Trending Events

كيف تؤثر بكين على أوضاع القرن الأفريقي؟

أ.د. ديفيد ستيان

- أ.د. ديفيد ستيان أستاذ العلاقات الدولية، كلية بيربك، جامعة لندن

في ضوء تصاعد التنافس الدولي بين الولايات المتحدة والصين، يثير الوجود العسكري والاقتصادي لبكين في القرن الأفريقي التساؤل حول تأثير ذلك على الاستقرار هناك، خاصة مع تعبير واشنطن صراحة عن المخاوف من هذا الوجود.

أصبحت الصين طرفاً دولياً مؤثراً على مدار السنوات الخمس الماضية في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وذلك في إطار استراتيجيت­ها الدولية "مبادرة الحزام والطريق"، والتي تهدف إلى تعزيز نفوذها الاقتصادي، بالتوازي مع تعزيز قوتها العسكرية على امتداد الممرات البحرية الرئيسية التي تربط آسيا وأوروبا، والتي تتلاقى عند مضيق باب المندب، وتربط آسيا وأفريقيا وأوروبا عبر قناة السويس.

تمدد بكين الع�سكري

سارت الصين على خطى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، وافتتحت أول قاعدة عسكرية خارج حدودها في جيبوتي في أغسطس 2017، والذي جاء بعدما نجحت البحرية الصينية في التمدد التدريجي في منطقة المحيط الهندي وخليج عدن تحت مظلة المشاركة في أنشطة مكافحة القرصنة، والذي بدأ في عام 2008، وامتد على مدار عقد من الزمان.

واختارت الصين جيبوتي لكي تكون مقراً لأول قاعدة بحرية صينية دائمة لعدة أسباب يتمثل أهمها في التالي: أولها: الموقع الجيواسترا­تيجي لجيبوتي، إذ تطل على خليج عدن، والذي يشرف ليس فقط على أحد أهم الممرات التجارية، التي تنقل التجارة الآسيوية ونفط الشرق الأوسط لأوروبا فحسب، وإنما هو أيضاً مركز اتصال حيوي، يقع على مفترق طرق كابلات الألياف البصرية الأفريقية والآسيوية الرئيسية.

وثانيها: أهمية هذه القاعدة في تقديم الدعم الفني لعمليات مكافحة القرصنة، وتوفير الحماية اللازمة للسفن البحرية والتجارية الصينية من تعرضها للقرصنة. وثالها: حماية العدد الكبير من المواطنين الصينيين العاملين في أفريقيا والشرق الأوسط، فخلال الحرب الأهلية الليبية في عام 2011، وكذلك خلال حرب اليمن في عام 2015، اضطرت الحكومة الصينية إلى إجلاء مواطنيها من هاتين الدولتين بسرعة، واعتمدت في ذلك على سفن دوريات مكافحة القرصنة الموجودة بالقرب من منطقة القرن الأفريقي.

ورابعها: الوجود بالقرب من مناطق انتشار قواتها ضمن قوات حفظ السلام الأممية، إذ تساهم الصين في قوات حفظ السلام التي تنتشر في عدد من الدول الأفريقية. ومن الواضح أن قاعدة جيبوتي تعزز من قدرة الصين على إبراز قوتها العسكرية في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وعلى نشر قواتها سريعاً في دول أخرى في أفريقيا، وهو الدور نفسه الذي لعبته جيبوتي منذ زمن طويل بالنسبة للجيشين الفرنسي والأمريكي، حيث ربطت بين مواقعهما وقواتهما العسكرية في وسط أفريقيا والمحيط الهندي والشرق الأوسط.

ولم تغفل الصين الترويج لدورها الخارجي داخلياً، وإيجاد قبول شعبي له. فقد أنتجت البحرية الصينية فيلماً بعنوان "عملية البحر الأحمر" في عام 2018، والذي حقق أعلى نسبة أرباح ومشاهدة في الصين، وذلك على الرغم من أن

قصة الفيلم غير حقيقية، حيث تدور أحداثه حول عملية إنقاذ رعايا صينيين من اليمن في عام 2015، على يد القوات الخاصة الصينية. ويمجد الفيلم في براعة العسكرية الصينية وامتداد نفوذها البحري إلى الشرق الأوسط.

وجود اقت�سادي موازٍ

يعد أحد العوامل التي عززت وجود بكين في المنطقة، كما سلفت الإشارة، هو قيامها باستثمارات ضخمة، خاصة في البنية التحتية.

ففي قطاع العقارات، قامت بكين بالتبرع بإنشاء مقر الاتحاد الأفريقي في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا. وفي البنية التحتية، قامت ببناء السكك الحديدية الخفيفة في أديس أبابا، كما قامت ببناء خط سكة حديد بطول 750 كيلومتراً، والذي يربط العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بميناء جيبوتي. واستطاع هذا الخط، عند تشغيله في عام 2017 اختصار زمن الرحلة من أديس أبابا إلى ساحل جيبوتي للركاب والحاويات إلى 8 ساعات فقط.

وصار بإمكان الشركات الصينية التي تستثمر في المناطق الصناعية الجديدة في إثيوبيا الآن استيراد المواد الخام وتصدير السلع المصنّعة إلى الأسواق العالمية عبر موانئ جيبوتي. وقامت شركة التجارة الصينية– وهي شركة شبه حكومية مقرها هونج كونج– ببناء ميناء جيبوتي الجديد في دوراليه وإدارته والاستحواذ على جزء من ملكيته. وبلغت تكلفة هذا الميناء متعدد الاستخداما­ت حوالي 590 مليون دولار.

وفي ديسمبر 2017 وقّعت شركات صينية عقوداً لمصنع للغاز الطبيعي السائل وخط أنابيب بطول 650 كيلومتراً لضخ الغاز من المنشآت الهيدروكرب­ونية الصينية لداخل إقليم أوغادين في إثيوبيا. وتكشف هذه المشروعات عن حجم التغلغل الاقتصادي الكبير للصين في المنطقة.

وفي يوليو 2018، افتتح مسؤولون صينيون ورؤساء كل من إثيوبيا ورواندا والسودان والصومال منطقة جيبوتي للتجارة الحرة الدولية بجوار ميناء دوراليه الجديد والقاعدة البحرية الصينية. وهذه المنطقة تديرها شركة التجارة الصينية أيضاً، وهي كلها مؤشرات تكشف عن كثافة الاستثمارا­ت الصينية في دول القرن الأفريقي، فضلاً عن مركزية جيبوتي في خطط الصين الاستثماري­ة في منطقة القرن الأفريقي.

هواج�ض اأمريكية مت�ساعدة

تقع القاعدة العسكرية الدائمة الوحيدة التابعة للولايات المتحدة في أفريقيا على بعد لا يتجاوز 15 كم من قاعدة دوراليه التابعة للبحرية الصينية. وفي مارس 2018، أعرب ريكس تيلرسون، في آخر زيارة له لجيبوتي، بصفته وزيراً للخارجية الأمريكية، عن عدم ارتياحه للطموحات البحرية الصينية في القارة الأفريقية.

وتمثلت نقطة الاحتكاك العلنية الوحيدة في مايو 2018 عندما اتهم طيارون أمريكيون الصينيين بمحاولة إصابة الطيارين الأمريكيين بالعمى بواسطة أشعة ليزر عسكري موجهة إليهم من القاعدة البحرية الصينية، وإن نفت بكين هذا الاتهام بشدة.

وتبدي الولايات المتحدة قلقاً كبيراً من الوجود العسكري والاقتصادي الصيني في جيبوتي، فقد أبدى عضوان بارزان بمجلس الشيوخ الأمريكي قلقهما في نوفمبر 2018 بشأن التداعيات العسكرية والسياسية، إذا ظفرت الصين بالسيطرة على مرفأ دوراليه للحاويات بجيبوتي، كما قال المتحدث باسم وزارة الدفاع )البنتاجون( إن الوزارة ترحب بالاستثمار­ات التي قد تفيد المنطقة، محذراً في الوقت ذاته من أن "الدول يجب أن تكون حذرة من تراكم الديون الضخمة" في إشارة إلى الديون الصينية.

ويتهم المسؤولون الأمريكيون بكين باتباع دبلوماسية "فخ الديون"، إذ تجبر الصين الدول المتعثرة عن سداد الديون إلى التخلي عن سيطرتها على بعض أصولها الكبرى مثل الموانئ أو الطرق، الممولة بقروض صينية. ودفعت هذه التطورات إلى إقرار مجلس الشيوخ الأمريكي في أكتوبر تشريعاً يعدل طريقة منح واشنطن للمساعدات الأجنبية للتنمية الخارجية، في تحول يستهدف الرد على النفوذ الصيني بصورة أساسية.

وعلى الرغم من وجود توترات محتملة بين القوى العظمى، تظل هناك العديد من الاعتبارات العملية التي تدفع الجانبين للتعاون. فإقليمياً، تتفق الأجندتان الصينية والغربية، على ضمان حرية الملاحة في مضيق باب المندب، والحد من التهديدات الإقليمية، خاصة أن الصين كانت مستثمراً رئيسياً في اليمن، بما في ذلك ميناء عدن، بالإضافة إلى تمتعها بعلاقات اقتصادية وسياسية وثيقة مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

ومن جهة ثانية، فإن ضيق وزحام القواعد البحرية والجوية في جيبوتي يستلزمان التعاون بين الأطراف، فجميع سفن الصين والولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي تعتمد على مرافق إعادة التزود بالوقود نفسها. ومن الناحية العملية، لا يزال الجيش الفرنسي يدير المناطق العسكرية المحلية الرئيسية، مثل مهبط طائرات "شبيلي" الذي تستخدمه الآن الولايات المتحدة في توجيه هجماتها من الدرونز على اليمن والصومال. وتستغل الصين أراضي جيبوتي النائية كمناطق للتمرين وإطلاق الذخيرة الحية، مما يجعل جيبوتي قاعدة تدريب مهمة بالنسبة للجيوش الأجنبية.

وفي الختام، يمكن القول إن تنامي التنافس الأمريكي – الصيني في عدة مناطق حول العالم، مثل بحر الصين الجنوبي، والشرقي، بالإضافة إلى تصاعد الخلافات في عدة ملفات، مثل الحروب التجارية، بالإضافة إلى التنافس على النفوذ في القارة الأفريقية، قد يزيد من حدة التوتر بينهما في القرن الأفريقي، وإن كانت هناك عوامل تحد من ذلك، مثل حرصهما على تحقيق الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي.

يتهم المسؤولون الأمريكيون بكين باتباع دبلوماسية "فخ الديون"، إذ تجبر الصين الدول المتعرة عن سداد الديون إلى التخلي عن سيطرتها على بعض أصولها الكبرى مثل الموانئ أو الطرق، الممولة بقروض صينية.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates