لماذا تدير الاستخبارات الأمريكية أنشطة تجارية؟
د. جاسم محمد
تعمد أجهزة الاستخبارات الأمريكية إلى إدارة أنشطة تجارية تمنحها مصادر تمويل إضافية، فضلاً عن توظيفها كواجهات من أجل الحصول على المعلومات، وامتلاك أدوات نفوذ علىشركاتالتكنولوجيا.
بلغت ميزانية مجمع الاستخبارات الأمريكي، بشقيها العسكري والمدني، للعام المالي 2017 حوالي 73 مليار دولار سنوياً، وهي بذلك تمثل حوالي 11% من إجمالي الميزانية المخصصة للدفاع في الولايات المتحدة الأمريكية، وتعد تفاصيل ميزانية مجمع الاستخبارات الأمريكي سرية بموجب "قانون وكالة الاستخبارات" )Centeral Intelligence act) الصادر في عام 1949. وعلى الرغم من اندلاع نقاش من فترة لأخرى حول ضرورة الكشف عن تفاصيل إنفاق أجهزة الاستخبارات، فإن قادة مجمع الاستخبارات رفضوا الكشف عن هذه التفاصيل، نظراً لإضرار ذلك بالأمن القومي الأمريكي.
ويُقدر إن حوالي 70% من ميزانية مجمع الاستخبارات الأمريكية تذهب إلى المتعاقدين الخاصين Private) Contractors،) وهي شركات تعمل في مجال الاستخبارات والتكنولوجيا، مثل شركة "بوز آلن هامليتون" Booz Allen) Hamilton،) وغيرها. وكشفت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية في عام 2010 أن هناك 1,931 شركة خاصة تعمل على برامج تتعلق بمكافحة الإرهاب والأمن الداخلي والاستخبارات. وقدرت قيمة هذه العقود في عام 2005 بحوالي 42 مليار دولار أمريكي.
الميزانية ال�سوداء
تمثل ميزانية مجمع الاستخبارات الأمريكي جزءاً من الميزانية الفيدرالية، ولم تقم الولايات المتحدة بالإفصاح عن حجم الإنفاق الإجمالي على مجمع الاستخبارات إلا في عام 2007، غير أنها لا تكشف عن تفاصيل إنفاقها لهذه الأموال أو كيفية تنفيذها الأهداف التي حددها الرئيس الأمريكي.
وتنقسم ميزانية أجهزة الاستخبارات إلى قسمين: الأول الميزانية المعلنة، وهي ميزانية تشغيلية، وتغطي مهام الوكالة الاعتيادية، والثانية هي الميزانية السرية، أو ما يطلق عليها "الميزانية السوداء" Black) Budget،) وهي تغطي مهام العمل السري. وتتم مناقشة الميزانية الثانية بين الرئيس ومستشار الأمن القومي، والدائرة الضيقة حول الرئيس، ولا يطلع عليها الكونجرس.
ويقصد بالميزانية السوداء الأموال التي يحصل عليها جهاز الاستخبارات، سواء من ميزانية الدولة، أو من إيرادات الشركات التي يديرها، والتي يتم تخصيصها للقيام بالعمل السري، أو تطوير أبحاث عسكرية، ولا يتم الإفصاح عن حجم هذه الأموال. ولذلك فإن إنفاق أجهزة الاستخبارات، لاسيما الكبرى منها، يفوق بكثير الميزانية المخصصة لها في الموازنة العامة للدولة.
وتستخدم أجهزة الاستخبارات هذه الأموال عادة من أجل القيام بعمليات خارج السياسة المعلنة للولايات المتحدة، وقد تكون مخالفة لقوانينها، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك فضيحة "إيران– كونترا" في عام 1986، فقد عارض الكونجرس قيام واشنطن بزيادة تمويل متمردي الكونترا في نيكاراجوا، غير أن إدارة ريجان خالفت ذلك من خلال بيع أسلحة إلى إيران خلال الحرب العراقية – الإيرانية بأسعار مرتفعة، وحولت المبالغ الفائضة إلى قوات "الكونترا" التي كانت تحارب حكومة حركة ساندينيستا اليسارية الحاكمة في نيكاراجوا.
وتتمثل أحد مصادر "الميزانية السوداء" في الإيرادات التي تحصل عليها هذه الأجهزة من استثماراتها الخارجية، والتي تمدها ليس فقط بمصادر تمويل إضافية، ولكن توفر لها كذلك مصادر أساسية للحصول على المعلومات الاستخباراتية، على نحو ما سيتم تفصيله لاحقاً. وتتم إدارة هذه المشاريع، في الغالب، من قبل أجهزة الاستخبارات من خلال أشخاص مرتبطين بها. ويقوم القسم المالي داخل هذه الأجهزة بالرقابة عليها، كما يتم توزيع المعلومات التي تحصل عليها من خلالهم إلى الأقسام المعنية داخل الجهاز.
وتعرف هذه الاستثمارات التجارية باسم "الواجهات" Covert Project( ،) أي الغطاء للعمل الاستخباري، وينشط وراءه عدد كبير من العملاء المعنيين بالتجسس وجمع المعلومات. وأصبحت الشركات التكنولوجية التي تعنى ببرامج التجسس واختراق البيانات والخوادم، واحدة من اهتمامات مجمع الاستخبارات الأمريكي، خاصة وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي.
وهناك واجهات تقليدية أخرى في عمل الاستخبارات أبرزها شركات السياحة وشركات الاستيراد والتصدير، إلى جانب غطاء الصحافة والإعلام والمنظمات الإنسانية، ووكالات الأنباء والخبراء ووكلاء الخطوط الجوية والبحرية والبرية. ولكن يظل الاهتمام الرئيسي لمجمع الاستخبارات في مجال تكنولوجيا المعلومات والتجسس الرقمي بصورة ربما تفوق المجالات الأخرى آنفة الذكر.
�سركات التكنولوجيا نموذجاً
سعى مجمع الاستخبارات الأمريكي منذ منتصف التسعينيات من القرن العشرين للاستفادة من شركات التكنولوجيا الأمريكية في "وادي السيليكون"، في سان فرانسيسكو، وتمثل أحد أهم أهدافها في كيفية رصد المواطنين في الفضاء السيبراني، فضلاً عن الاستفادة من بيانات المستخدمين والمعلومات غير السرية، لأغراض تتعلق بالأمن القومي، وكذلك في تحقيق أرباح تجارية.
ولهذا الغرض مولت الاستخبارات الأمريكية مؤسسات بحثية تابعة لها، والتي قامت بدورها بالمساهمة في تطوير برامج ومنتجات اعتمدت عليها الاستخبارات، وشركات التكنولوجيا، بما في ذلك شركة جوجل الأمريكية.
وتمثلت ذراع وكالة الاستخبارات المركزية للاستثمار في شركات وادي السيليكون في شركة "إن –كيو –تيل" In-Q-Tel(،) والتي تستهدف الاستثمار في شركات التكنولوجيا التي تمتاز بارتفاع إمكانياتها الابتكارية، فضلاً عن تخصصها في تكنولوجيات مفيدة لمجمع الاستخبارات، مثل تطوير الدرونز أو التجسس السيبراني أو غيرها. وركزت الشركة بصورة أساسية على الاستثمار في شركات التكنولوجيا المعنية بالتنقيب عن البيانات.
وتأخذ شركة "إن –كيو –تيل" وضع منظمة غير هادفة للربح، ومن ثم فهي يمكن أن تستفيد من الميزانية السوداء لأجهزة الاستخبارات، كما أنها لا تحتاج إلى توضيح كيفية إنفاقها لأموالها. وعلى الرغم من أنه لا يمكن معرفة حجم استثمارات الشركة، فإن التقديرات في عام 2005 تباينت في هذا الشأن بين من يضعها في حدود 2 مليون دولار وبين من يضعها عند مستوى 28 مليون دولار.
وقامت شركة "إن –كيو –تيل" بتمويل شركة "ستارت أب" صغيرة عرفت باسم "كيهول إيرث فيور" Keyhole( ،)EarthViewer والتي قامت بإنتاج برنامج استحوذت عليه شركة جوجل الأمريكية فيما بعد، وقامت بإطلاقه تحت مسمى "جوجل إيرث" Google( Earth) في أوائل عام 2000.
ولا يعد هذا الدليل الوحيد على عمق الارتباط بين الاستخبارات وكبريات الشركات التكنولوجية الأمريكية، بل مؤشرات تكشف عن أن الأولى قامت بدعمهم مادياً عند لحظة تأسيسهم. فقد حصل مؤسس شركة فيس بوك الأمريكية، على أموال من أشخاص مرتبطين بشركة "إن –كيو –تيل" نفسها.
تخ�س�سات مختلفة
تتمثل أبرز شركات التكنولوجيا التي قامت شركة "إن –كيو –تيل" بالاستثمار فيها هي شركة "سايلانس" Cylance() وذلك في عام 2016، والمتخصصة في إنتاج برامج تسعى إلى تأمين الشركات من الهجمات السيبرانية، والتي قامت بإنتاج برامج تعتمد على الذكاء الاصطناعي، لتحليل ما إذا كان الملف الذي تقوم بتسلمه عبر البريد الإلكتروني هو برنامج ضار، أم لا، وتقوم بحذفه في أقل من ثانية واحدة، وقد عرضت شركة بلاكبيري لإنتاج الهواتف المحمولة شراء الشركة بمبلغ يقدر بحوالي 1.5 مليار دولار في نوفمبر 2018.
واستثمرت شركة "إن –كيو –تيل" كذلك في شركة "أوربيتال إنسايت" Orbital Insight( ،) وتتخصص الشركة في تحليل ملايين الصور التي يتم التقاطها عبر الأقمار الصناعية. ويمكن الحصول على كم هائل من المعلومات من تحليل هذه الصور، ولعل أبسط صور الاستفادة تتمثل في معرفة متاجر التجزئة الكبيرة، على سبيل المثال، عدد الأشخاص الذين يرتادون متاجرهم المختلفة، والتوقيتات التي يقومون فيها بذلك، من خلال تحليل عدد السيارات التي تقوم بارتياد هذه المتاجر، كما يمكن كذلك معرفة ما هي التقاطعات المرورية الأكثر ازدحاماً، وما هي أوقات الذروة وغيرها من المعلومات.
وبالكيفية نفسها تستطيع هذه الشركة عبر تحليل صور الأقمار الصناعية معرفة وتقييم أداء الاقتصاد الصيني على سبيل المثال. ويلاحظ أنه في الوقت الذي استثمرت فيه وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية حوالي 5 ملايين دولار في هذه الشركة في عام 2016، فإن شركة جوجل استثمرت حوالي 15 مليون دولار.
وكشفت سوزان جوردون، نائب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية عن لقائها بكبريات شركات التكنولوجيا في وادي السيليكون خلال عام 2018، ومنها شركة جوجل، وحاولت إقناعهم بضرورة التعاون بين الجانبين لحماية الأمن القومي الأمريكي، وعن تردد شركات التكنولوجيا في قبول ذلك، غير أنه يمكن القول إن هذه التصريحات تهدف إلى تبرئة كبريات شركات التكنولوجيا الأمريكية من التورط في التجسس على الشعب الأمريكي والعالم، ومستخدميها، نظراً لأن حجم العلاقات والتشابكات الاقتصادية والتكنولوجية بين الجانبين تجعل من هذا التعاون أمراً محتماً كما توضح السوابق التاريخية.