولوجي مقارنة بالشركات المحلية أو الوطنية، حيث يوفر الانتشار الجغرافي والمزايا التمويلية لهذه الشركات الإنفاق على البحث والتطوير، وهو ما يسهم في تحقيق التطور التكنولوجي اللازم لرفع كفاءة هذه الشركات وقدراتها التنافسية؛ ولذلك فإن الشركات المتعددة الجنسيات تعد مصدراً أساسياً لنقل المعرفة الفنية والإدارية والتنظيمية من خلال فروعها في الدول المُستضيفة)17.)

وإلى جانب هذه السمات، فإن الشركات متعددة الجنسيات تمتلك سمات أساسية تميزها عن الشركات ومؤسسات الأعمال العادية، وهي: لامركزية الإنتاج، والقدرة على تحويل ونقل الإنتاج بين الدول، وإقامة التحالفات الاستراتيج­ية، وامتلاك مزايا احتكارية، وتعبئة المدخرات العالمية، والتخطيط والإدارة الاستراتيج­ية، والتركيز على النشاط الاستثماري)18.) 2- الإسهامات الاقتصادية للشركات الكبرى: مما سبق يمكن التعرف على الدور الاقتصادي للشركات الكبرى، والذي يتضمن عدداً من الأبعاد الرئيسية، التي تعمل معاً في سبيل تحقيق التنمية الاقتصادية بالدول المُستضيفة لاستثمارات­ها، من خلال خلق فرص العمل وتحسين الإنتاجية ورفع كفاءة الشركات الوطنية وكسر حدة الاحتكار المحلي لبعض الشركات الوطنية، ومن ثم زيادة المنافسة. وتتمثل أبرز الأدوار الاقتصادية التي تمارسها الشركات الكبرى فيما يلي: أ- تدفق رؤوس الأموال: يلعب استثمار الشركات الكبرى في الدول النامية دوراً مهماً في تحقيق التنمية الاقتصادية، حيث تساهم في سد الفجوة بين احتياجات الدول النامية من رؤوس الأموال اللازمة لتمويل المشروعات التنموية وبين حجم المدخرات المُتاحة محلياً. وتشير الدراسات إلى أن

حلقة الفقر في الدول النامية والدول والأقل نمواً، لا يمكن كسرها بواسطة الاستثمارا­ت المحلية فقط، حيث إن مستوى الاستثمارا­ت اللازمة لرفع مستوى الإنتاجية والدخل لا يمكن تحقيقه من دون الاستثمارا­ت الأجنبية)19(، والتي تساهم الشركات الكبرى بالنصيب الأكبر منها. ب- تطوير البنية التحتية: يتطلب جذب الاستثمارا­ت المباشرة من خلال الشركات متعددة الجنسية توفير البنية التحتية الجيدة، لذلك فإن الدول النامية التي تسعى لجذب الشركات الكبرى تعمل على تحسين كفاءة البنية التحتية، سواءً المتعلقة بالطرق والمواصلات أو البنية التحتية التكنولوجي­ة ووسائل الاتصال... إلخ)20.) ج- فرص العمل وبناء قدرات العاملين: من أهم الأدوار الاقتصادية التي تلعبها الشركات الكبرى توفير فرص العمل، كما أنها تعمل على رفع مستوى أداء العمالة من خلال التدريب المستمر على استخدام التكنولوجي­ا الحديثة لتمكينها من مواكبة التطور التكنولوجي المستمر للصناعة)21(. وتشير الدراسات إلى أن الشركات متعددة الجنسيات تسهم بنحو 65% من فرص العمل غير الحكومي في الدولة المُستضيفة، وتعمل على بناء قدرات العاملين لديها من خلال التدريب الفني ونقل الخبرات التكنولوجي­ة والمهارات الفنية والتنظيمية اللازمة للمنافسة، والتي تفتقر إليها غالبية الدول النامية)22.) د- رفع القدرات التصديرية للدول النامية: من شأن جذب الاستثمارا­ت الأجنبية المباشرة أن يساهم في زيادة المنافسة بين الشركات الوطنية والشركات الأجنبية. وفي هذا السياق تسعى الدول النامية الهادفة لرفع القدرات التصديرية إلى بناء الإطار التنظيمي وفقاً لخطط التنمية الاقتصادية، وبناءً على عدد من الحوافز والإعفاءات اللازمة للأنشطة الإنتاجية التي تمتلك فيها مزايا تنافسية، مما يرفع من قدراتها التصديرية، مثل إنشاء المناطق الاقتصادية الحرة ببعض المزايا التنافسية) 23 .) ه- نقل التكنولوجي­ا للدول النامية: لمَّا كانت الشركات متعددة الجنسيات تتسم بضخامة الحجم من حيث المبيعات والانتشار والقدرة على توفير التمويل اللازم لعمليات البحث والتطوير، فإن هذه الشركات تعمل على نقل التكنولوجي­ا إلى الدول المُستضيفة، وذلك في ظل اهتمام الأخيرة بنقل الخبرات والتكنولوج­يا والمعرفة، وليس فقط استخدام التكنولوجي­ا التي توفرها هذه الشركات من دون نقلها، وذلك كشرط أساسي لتوفير المميزات والحوافز اللازمة لاستثمارات الشركات الكبرى. ولهذه الشركات دور كبير في تسريع الثورة التكنولوجي­ة فبفضلها زادت نسبة الاكتشافات التكنولوجي­ة الحديثة والتي كانت نتيجة لجهود البحث والتطوير التي قامت بها)24(. ووفق البنك الدولي فإن الشركات متعددة الجنسيات تستفيد من ميزة الحجم الكبير في هذا الإطار، حيث إن هذه الميزة تسمح لها بالاستثمار الكثيف في البحث والتطوير، وقد وصلت نسبة مساهمة أكبر 1500 شركة متعددة الجنسيات إلى ما يزيد على 50% من الإنفاق العالمي على البحث والتطوير في عام 25( 2012.) و- أنماط جديدة من التخصص وتقسيم العمل على مستوى الدول التي تعمل بها: تلعب الشركات الكبرى دوراً كبيراً في حركة التجارة العالمية، ويُمكِنُها التأثير على حركة تدفقات الاستثمارا­ت الأجنبية المباشرة وغير المباشرة أيضاً، لذلك تأتي قرارات الإنتاج والاستثمار من منظور عالمي، ووفقاً لاعتبارات التكاليف والأرباح والمناطق الجغرافية، حيث إن هذه الشركات تنظر إلى العالم كوحدة إنتاجية واحدة)26.) ولذلك تعتبر الشركات متعددة الجنسيات واحدة من الأدوات التي تساعد على تحسين التخصيص العالمي للموارد، وكذلك تقسيم العمل على مستوى الدول)27(. كما أن تدويل ظاهرة الإنتاج ورأس المال والتسويق، ضمن الطبيعية الكونية لتلك الشركات تمكنها من لعب دور مؤثر كقوة اقتصادية مؤثرة في العلاقات الاقتصادية الدولية، ما يعزز من عملية تكامل الأنشطة الاقتصادية الدولية، لاسيما أن هذه الشركات تبني استراتيجية موحدة في ممارسة نشاطاتها)28.)

وعلى الرغم من تعدد الجوانب الإيجابية لدور الشركات الكبرى، فإن تحقيق هذه الإيجابيات في تعزيز ورفع كفاءة الاقتصادات المحلية وتحقيق التنمية الاقتصادية اللازمة في الدول النامية، قد يتحول إلى تهديد لهذه الدول، إذا لم تتخذ هذه الدول السياسات اللازمة للمساهمة في رفع قدراتها التصديرية بالاستفادة من الشركات الكبرى، لأن أنشطة هذه الشركات قد تؤدي إلى زيادة العجز في ميزان المدفوعات بهذه الدول من خلال زيادة تحويلات عائد استثمارات الشركات. كما أن عدم وضوح الرؤية الاقتصادية والسياسات اللازمة لرفع مساهمة هذه الشركات في التنمية الفعلية، قد يؤثر سلباً على خطط التنمية الاقتصادية؛ حيث قد تستثمر الشركات في أنشطة غير صناعية أو أنشطة غير مولدة لفرص عمل كبيرة أو أنشطة قد تُعرِّض الصناعات الوطنية إلى الخطر، أو أن تتم الاستثمارا­ت الأجنبية من دون نقل فعلي للمعرفة والتكنولوج­يا)29.)

كما يرتبط بوجود الشركات الكبرى في بعض الدول النامية أيضاً ظهور مشكلات أخرى، منها تحجيم الصناعة الوطنية المُنتِجَة، وخلق ما يسمى "ظاهرة الاقتصاد المزدوج"، إذ ينشأ قطاع متقدم وآخر متخلف، كما قد ينشأ عنها زيادة الهوة بين الشرائح الاجتماعية، وفي بعض الأحيان يساعد وجود هذه الشركات على التأثير بشكل عميق على أنماط الاستهلاك في المجتمع المُضيف، حيث تشكل القيم الاستهلاكي­ة حيزاً كبيراً في مجمل نظام القيم الثقافية في المجتمع)30.)

ثالثاً: الأدوار غير القت�شادية لل�شركات الكبرى

لا تقتصر أدوار الشركات الكبرى على الجوانب الاقتصادية، بل إن عدداً من الأدوار الأخرى لها، فهي تلعب دوراً سياسياً من خلال تكوين التحالفات السياسية والتأثير على الانتخابات في الدول النامية والمتقدمة. كما يمتد تأثير هذه الشركات إلى نقل أو تغيير الأنماط الثقافية والاجتماعي­ة، ولها كذلك تأثير على البيئة التي تعمل بها، خاصة مع الاهتمام المتزايد بأثر عمليات الشركات المحلية والعالمية على البيئة ودورها في تغير المناخ.

1- الأدوار السياسية للشركات الكبرى: فرضت العولمة الاقتصادية منذ بدايتها، وعلى مدار فترات ازدهارها العديد من التغيرات المتعلقة بطبيعة العلاقات الدولية، ففرضت نماذج جديدة وأطراً مغايرة للعلاقات بين الدول، وأعطت الفرصة لظهور لاعبين جدد على الساحة الدولية، ذوي طبيعة مختلفة عن طبيعة الدولة الوطنية.

وتأتي الشركات متعدد الجنسيات كواحد من هؤلاء اللاعبين الجدد، بل وذوي التأثير الجوهري في نموذج العلاقات الدولية في العصر الحديث؛ إذ تتخطى هذه الشركات بخصائصها ونشاطاتها الحدود الجغرافية للدول، وتؤثر حتى على طبيعة الاتفاقيات الدولية والإقليمية، سواءً متعددة أو ثنائية الأطراف، وفرضت مراجعات عديدة لبعض المفاهيم الدولية المتعارف عليها كالسيادة الوطنية للدولة وموازين القوى الدولية وغير ذلك من المفاهيم، حتى إنه بات من المتعذر التطرق إلى نظريات العلاقات الدولية، أو تحليل تحولات النظام الدولي من دون تناول دور الشركات متعددة الجنسيات، التي لعبت – ولا تزال - أدواراً عدة في تشكيل النظام العالمي بهيكله المعاصر، والتي وصل تأثيرها إلى تشكيل الرأي العام في بعض الدول، وتحديد الاتجاه العام في نتائج الانتخابات، بإسقاط حكومات وإنجاح حكومات في دول أخرى، عبر تكوين جماعات ضغط "لوبيات" تخدم مصالحها. أ- ممارسة ضغوط سياسية على بعض الحكومات: أدت مساهمة الشركات الكبرى اقتصادياً إلى تعزيز العولمة الاقتصادية، وهو ما قاد لزيادة الاعتماد المتبادل بين الوحدات السياسية المختلفة، إلى الحد الذي لم تستطع فيه دولة منفردة إشباع حاجاتها الأساسية لمواطنيها من خلال الاعتماد على قدراتها ومواردها، بل وظهرت في حالات عديدة أنواع من تبعية بعض الدول النامية لسياسات الشركات الكبرى متعددة الجنسية وللدول المتقدمة)31.)

ويأتي هذا الأثر نتيجة لظاهرة التقسيم الدولي للعمل من خلال الشركات متعددة الجنسيات، والتي سمحت لها ضخامة حجمها بممارسة ضغوط سياسية على الحكومات، خصوصاً في الدول النامية، ومن ثم تأثيرها على سياسات هذه الدول، وقراراتها السيادية، نتيجة للقوة المتنامية للشركات الكبرى على حساب سيادة الدولة القومية. ولهذا يرى البعض أن الشركات الكبرى، على الرغم من إيجابياتها، لا تمثل فرصاً إيجابية للنمو والتنمية في الدول النامية، بقدر ما هي صورة جديدة من الاستعمار، فيما يُطلق عليه "الاستعمار الهيكلي"، حيث بات النشاط الاقتصادي والتجاري الذي تقوم به الشركات متعددة الجنسيات أحد الأركان الأساسية في الدولة التابعة واستمرارية وجودها)32(. كما تُثَار العديد من المزاعم بشأن ارتباط السلطات السياسية والاقتصادي­ة في بعض الدول النامية بعلاقات تبعية للشركات متعددة الجنسية، وأن النخب الحاكمة في تلك الدول لها أهداف مشتركة مع الشركات دولية النشاط، وأن كليهما وظيفي لاستمرار الآخر)33.)

من جانب آخر، قد يساهم الدور السياسي للشركات الكبرى في توفير بيئة اقتصادية ملائمة لهذه الشركات، من

خلال استخدام الشركات لقوتها الاقتصادية وعلاقتها بالنخب السياسية الحاكمة في صياغة السياسات الاقتصادية التي تساعدها، على الرغم من أن هذه السياسات قد تُقَّيد النمو الاقتصادي)34(. ويتم ذلك من خلال آليات المساومة التي تستخدمها الشركات الكبرى مع الحكومات.

ب- تكوين الشركات الكبرى "لوبيات" سياسية: تلعب الشركات متعددة الجنسيات دوراً في مفهوم القوة السياسية، والتي يمكن أن تأتي في شكل القوة الأداتية ‪Instrument­al Power(‬ ،) وهي قوة الشركات على تشكيل لوبي أعمال Business( Lobbying،) بهدف التأثير على الحملات السياسية والانتخابا­ت، من خلال المساهمات المالية والتبرعات؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، تضاعفت قيمة المساهمات المالية للشركات المحلية والأجنبية من "لوبي الأعمال" لتصل إلى 3.24 مليار دولار في عام 2013، مقارنة بنحو 1.57 مليار دولار في عام 2000، وتضاعفت قيمة الإنفاق على لوبي الأعمال 30 ضعفاً من إجمالي إنفاق جميع اتحادات الأعمال) 35 .)

وللشركات الكبرة أيضاً ما يُسمَّى "القوة الهيكلية" ‪Structural Power(‬ ،) والتي تتضمن اختيار الموقع الجغرافي للشركة، والقدرة على تحويل المخاطر إلى الموردين، أي أن لديها وسائل تُمكِنها من إنجاز الأعمال بغض النظر عن أجندة سياسات الدول المُضيفة من دون اللجوء إلى استخدام القوة الأداتية وآليات لوبي الأعمال؛ إذ تتمتع الشركات متعددة الجنسيات بالعديد من مظاهر القوة الهيكلية المتمثلة في تعدد خيارات المواقع الجغرافية مقارنة بالشركات الوطنية) 36 .)

وأخيراً، هناك القوة الاستطرادي­ة ‪Discursive Power(‬ ) للشركات الكبرى، وتشير إلى القدرة على التأثير على أعمال الشركة من خلال صياغة وتعريف السياسات العامة محل الاهتمام، وصياغة الأفكار والأعراف الاجتماعية وحتى الهوية المجتمعية، بما يخدم مصالح هذه الشركات، ثم تنفيذها كما يجب، بغض النظر عن السياسات الحكومية القائمة)37.)

وقد أُثيرَت الكثير من الادعاءات والمزاعم التي تربط بين الدور والتأثير السياسي للشركات متعددة الجنسيات، وما حدث من تغييرات سياسية في العديد من الدول، بما في ذلك الدول النامية والدول المتقدمة، فهناك من يرى أن هذه الشركات قامت بدور مؤثر في الانقلاب العسكري الذي وقع في شيلي في عام 1973، ضد الرئيس سلفادور اللندي لدى محاولته تأميم بعض الأصول المملوكة للشركات الكبرى في بلاده آنذاك، وهي الملابسات نفسها التي أُثيرَت أيضاً حول إزاحة "سانتوس زيلا" عن رئاسة نيكاراجوا في عام 1909، نظراً لسعيه إلى تقليص سيطرة تلك الشركات على اقتصاد بلاده) 38 .)

ويرى البعض أن هذه الشركات باتت واحدة من القوى المؤثرة في الحياة السياسية في العديد من البلدان المتقدمة والقوى الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وقد

عبر عن ذلك المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية لعام 2016، بيرني ساندرز، في إحدى حملاته الانتخابية عندما قال: "دعوني أخبركم شيئاً ما لن يخبركم به أي مرشح أو رئيس آخر، وهو مهما كان الشخص الذي سيفوز بمنصب الرئاسة فإنه لن يتمكن من معالجة المشاكل الضخمة التي تواجهها العائلات العاملة في دولتنا، لن يتمكنوا من حلها بسبب قوة الشركات الأمريكية، قوة وول ستريت، وقوة المتبرعين للحملات الانتخابية، قوة عظيمة جداً تجعل أي رئيس يعجز وحده عن الوقوف أمامهم.. هذه هي الحقيقة، فيجب بناء حراك وقاعدة شعبية سياسية في هذا البلد")39.)

كما أُثيرَت العديد من الشكوك حول تأثير شركة "فيس بوك" على نتائج الانتخابات الأمريكية لعام 2016، حيث ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز"، أن الإدارة الأمريكية شرعت فور إعلان نتائج الانتخابات، في فحص تدخل "فيس بوك" في التأثير على الآراء والأصوات في العملية الانتخابية، بما أثر بشكل جدي في نتيجة الانتخابات. وعلى الرغم من نفي الشركة تلك المزاعم، فإنها قامت فيما بعد بالإعلان عن حذف مجموعة كبيرة من الحسابات على شبكتها الاجتماعية بدعوى أنها تداولت تقارير مغلوطة أثرت على نتائج الانتخابات) 40 .) -2 المسؤولية الاجتماعية للشركات الكبرى: نظراً للدور التنموي الذي تضطلع به الشركات الكبرى، في ظل ما تتمتع به من إمكانات كبيرة، ومزايا تضعها في موقع استثنائي مقارنة بالشركات العادية، فعادة ما تعلق الآمال على تلك الشركات بالقيام بالعديد من الأدوار فيما يتعلق بالجوانب الاجتماعية، في إطار ما يسمى "المسؤولية الاجتماعية للشركات".

وتتعدد تعريفات المسؤولية الاجتماعية للشركات، حيث عرفها البنك الدولي على أنها "التزام أصحاب النشاطات التجارية بالمساهمة في التنمية المُستدامة من خلال العمل مع أصحاب المصالح Stakeholde­rs(،) بمن فيهم العاملون والمجتمع المحلي والمجتمع ككل، لتحسين مستوى معيشة الأفراد بما يخدم التجارة ويخدم عملية التنمية في الوقت نفسه")41(. ويُعرفها "مجلس الأعمال العالمي للتنمية المُستدامة" بأنها "الالتزام المستمر من قبل مؤسسات الأعمال والشركات بالتصرف أخلاقياً، والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية، والعمل على تحسين نوعية الظروف المعيشية للقوى العاملة وعائلاتهم، إضافة إلى المجتمع المحلي والمجتمع ككل")42.)

وتصف معظم تعريفات المسؤولية الاجتماعية للشركات بأنها "الإجراءات التي تقوم من خلالها المؤسسات بدمج العناصر الاجتماعية في سياساتها وعملياتها المتصلة بأعمالها التجارية، والتي تشمل أيضاً أبعاداً اقتصادية وأبعاداً بيئية، ويمثل الامتثال للقانون الحد الأدنى من المعايير التي يتعين على المؤسسات الالتزام بها". وفي الدول التي تُفرض فيها التزامات قانونية على المؤسسات، أو التي لا يكون فيها هذه الالتزامات واضحة بالتفصيل، لابد من أن تبذل المؤسسات والشركات الكبرى جهداً للوفاء بتطلعات المجتمع)43.)

وتتضمن آليات تنظيم علاقات الشركات الكبرى بالمجتمع العديد من الخيارات المُتاحة أمام هذه الشركات، ومنها القوانين الدولية والوطنية، وهي إلزامية بطبيعتها. أما المبادرات الدولية في مجال المسؤولية الاجتماعية للشركات ومدونات قواعد السلوك فهي طوعية، وتعتمد على التزام ضمني من الشركات بالإبلاغ وفقاً لهذه المبادرات، ثم تأتي إدارة الشركة نفسها، والتي ترى أن لها دوراً كبيراً في تحمل مسؤوليتها تجاه المجتمع الذي تعمل فيه، ثم تأتي ضغوط الجماهير والخطر على السمعة، وأخيراً ضغوط المستثمرين المستمرة نحو الاستثمار المسؤول. أ- آليات المسؤولية الاجتماعية للشركات: فيما يتعلق بدور الشركات متعددة الجنسية في تحقيق المسؤولية الاجتماعية، فإنها يُمكن أن تتم من خلال عدد من الآليات، ومنها)44:)

• المساهمة المجتمعية التطوعية: يلقى هذا المجال معظم الاهتمام في الدول التي يكون فيها الحوار حول المسؤولية الاجتماعية للشركات حديثاً نسبياً. ومن الممكن أن يتضمن ذلك الهبات الخيرية وبرامج التطوع والاستثمار­ات المجتمعية طويلة الأمد في الصحة أو التعليم أو المبادرات الأخرى ذات المردود المجتمعي. ويلتزم عدد من الشركات المتعددة الجنسيات بالتبرع بنسبة من أرباحها قبل خصم الضرائب لخدمة القضايا المجتمعية. ويمكن لهذه الشركات إنشاء مؤسسات بمبالغ وقفية كبيرة وتقديم منح للمنظمات الدولية غير الهادفة للربح والعاملة في الدول النامية.

• العمليات الجوهرية للأعمال وسلسلة القيمة: غالباً ما تكون رؤية وقيادة الأفراد والمنظمات الوسيطة ضرورية لإدخال المسؤولية الاجتماعية للشركات، وتستطيع أي شركة من خلال التفاعل النشط مع موظفيها، تحسين الظروف والأوضاع وتعظيم فرص التنمية المهنية. ومن ذلك تطبيق إجراءات لتقليل استهلاك الطاقة والمخلفات. كما تستطيع الشركات أن تكفل مصداقية وسهولة الاتصالات مع عملائها. ومن ناحية تأثيراتها غير المباشرة عبر سلسلة القيمة ومواثيق الشرف في تدبير الاحتياجات وبرامج بناء القدرات، تستطيع الشركات مساعدة مورديها وموزعيها على تحسين أداء قوة العمل والحد من الأضرار البيئية.

• حشد التأييد المؤسسي وحوار السياسات والبناء المؤسسي: على الصعيد الداخلي تضع قيادات المسؤولية الاجتماعية للشركات الرؤية وتهيئ المناخ العام الذي يُمكِّن العاملين من تحقيق التوازن المسؤول بين المتطلبات المتعارضة لزيادة

تصاعدت الأدوار السياسية والأمنية والمجتمعية للشركات متعددة الجنسيات في العقد الأخير، فقد شكل معظمها "لوبيات أعمال" بهدف التأثير في الحملات الانتخابية والدعاية العامة وصنع السياسات والمجتمع المدني. وأمنياً أصبحت هذه الشركات تعتمد بشكل كبير على الحماية الذاتية. واجتماعياً باتت أكر ارتباطاً بالمبادئ الطوعية للمسؤولية الاجتماعية.

الأرباح والمبادئ. أما على الصعيد الخارجي، فإن كثيراً من رؤساء مجالس الإدارات وكبار المديرين يقودون مشاركة الأعمال في قضايا التنمية بمفهومها الأوسع، ويؤيدون المبادرات الخاصة بالصناعة وغيرها من المبادرات.

• التأثير على المجتمع المدني: تلعب الشركات الكبرى دوراً مؤثراً في المجتمع المدني من خلال علاقاتها الوثيقة مع بعض الفئات والمكونات المحلية التي يمكن استخدامها في عملية التثقيف السياسي والاقتصادي والمجتمعي، وذلك بنقل السياسة الديمقراطي­ة والقيم الاقتصادية التي تحكم عمل هذه الشركات من موطنها الأم إلى الدول المُستضيفة. وفي هذا الصدد، تعمل الشركات على تأسيس منتديات وجمعيات ذات طابع ثقافي، وتتبنى عمليات تمويل وإصدار الصحف والفضائيات والأنشطة الداعمة لآرائها وتوجهاتها، وتتفاعل هذه الجمعيات مع المؤسسات والأحزاب السياسية والمجتمع المدني من خلال تقديم المنح والهبات والتبرعات. ب- آثار المسؤولية الاجتماعية للشركات: يعتمد التأثير الذي تُحدثه أي مؤسسة أعمال تجارية على المجتمع، على السياسات العامة والممارسات المستخدمة في التحديث المجتمعي، من خلال ما يلي)45:)

• سياسات التوظيف: يتضمن الدور الذي تلعبه الشركات الكبرى في المجتمعات المحلية توظيف الأفراد بصورة مباشرة من خلال تعيين موظفين دائمين أو موظفين بموجب عقود. ولكن ممارسة الشركات الأجنبية في الاعتماد على العمالة الأجنبية بدلاً من العمالة المحلية أو قيامها بالتمييز بين الشريحتين فيما يتعلق بالمعاملة والأجور، يدل على عدم مراعاة المسؤولية الاجتماعية للشركات أو المجتمع الذي تقوم الشركة من خلاله بتحقيق أهدافها.

• تحديد موقع المرافق والإدارة: يؤثر تحديد الموقع اللازم لعمليات الشركة على القدرة التنافسية لهذه المواقع، حيث يتم ضخ استثمارات جديدة وتوفير المرافق اللازمة، إضافة إلى أن هذه المواقع سوف تحصل على جزء مباشر من الاستثمارا­ت المجتمعية للشركة، من واقع المسؤولية الاجتماعية للشركة، وحفاظاً على البيئة المحيطة.

• الاستثمار المالي: يعود قيام الشركات باستثمار الأموال على أساس قصير أو طويل الأمد على المجتمعات المحلية بالعديد من الفوائد. وتشمل وسائل الاستثمار النافع شراء الأسهم في أسواق الأوراق المالية المحلية، والتعامل مع مصارف تنمية المجتمعات المحلية أو الاستثمار في صناديق القروض لتنمية المجتمع المحلي.

• حماية البيئة: من إحدى الوظائف المجتمعية للشركات مساهمتها في خفض انبعاثات الغازات وكمية النفايات، وإعادة تدوير المواد وبرامج إعادة تشجير الغابات.

وقد لجأت العديد من الشركات متعددة الجنسيات، تحت ضغط الانتقادات الشديدة لدَوْرها، إلى دعم برامج المسؤولية الاجتماعية في أفريقيا على سبيل المثال، ففي جمهورية جنوب أفريقيا تدعم هذه الشركات برامج صحية مُوجهة لعلاج مرض نقص المناعة المكتسبة )الإيدز(، وفي غينيا الاستوائية اتجهت العديد من الشركات النفطية إلى الشراكة مع الحكومة لتنفيذ برامج لعلاج الملاريا وتنمية مهارات المعلمين. وفي أنجولا تُمول هذه الشركات برامج تنموية مختلفة، من برامج لإعادة تأهيل المحاربين إلى دعم المشروعات الصغيرة، حتى إن ميزانية هذه البرامج تفوق ميزاينة مؤسسات حكومية أجنبية، مثل برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في أنجولا)46.)

لكن يثير بعض الباحثين إشكاليات تتعلق بالدور الاجتماعي للشركات متعددة الجنسيات تتعلق بأثر برامج المسؤولية الاجتماعية لهذه الشركات على دور الدولة، حيث يثيرون المخاوف من أن يؤدي انغماس هذه الشركات في مجالات التعليم والصحة والبيئة إلى أن تحل محل الدولة في القيام بوظائفها، ما يؤدي إلى إضعاف دور الدولة، وهي أزمة تزداد حساسية في حالة الدول النامية التي تعاني معظم حكوماتها ضعفاً في الأساس)47.)

ويرتبط هذا البعد برؤية الدولة للنشاط الاجتماعي للشركات متعددة الجنسيات وتأثيره على سيادتها، ففي الكونغو الديمقراطي­ة، على سبيل المثال، رفضت الحكومة الكونغولية في عام 2007 برنامجاً لإحدى شركات التعدين، كان مُصمماً لتدريب رجال الشرطة على احترام حقوق الإنسان، وانتقدت القيادات الشرطية دور الشركات الدولية في هذا المجال على اعتبار أن مثل هذه الشركات قد تُدعَم من قبل حركات انفصالية؛ مما ساهم في تأجيج الصراع الأهلي. وفي المقابل؛ رحبت الحكومة في جنوب أفريقيا بالشراكة مع الشركات متعددة الجنسيات في مجال محاربة الجريمة وتحقيق الأمن العام، وذلك عن طريق برامج لتدريب الشرطة المحلية على التدخل السريع ومنع الصراعات)48.)

رابعاً: التحديات ال�شيا�شية والأمنية لعمل ال�شركات الكبرى

أدت الزيادة المضطردة في عدد الشركات متعددة الجنسيات وتعاظم دورها في تعزيز درجات الاندماج والعولمة بين الأطراف المختلفة والمتعددة في الدولة الأم والدول المُضيفة، إلى زيادة المخاطر والتحديات التي قد تواجه عمل هذه الشركات، فعلى الرغم من ضخامة حجم الأعمال التي تقوم بها، وقدرتها على نقل التكنولوجي­ا والانتشار الجغرافي، فإن تعدد الأطراف ذات الصلة أو الأطراف المرتبطة، من شأنه أن يؤدي إلى عدد من التحديات، خاصة في ظل حرص كل طرف على تحقيق المكاسب الخاصة به، وفقاً لرؤيته وتوقعاته واستراتيجي­ة عمله.

وتأتي التحديات الأمنية والسياسة على قائمة هذه المخاطر، والتي ترصدها دراسات عديدة تصدر عن مؤسسات معنية ببحوث ودراسات تدفقات الاستثمار الأجنبي، وتُجري تحديثاتٍ دائمة على خريطة المخاطر السياسية والأمنية في دول العالم المختلفة. 1- التحديات السياسية لعمل الشركات الكبرى: تعمل الشركات الكبرى على ضخ الاستثمارا­ت المباشرة في الأسواق الأكثر

استقراراً، والتي توفر بيئة الأعمال المناسبة، حيث البيئة الاقتصادية أكثر قدرة على التنبؤ، علاوةً على وجود أطر قانونية قوية، وهياكل مؤسسية قادرة على التفاعل الجيد مع هذه الاستثمارا­ت، إضافة إلى الاستقرار السياسي والأمني.

ومما لا شك فيه، فإن رؤية الدول المُضيفة للاستثمارا­ت الأجنبية المباشرة وأثر هذه الاستثمارا­ت على الأوضاع الأمنية والسياسية فيها، كانت عاملاً أساسياً في انخفاض الاستثمارا­ت المباشرة خلال فترة الستينيات والسبعينيا­ت من القرن الماضي، حيث كان التخوف من التبعية الاقتصادية لدول المنشأ، والتدخل السياسي من قبل الشركات الأجنبية في الشؤون السياسية للدول المُضيفة ومنافستها للشركات المحلية، سبباً رئيسياً في انخفاض استثمارات الشركات متعددة الجنسيات خلال هذه الفترة. أ- مخاطر عدم الاستقرار السياسي: يُعد الاستقرار السياسي شرطاً أساسياً لجذب الاستثمار الأجنبي، ففي ظل ارتفاع العوائد المتوقعة من الاستثمار، يبقى عدم الاستقرار السياسي تحدياً كبيراً أمام هذه الاستثمارا­ت، ولذلك تلجأ الشركات الكبرى إلى عملية تقييم المخاطر السياسية ‪Political Risk(‬ ‪Assessment PRA‬ ،) وهي إحدى المنهجيات المهمة في دراسة الأسواق المُحتملة، وتعتمد على تحليل المخاطر السياسية المحتملة وآلية اتخاذ القرار المرتبط بعملية تدويل الشركات)49.) كما تقيس هذه المنهجيات مجموعة من العوامل المرتبطة بالاستقرار السياسي في الدول، والعوامل المؤثرة في كفاءة نظامها السياسي، وتأثير ذلك على قدرة الدول على الالتزام بتعهداتها تجاه الأطراف الدولية)50(، بما في ذلك الشركات متعددة الجنسيات.

وتتعدد منهجيات تقدير المخاطر السياسية للشركات، ومنها منهجية "الدليل الدولي حول مخاطر الدولة" Internatio­nal( ‪Country Risk Guide ICRG‬ )51((، ومنهجية وحدة مجلة الإيكونومي­ست ‪Economist Intelligen­ce Unit EIU(‬ ،) ومنهجية خدمات المخاطر السياسية ‪Political Risk Services(‬ PRS)52((، إضافة إلى منهجية اليورومني Euromoney( ‪.) 53( ) Business Environmen­t Risk Intelligen­ce‬ ووفقاً للمنهجية المستخدمة، تختلف الأوزان النسبية لعناصر تقييم المخاطر السياسية، فوفقاً لمنهجية الدليل الدولي حول مخاطر الدولة" ICRG(،) والتي تتكون عناصره من 12 عنصراً، تأتي عناصر التقييم وفقاً لأهميتها، وتتمثل في: استقرار الحكومة، والظروف الاجتماعية - الاقتصادية، وملف الاستثمار، والصراع الداخلي، والصراع الخارجي، والفساد، وعسكرة السياسة، وعلاقة الدين بالسياسة أو تدخل الدين في السياسة "تديين السياسة، والقانون، والاضطرابا­ت العرقية، والمصداقية الديمقراطي­ة، وأخيراً نوعية البيروقراط­ية.

وعلى سبيل المثال، تزايدت أهمية عمليات تقييم المخاطر السياسية للاستثمارا­ت في القارة الأفريقية تحديداً خلال السنوات العشر الأخيرة، وذلك مع زيادة الاهتمام بتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر. وتعرف دراسة ماشيليا وأنكور ‪Mashelia and Anchor(‬ ) المخاطر السياسية على أنها "أي تغيير في البيئة السياسية نتيجة لقرارات حكومية، أو أحداث قد تؤدي إلى انخفاض قدرة الشركات الأجنبية على تحقيق أهداف واستراتيجي­ة عملها"، وتشير الدراسة إلى أن معظم الأسواق الأفريقية أقل استقراراً سياسياً، كما أن إدراك الشركات لهذه المخاطر يختلف من شركة لأخرى.

وتشير خريطة المخاطر السياسية لعام 2018، والتي يتم إعدادها بالاعتماد على بيانات "بيزنس مونيتور إنترناشيون­ال" BMI(،) وهي أحد المصادر المستقلة للبيانات السياسية والاقتصادي­ة الكلية والمالية وبيانات تحليل مخاطر الصناعات المختلفة؛ إلى عددٍ من النتائج، ومنها)54:) • ارتفاع نسبي في درجات المخاطر السياسية في المدى القصير في عدد من دول أمريكا اللاتينية، منها البرازيل، وكولومبيا، والمكسيك، وباراجواي، وفنزويلا، حيث إن بعض هذه الدول سوف يشهد انتخابات رئاسية وتشريعية في عام 2018. • تشهد القارة الأفريقية تحسناً كبيراً في مجموع تقييم المخاطر السياسية، وذلك على الرغم من الزيادة الحادة في هذه المخاطر في كل من كينيا، والجابون، وكوت ديفوار. • إن الخطر من زيادة السياسيات التجارية الحمائية أصبح يشكل تهديداً كبيراً للشركات الكبرى، خاصة الشركات الأمريكية. • لايزال يشكل عدم وضوح رؤية آليات ومفاوضات خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي خطراً سياسياً بالنسبة إلى القارة الأوروبية، إضافة إلى استمرار عدم الاستقرار السياسي في إسبانيا وإيطاليا مع الانتخابات العامة.

وبشكل عام، يتوقف نجاح تقدير المخاطر السياسية على التحديد الدقيق، وتوقع الخسائر، بهدف التعامل مع المخاطر المحتملة، والحد منها، بما يضمن عدم تأثر الدولة بهذه المخاطر. وقد تطورت آليات "تقييم المخاطر السياسية" من مجرد كونها آلية تحديد للخطر السياسي، وتحليل ربحية الشركة من العمليات في الدول العُرضة للمخاطر، إلى عملية شاملة لإدارة المخاطر، يتم فيها طرح بدائل التعامل لكل خطر متوقع.

أما عن عملية إدارة المخاطر السياسية، فإذا ما خلص التحليل إلى وجود عدد من المخاطر المُحتملة، فقد تقرر الشركة متعددة الجنسية ألا توجه الاستثمارا­ت إلى هذه

الدولة أو تنسحب تماماً. وعلى النقيض من ذلك، ووفقاً لقدرة الشركة على التعامل مع المخاطر، فقد تلجأ بعض الشركات إلى تقبل الخطر، بل وتستخدم قوتها التفاوضية في الحصول على مزايا أكبر من الشركات الأخرى، وقد تكون القوة التفاوضية هي توفير الشركة لإمدادات أو تكنولوجيا من الدولة الأم مباشرة، أو إنشاء شركات مشتركة مع الشركات المحلية، أو الاقتراض من المؤسسات المالية المحلية)55.) ب- المخاطر السياسية الكلية: تشمل المخاطر السياسية التي تُواجهها الشركات الكبرى، مخاطر سياسية كلية ومخاطر سياسية جزئية. ويُشار إلى المخاطر الكلية على أنها "المخاطر التي تواجه جميع الشركات متعددة الجنسية أثناء ممارسة نشاطها في دول مُضيفة". ومن الأمثلة على ذلك الثورات، والحروب الأهلية، والاضطرابا­ت الكبيرة على مستوى الدولة)56.)

كما أن تغير التوجهات السياسية والتدابير الاقتصادية المرتبطة بها يمثلان عاملاً سلبياً على أداء الشركات متعددة الجنسيات، فعلى سبيل المثال، ترجع أسباب الأزمة المالية العالمية في عام 2008 إلى انحسار القيود والضوابط التنظيمية وعدم تقييد الممارسات الرأسمالية، ولكن الأزمة دفعت الحكومات فيما بعد إلى إنشاء وكالات تنظيمية جديدة، وتعزيز صلاحيات الهيئات القائمة، بهدف الحد من المخاطر وحماية المستهلكين والعمال والبيئة، وأصبح يُنظر إلى التجارة الدولية والهجرة على أنها تشكل خطورة على العمال وأصحاب المهارات المنخفضة والمتوسطة ضمن الاقتصادات المتقدمة) 57 .)

ومن الدلائل الأبرز على ذلك المزاج السياسي الجديد الذي تشكل دولياً، وتمثلت نتائجه في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وتصاعد شعبية الأحزاب القومية في أوروبا، فقد تسبب ذلك في انعكاسات سلبية على أداء الشركات متعددة الجنسيات، حيث تنامت نزعات الحمائية التجارية، كما هي الحال في سياسات ترامب الاقتصادية القائمة على مبدأ القومية، والخطوة التي قامت بها رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي بالدعوة إلى عودة ما يسمى ب "السياسة الصناعية"، التي تستفيد منها الشركات المحلية على حساب الشركات الأجنبية. وتبرز في هذا الإطار أيضاً المشكلات التي تعانيها الشركات القائمة على التكنولوجي­ا الرقمية، كأوبر وإير بي إن بي، حيث تم تقويض نماذج أعمالها في العديد من البلدان، نتيجة اللوائح والقوانين التنظيمية التي تحمي الموردين المحليين من تأثير المنافسة معها)58.)

ويُمكن في هذا السياق التطرق إلى المخاطر التي تعانيها جميع الشركات الكبرى أثناء وجودها في إيران، لاسيما خلال الأعوام الأخيرة، في ظل حالة الشد والجذب المسيطرة على العلاقات الإيرانية - الأمريكية، والتي تحولت إلى علاقات متأزمة بشكل مزمن، على وقع الملف النووي الإيراني المثير للجدل، والذي قام على أثره المجتمع الدولي بفرض عقوبات دولية على إيران خلال الفترة )2010 – 2015،) وهو ما اضطر الشركات الكبرى العاملة في إيران إلى الخروج وتصفية أصولها هناك. ولكن شرعت هذه الشركات في العودة مجدداً إلى إيران مع رفع العقوبات بعد بداية تنفيذ الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة )5+1(، بداية من عام 2016، إلا أن الانسحاب الأمريكي من ذلك الاتفاق في مايو 2018، أعاد الأمور إلى المربع صفر، ودفع العديد من الشركات الكبرى إلى الخروج مرة أخرى من إيران، وعلى رأسها شركات "توتال" و"بيجو" و"رينو" الفرنسية، وشركات "جنرال إلكتريك" و"هانيويل" و"بوينغ" و"دوفر كوربريشن" الأمريكية، وشركة "سيمنز" وشركة دايملر" الألمانيتي­ن، وشركة ميرسك سيلاند" الدنماركية وشركة "لوك أويل" الروسية، وشركة "ريلاينس إندستريز" الهندية)59.) ج- المخاطر السياسية الجزئية: المخاطر السياسية الجزئية هي "تلك التي تواجه شركة ما، أو مجموعة من الشركات العاملة في قطاع ما، أثناء وجودها في الدولة المُضيفة". وقد يكون الخطر السياسي في شكل تغيير مفاجئ في العقود بين الدولة والشركة متعددة الجنسية، أو أن تقوم الدولة المُضيفة بتغيير القوانين أو المعايير الحاكمة للاستثمار من دون الرجوع إلى الشركات متعددة الجنسية أولاً، أو المعاملة الضريبية التمييزية ضد صناعة ما، أو التقييد المؤقت لاستيراد المواد اللازمة لصناعة معينة، بما يؤثر على ربحية هذه الشركات وخطط عملها طويلة الأجل. كما يشمل هذا الصنف من المخاطر أيضاً عمليات التأميم التي قد تقوم بها حكومة دولة ما ضد شركة محددة أو مجموعة من الشركات العاملة في النشاط نفسه) 60 .)

ومن الأمثلة على تلك المخاطر عمليات التأميم التي قد تقوم بها الحكومات ضد بعض الشركات، كما حدث في عام 2007 في فنزويلا، عندما قام الرئيس الأسبق، هوجو تشافيز، بتأميم أصول شركة "كونوكو فيليبس" النفطية الأمريكية، وتحويل مشروعاتها إلى سيطرة شركة "بي. دي.في.إس.إيه" النفطية الفنزويلية المملوكة للدولة)61(، وعلى الرغم من صدور حكم يُلزِم الشركة الفنزويلية بتعويض الشركة الأمريكية عن خسائرها جراء عملية التأميم، فإنه لم يكن كافياً بأي حال عن تعويض الشركة ما تكبدته من خسائر جراء تأميم أصولها.

وعلى النقيض مما سبق، سواءً فيما يتعلق بالمخاطر الكلية أو الجزئية، يمكن التأكيد على أنه ليست جميع العوامل السياسية ذات تأثير سلبي على دور الشركات الكبرى، بل قد يكون للتغييرات والتطورات السياسية تأثيراً إيجابياً على تلك الشركات. ويمكن في هذا السياق التطرق إلى أحد أهم التطورات السياسية التي شهدها الربع الأخير من القرن العشرين، والمتعلق بسقوط جدار برلين في عام 1989، حيث كان هذا الحدث إيذاناً ببزوغ حقبة جديدة من العولمة، ساعدت على تنقل الأفراد ورؤوس الأموال والسلع والمنتجات والأفكار في مختلف أنحاء العالم بحرية غير مسبوقة. وقد لعبت الشركات متعددة الجنسيات دوراً محورياً في هذا الصدد، حيث استطاعت تقليص تكاليفها عن طريق نقل

أعمالها إلى بلدان ذات تكاليف إنتاج منخفضة، كما تمكنت تلك الشركات من بيع منتجاتها في بلدان كان مواطنوها حتى فترة ليست ببعيدة لا يحصلون على السلع والمنتجات عالية الجودة والقيمة)62.) 2- التحديات الأمنية لعمل الشركات الكبرى: تتعدد أشكال المخاطر الأمنية التي تمثل تهديداً ليس للشركات متعددة الجنسيات فحسب، ولكن لجميع أشكال الاستثمار الأجنبي المباشر، بما في ذلك الاستثمارا­ت التي تنفذها حكومات دول ما في دول أخرى، سواءً من خلال المؤسسات الرسمية أو من خلال مؤسسات اقتصادية مملوكة للدولة. وعلى الرغم من أن مشكلة التهديدات الأمنية ليست بالجديدة على الشركات متعددة الجنسيات، أو على الاستثمار الأجنبي المباشرة، فإن العقود الأخيرة شهدت اتساعاً لتلك المشكلة وزيادة تعقدياتها. ومع أن هذه التهديدات باتت ذات طابع دولي، فإن خطورتها تزداد حدة في مناطق محددة دون غيرها.

وتتعدد أشكال المخاطر الأمنية المهددة للشركات متعددة الجنسيات، سواءً من حيث طبيعة ومصدر تلك المخاطر، أو من حيث عمقها وطبيعة تأثيرها على أنشطة تلك الشركات، وذلك على النحو التالي: أ- العنف المُوَّجه ضد الشركات الأجنبية: يُعد العنف أحد أهم التحديات الأمنية التي تواجه عمل الشركات متعددة الجنسيات، وبالتالي على إدارة المخاطر في هذه الشركات تحديد المخاطر المُحتملة للعنف ضد العاملين؛ فعلى سبيل المثال، كان هناك عدد من الهجمات والعنف المنظم من قبل الجماعات السياسية ضد العاملين في شركات النفط في الدول التي تشهد عدم الاستقرار السياسي؛ وهو ما فرض على هذه الشركات ضرورة توفير الحماية من خلال الترتيب مع الشركات الأمنية الكبرى.

وتشير البيانات الصادرة عن ‪Political Risk(‬ Insurance،) إلى أن الأفراد والمؤسسات يعانون سنوياً أكثر من 1000 حادثة أو هجوم إرهابي، وأن 75% من هذه الهجمات تتسبب على الأقل في مقتل أو إصابة فرد واحد على الأقل)63.) ب- مخاطر الاحتجاجات والتظاهرات ضد الشركات الكبرى: تمثل الاحتجاجات السياسية ضد سياسات عمل الشركات الكبرى من قبل المجموعات المحلية تحدياً سياسياً لعدد من الصناعات، وهو ما يؤثر على بيئة عمل الشركة، وزيادة حدة العنف ضد العاملين في هذه الشركات، كما أن سياسات المقاطعة المحلية قد تؤثر سلباً على هذه الشركات)64.) ج- النزاعات المتعلقة بمياه الأنهار والمياه الجوفية: بعد أن أصبحت النزاعات المتعلقة بالمياه أكثر تعقيداً، واختلفت أشكالها، في العديد من المناطق، لاسيما في أفريقيا، فإنها لم تعد قاصرة على الدول المتشاطئة على نهر واحد أو الدول التي تشترك في استخدام مخزونات المياه الجوفية وحسب، بل امتدت لتشمل الأفراد والكيانات القانونية، وظهرت الشركات متعددة الجنسيات بوصفها طرفاً في مثل هذه النزاعات، لاسيما فيما يتعلق بقضايا تسعير المياه)65(؛ وهو ما يُعرِّض تلك الشركات إلى الصدام مع بعض الأطراف أو الكيانات الوطنية في مناطق النزاع، ومن ثم تعرضها إلى الخسائر على المدى البعيد. د- المخاطر الأمنية في مناطق النزاعات المسلحة: يمكن في هذا الإطار الإشارة إلى أن تراجع مستويات الاستقرار الأمني وتزايد رقعة النزاعات في منطقة الشرق الأوسط على مدار العقد الماضي، تسبَّبا في تراجع مستوى أنشطة الشركات متعددة الجنسيات في المنطقة، وهو ما يبدو من خلال تراجع صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى المنطقة من نحو 126.5 مليار دولار في عام 2007 إلى 35.9 مليار دولار في عام 2017، وفق بيانات البنك الدولي)66.) ه- التهديدات الأمنية غير التقليدية: تمثل الكوارث الطبيعية، على سبيل المثال، أحد التحديات التي تواجه الشركات متعددة الجنسيات من عدة جوانب، إذ تمنعها من الوجود والعمل في المناطق التي تشهد تكراراً لحدوث تلك الكوارث، كالأعاصير والسيول الجارفة والزلازل والبراكين، وبالتالي تحرمها من الوصول إلى أسواق تلك المناطق بحرية، وتمنعها كذلك من الاستفادة من الموارد الطبيعية المتوافر في تلك المناطق. كما تواجه بعض الشركات بدورها انتقادات قوية بسبب أن أنشطتها تساهم بشكل كبير في الإضرار بالبيئة، مثل الشركات العاملة في مجال تصدير الأخشاب، والتي تقوم بقطع الأشجار، ومن ثم زيادة معدلات التصحر، وتعميق أزمة التغير المناخي والاحتباس الحراري)67.)

وقد أدت هذه الأنشطة خلال العقود الماضية إلى تقليص مساحات الغابات الاستوائية وغابات الأمازون وكذلك الغابات الواقعة في شمال أوروبا والمنطقة الاسكندناف­ية وروسيا، الأمر الذي تسبب في تراجع المساحات الخضراء بتلك الغابات بنسب كبيرة)68(. وبطبيعة الحال فإن هذه الأنشطة تضع تلك الشركات في موضع الانتقادات من قبل المؤسسات الدولية المختصة بالبيئة، التي تطالب بدورها تلك الشركات بتحمل مسؤولياتها في الاضطلاع بنصيب ملائم من نفقات صيانة البيئة والمحافظة على الموارد الطبيعية، ومواجهة تداعيات الكوارث الطبيعية الناتجة عن ظاهرة التغير المناخي، كالسيول والفيضانات وغيرها. و- تصاعد الطلب والإنفاق على الحماية الخاصة: دفع تصاعد المخاطر الأمنية التي تهدد أنشطة الشركات متعددة الجنسيات في مناطق النزاعات والحروب حول العالم، بهذه الشركات إلى إنشاء كيانات تابعة لها تختص بحماية أنشطتها وأصولها الاستثماري­ة، وتأسيس شركات ذات طابع دولي أيضاً تختص

تتأثر أعمال الشركات الكبرى بطبيعة وأنماط التفاعلات السائدة على الساحة العالمية، وأحياناً قد لا تمتلك، لأسباب متباينة، سوى الامتثال طوعاً أو قسراً، للانسحاب من مناطق محددة أو من مشروعات معينة، مثل حالة انسحاب وخروج أكر من 20 شركة متعددة الجنسيات من السوق الإيراني عقب فرض إدارة "دونالد ترامب" عقوبات جديدة على إيران في مايو .2018

بتقديم الخدمات الأمنية، التي تشمل توفير الحمايات للشخصيات والأبنية والمواقع بأنواعها كافة، سواء السكنية أو التجارية أو حتى العسكرية وغيرها من الأماكن. ومن ضمن خدماتها أيضاً تشغيل المنظومات الدفاعية أو الهجومية، فضلاً عن احتجاز المسجونين والتحقيق معهم، وتقديم المشورة للقوات المحلية وأفراد الأمن وتدريبهم. كما تقوم هذه الشركات أيضاً بتقديم خدماتها الأمنية للمنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة) 69 .)

وقد تزايد الطلب على الشركات العسكرية والأمنية الخاصة منذ نهاية الحرب الباردة، حتى أنها تحولت إلى نشاط اقتصادي كبير يقدم طائفة واسعة من الخدمات، إذ ينتشر حول العالم عددٌ كبيرٌ من الشركات الأمنية العسكرية العملاقة؛ فعلى سبيل المثال، تنشط الشركة البريطانية G4S() في 110 دول، وتُوَظِّف أكثر من 570 ألف موظف، وتمارس الشركة السويسرية الأمنية "سكيورتكس" نشاطها في 45 دولة، وتُوَظِّف حوالي 250 ألف موظف، وكذلك الشركة الفرنسية "سكوربكس" التي تمتلك فروعاً في آسيا وأفريقيا، فيما تعد شركة "داينكورب" أكبر الشركات الأمنية الخاصة في العالم، وتوظف 17 ألف شخص ولها أعمال تتجاوز ال 200 مليار دولار، وشركة "ميليتاري بروفشيونال رسورسيز"، وشركة "غلوبال ريسك إنترناشيون­ال البريطانية"، وشركة "غستر باتلز"، وشركة "إريني"، وشركة "أو بي إس" الفرنسية، وشركة "ساندلاين"، وشركة "بنيتل إنترناشيون­ال سكيوريتي" التي لها أربعة فروع في إسرائيل، وفرنسا، والولايات المتحدة، وإيطاليا، وشركة "لفدان")70.)

خام�ش�اً: التحدي�ات الجتماعي�ة والثقافي�ة لعم�ل ال�ش�ركات الكبرى

تتعدد التحديات التي تُواجه الشركات الكبرى نتيجة لطبيعة وخصائص هذه الشركات، والتي تتسم بالتوسع والانتشار الجغرافي، مما يؤدي لتعدد الثقافات في بيئة العمل، إضافة إلى القيود التي تفرضها الدول المُضيفة فيما يتعلق بسياسات حماية البيئة وبالمسؤولي­ة الاجتماعية التي تواجه عمل الشركات في المجتمعات المحلية. 1- التحديات الاجتماعية: يضع الاعتماد المتزايد على الشركات المحلية والأجنبية على حدٍ سواء، في تحقيق التنمية المستدامة، العديدَ من التحديات على مستوى الأبعاد الثلاثة الرئيسية، وهي: الحوكمة، والحفاظ على البيئة، والبعد الاجتماعي، وهي المكونات الرئيسية لما أصبح يُعرف باسم "العوامل الاجتماعية والبيئة والحوكمة ‪ESG Factors(‬ ،) والتي بدأ الاهتمام يتزايد بها على مستوى الشركات المُقيَدة في البورصات العالمية، التي تقيس حالياً أثر الشركات على الأبعاد الثلاثة الرئيسية للاستدامة.

وقد دخلت العديد من الشركات متعددة الجنسية في إطار المسؤولية الاجتماعية في برامج تساعد على توفير التنمية الاجتماعية التي تجد الحكومات صعوبةً في توفيرها، حيث تقوم الحكومات بوضع برامج تنموية لمعالجة الافتقار إلى الحاجات الأساسية مثل التعليم والخدمات الصحية، والمياه الصالحة للشرب، وارتفاع معدل الفقر.

وكثيراً ما تضطلع الشركات المتعددة الجنسيات في البلدان النامية بالعمل مع الحكومات من أجل ذلك بدرجات متفاوتة، في إطار عملياتها التجارية المحلية في المجالات الخاصة بالمشاركة في القضايا الاجتماعية وحماية البيئة والأعمال الخيرية، وإقامة شراكات مع الحكومات من خلال الاستثمار في مؤسسات الأعمال التجارية المحلية)71(، وهو ما يتطلب من الشركات المشاركة في محادثات بناء السياسة العامة. وهنا تأتي التحديات المتعلقة بآليات مشاركة الشركات في صياغة السياسات العامة في المجتمعات التي تعمل بها.

وبالإضافة إلى ذلك تأتي التحديات المتعلقة بقضايا حقوق الإنسان، فقد ظهرت هذه القضية مؤخراً كمشكلات تواجه دور الشركات الكبرى على المستوى العالمي، حيث تُثار الهواجس حول بعض ممارساتها التي تؤثر بالسلب على قضايا حقوق الإنسان في بعض الدول. وعلى الرغم من أن هناك شركات عديدة تتم إدارتها بشكل يراعي سلامة ومصالح سكان المجتمعات التي تعمل بها، فإن هناك مؤسسات أخرى تضر ممارساتها بالمجتمعات السكانية من حولها، وبالعاملين فيها. ومازالت شركات منها تتعامل مع مشكلات حقوق الإنسان بشكل عابر، لاسيما مع غياب الأنظمة الإدارية الملائمة، وعدم توافر الصفة الإلزامية لقواعد حقوق الإنسان من جانب حكومات بعض الدول. وقد ذكرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن شركة "نيفسون ريسورسز" الكندية، ربما تكون متواطئة في استخدام العمل الجبري – وهو محظور حظراً مطلقاً في القانون الدولي – من خلال مقاول محلي في إريتريا)72.)

من جانب آخر، يزداد البعد الخاص بالبيئة التي تعمل فيها الشركات متعددة الجنسيات، في ظل تصاعد الاهتمام العالمي بالتغير المناخي. وقد كان لتفعيل أهداف التنمية المُستدامة 2030، والتي وُضعت في سبتمبر 2015، دور رئيسي في تحفيز الشركات متعددة الجنسيات على تحديد الآليات التي يمكن من خلالها المساهمة في تحقيق هذه الأهداف، وهو ما دفع إلى ارتفاع ما يُعرف باسم استثمارات المسؤولية الاجتماعية ‪)Social Responsibl­e Investment SRI(‬ والاستثمار­ات الخضراء ‪Green Finance(‬ ،) في أسواق المال العالمية، لمستويات جديدة غير مسبوقة، حيث تشير بيانات "مبادرة السندات الخضراء" إلى أن قيمة إصدارات السندات الخضراء لعام 2017 بلغت 155.5 مليار دولار، مقارنة بأقل من 90 مليار دولار في عام 2016، وأقل من 10 مليارات دولار فقط في عام 73( 2012.)

وقد أُدرِجَت المشكلات الاجتماعية والبيئية المتعلقة بأنشطة الشركات متعددة الجنسيات لأكثر من عقد في جدول أعمال رجال الأعمال، وحظيت باهتمام العالم كله أثناء قمة الأرض )ريو دي جانيرو 1992( وقمة التنمية الاجتماعية )كوبنهاجن ‪.) 74() 1995‬

وقد أصبح التحدي الرئيسي أما الشركات الكبرى فيما يتعلق بمسؤوليتها الاجتماعية هو الإبلاغ عن ممارساتها فيما يتعلق بالأبعاد الاجتماعية لأدائها، حيث يجب أن تُبلغ الشركات عن المسؤولية الاجتماعية من خلال أطر العمل الدولية التي وضعت تصورها في هذه القضية، مثل "الاتفاق العالمي للأمم المتحدة"، و"إرشادات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"، ومبادرات الاستثمار المسؤول التي تتباها بعض المؤسسات الدولية.

وفيما يلي عرض موجز لأهم المبادرات والأطر الدولية في مجال الإبلاغ عن المسؤولية الاجتماعية للشركات، ومنها: أ- الاتفاق العالمي للأمم المتحدة ‪UN Global Compact‬ : مبادرة سياسات استراتيجية لمؤسسات الأعمال التجارية الملتزمة بمواءمة أعمالها وخططها الشاملة مع المبادئ العالمية العشرة المُتفق عليها في مجالات حقوق الإنسان والعمل والبيئة ومكافحة الفساد. وبذلك تساعد المؤسسات التجارية، بوصفها دافعاً رئيسياً في العولمة، في ضمان تطور الأسواق والتجارة والتكنولوج­يا والتمويل المالي، بما يعود بالنفع على الاقتصادات والمجتمعات. وتضمنت المبادئ الأساسية العشرة للاتفاقية العالمية للأمم المتحدة كلاً مما يلي)75:) • مبادئ حقوق الإنسان: - المبدأ 1: يتعين على المؤسسات التجارية دعم حماية حقوق الإنسان المعلنة دولياً واحترامها. - المبدأ 2: يتعين عليها التأكد من أنها ليست ضالعة في انتهاكات حقوق الإنسان. • معايير العمل:

- المبدأ 3: يتعين على المؤسسات التجارية احترام حرية تكوين الجمعيات والاعتراف الفعلي بالحق في التفاوض الجماعي. - المبدأ 4: يتعين عليها القضاء على جميع أشكال السخرة والعمل الجبري. - المبدأ 5: يتعين عليها الإلغاء الفعلي لعمل الأطفال. - المبدأ 6: يتعين عليها القضاء على التمييز في مجال الاستخدام والمهن. • مبادئ الحفاظ على البيئة: - المبدأ 7: يتعين على المؤسسات التجارية التشجيع على اتباع نهج احترازي إزاء جميع التحديات البيئية. - المبدأ 8: يتعين عليها الاضطلاع بمبادرات لتوسيع نطاق المسؤولية عن البيئة. - المبدأ 9: يتعين عليها التشجيع على تطوير التكنولوجي­ات غير الضارة بالبيئة ونشرها. • مكافحة الفساد - المبدأ 10: يتعين على المؤسسات التجارية مكافحة الفساد بكل أشكاله، بما فيها الابتزاز والرشوة. ب- إرشادات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للشركات متعددة الجنسيات: تمثل هذه الإرشادات)76(، التي صدرت في عام 2001، أكثر أدوات المسؤولية الاجتماعية لرأس المال شمولاً، وتتمثل في التعليمات التي توجهها الحكومات إلى الشركات متعددة الجنسيات، والتي تعمل في الدول التي التزمت بهذه التوصيات. وتهدف هذه التوجيهات إلى التأكد من أن هذه الشركات تحترم السياسات والنظم الاجتماعية السائدة في البلدان التي تعمل بها؛ وذلك لتشجيع المساهمة الإيجابية للقطاع الخاص في النشاط الاقتصادي والاجتماعي والبيئي من أجل تحقيق التنمية المُستدامة.

وعلى الرغم من أن هذه التوجيهات غير مُلزِمة، إلا أنها تفيد بدرجة كبيرة في توفير الثقة بين الشركات عابرة القارات من ناحية والدول التي تعمل بها والعاملين فيها من ناحية أخرى. وتغطي هذه التوجيهات حقوق الإنسان والإفصاح عن المعلومات ومكافحة الفساد والضرائب وعلاقات العمل والبيئة وحماية المستهلك.

وتجدر الإشارة إلى أن الأطر الدولية للمسؤولية الاجتماعية للشركات لاتزال غير إلزامية، فالشركات تختار طواعية الالتزام بهذه المبادرات والأطر، مقابل الإبلاغ المستمر عن تعهداتها بهذه المبادرات، وهو ما يلقي بالمسؤولية على هذه الشركات للإبلاغ من خلال تقارير المتابعة المستمرة. 2- التحديات الثقافية: يفرض الانتشار الجغرافي للشركات متعددة الجنسيات عدداً من التحديات الثقافية، تأخذ بعدين أساسيين، أولهما يتعلق بالمشكلات التي تقع فيها الشركات بسبب عدم إلمامها بشكل جيد بالأبعاد الثقافية والعادات والتقاليد الخاصة بالمجتمعات التي تعمل بها؛ الأمر الذي يقلص قدرتها في التعرف على تفضيلات عملائها. أما البعد الثاني فيتعلق بالمشكلات التي تنشأ نتيجة اختلاف ثقافات وبيئة العمل وعدم التجانس بين فروع الشركة في الدول التي تعمل بها وبين الفرع في الدولة الأم.

وفي ظل حرص الشركات على التواصل الفعال بين الأطراف المختلفة، فإن هذا التنوع الثقافي يتسبب فيما يُعرف باسم "فجوة التواصل" ‪Communicat­ion Gap(‬ ،) الناتجة عن اختلاف ثقافة العمل والتعليم في الدول المختلفة، علاوة على اختلافات البيئة الثقافية للفرد نفسه، حيث يعمل هذا التنوع على صراع بين الأطراف المختلفة Friction( ‪Between Parties‬ ) في الشركات متعددة الجنسيات) .)

ويؤدي اختلاف الأطر الثقافية للدول التي تعمل بها الشركات الكبرى إلى التأثير على أدائها، بمعنى آخر يُمكن

للثقافة الوطنية أن تؤثر على الإدارة والهيكل التنظيمي للشركات الأجنبية، فعلى سبيل المثال، يختلف أسلوب الإدارة في الدول الغربية عنه في الدول الشرقية، فأسلوب الإدارة الألمانية الذي يتسم بالجدية والوضوح في آن معاً، يختلف مثلاً عن أسلوب الإدارة اليابانية الذي يتسم بشكل أكبر بالتسلسل الهرمي ‪(High Hierarchic­al(‬ 78(.)

كما تشير دراسات أخرى إلى أن الشركات الكبرى تواجه تحديات التواصل في ظل تعدد الثقافات بين مديري الفروع من دولة إلى أخرى، حيث قارنت إحدى الدراسات بين الاختلافات الإدارية بين الصين وأستراليا، ووجدت أن الثقافة ذات تأثير كبير في أسلوب الإدارة في ظل اختلاف الثقافة بين الشركة والدولة المُضيفة للاستثمارا­ت.

وينتج عن اختلاف الخصائص الثقافية تنوع كبير في التفكير، والفهم، والتواصل، وهو ما قد يشكل عائقاً أمام تحقيق الشركة أهدافها، فمع زيادة هذه الاختلافات من المُتوقع أن ترتفع صعوبات التواصل وعدم التفاهم في المؤسسة، مما يسبب "فجوة التواصل". ووفقاً لمعيار قياس درجة التنوع الثقافي بين الدول، يأخذ الاختلاف والتنوع الثقافي بين الدول المُضيفة والدولة أو الدول الأم، أربعة أبعاد رئيسية تشكل المجموع المركب للدولة، وهي)79:) - الفردية مقابل التعاونية. - القوة الكبيرة مقابل القوة الصغيرة. - تجنب عدم اليقين بشكل كبير مقابل التجنب بشكل ضعيف. - الذكورة مقابل الأنوثة.

وعلى النقيض من الآراء التي تتبنى وجهة نظر التنوع الثقافي كسبب لفجوة التواصل بين الشركة وفروعها، فإن هناك من يرى أن هذا التنوع في الشركة الواحدة يعد أحد الأصول غير الملموسة والمهمة، لأن كل ثقافة ستكون لها مدخلات مختلفة عن الثقافات الأخرى، بشرط أن تساعد هذه الاختلافات في تحقيق أهداف الشركة.

أخيراً، يمكن القول إن الشركات الكبرى تواجه حالياً مجموعة من التعقيدات والتحديات غير الاقتصادية التي قد تؤثر على أنشطتها التجارية والاقتصادي­ة، فقد أضحت فاعلاً عالمياً يؤثر ويتأثر، ويشكل ويتشكل، ويتغير ويتكيف، وفق المتغيرات الداخلية في بعض الدول، ووفق الظروف والتحولات العالمية سياسياً وأمنياً، ووفق المسؤوليات الجديدة المُلقاة على عاتق هذه الشركات فيما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية والالتزام بالمبادرات الدولية المختلفة للحوكمة والمساهمة في التنمية المُستدامة والحفاظ على البيئة.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates