Trending Events

خطوط التماس:

حدود التحالف والصراع في عالم متعدد الأقطاب

-

حدود التحالف والصراع في عالم متعدد الأقطاب كارن أبو الخير

كانت الرسالة الرئيسية التي نقلتها احتفالات باريس بمرور مئة عام على نهاية القتال في الحرب العالمية هي أن العالم يواجه اليوم خريطة استراتيجية مختلفة جذرياً فيما يتعلق بالصراعات والتحالفات المتوقعة أو المحتملة. ولقد عكست صور الاحتفال العلاقة الوثيقة بين ميركل وماكرون، حيث أصبح أعداء الأمس هم أقرب الحلفاء اليوم. وبينما غابت رئيسة وزراء بريطانيا عن الاحتفال، فإن تداعيات انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي لا تتعدى الخلافات المالية والتنظيمية، مع سعي كل الأطراف للحفاظ على أطر التعاون الأمني والعسكري، ولم تعد الخلافات بين القوى الأوروبية الرئيسية هي الفتيل الذي قد يطلق شرارة حرب عالمية، على الأقل في المستقبل المنظور.

ومن جانب آخر، كان الانعزال الواضح لترامب عن أجواء الاحتفال مؤشراً على أن تحالف عبر الأطلسي، الذي لعب دوراً رئيسياً في حسم ما أسماها فيليب بوبيت "بالحرب الطويلة" في القرن الماضي)1(- أي الصراع الممتد من الحرب العالمية الأولى والثانية إلى الحرب الباردة، تحت راية الدفاع عن الديمقراطي­ة ضد النظم الشمولية ثم الفاشية في ألمانيا، ثم الاتحاد السوفييتي - لم يعد بمثل تماسكه السابق.

اأولً: دللت «احتفالت باري�ض»

عبرت "احتفالات باريس" بمرور 100 عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى عن مخاوف قادة أوروبا من تناسي الأجيال الجديدة للثمن الكبير الذي دفعته البشرية جراء الانزلاق إلى مواجهات عسكرية، ومن أن أطر حفظ السلام العالمي التي تمخضت عن هذه المواجهات السابقة لم تعد قادرة على احتواء جولة جديدة من الصراع.

وركز الرئيس الفرنسي ماكرون في خطابه أمام الجمع الكبير من قادة الدول الذين احتشدوا في الاحتفال على الخطر الذي يمثله تصاعد المد القومي على الساحة الدولية، باعتبار أن النعرات القومية هي المحرك الأساسي الدافع للشقاق والصراع على المستويات الداخلية والدولية. واعتبر المراقبون ذلك نقداً صريحاً للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي افتخر مؤخراً بكونه "قومياً" يتبنى مبدأ "أمريكا أولاً".

وفي إطار تحليل التباين بين موقف الرئيسين، أرجع محرر الشؤون الدولية في الفايننشيا­ل تايمز "جيديون رخمان" هذا الخلاف إلى جذوره، حيث ظهرت في نهاية الحرب العالمية الأولى رؤيتان للعلاقات الدولية هما: الرؤية "الدولية" التي تبناها الرئيس الأمريكي ويلسون، والتي دافع عنها الرئيس الفرنسي ماكرون، والرؤية "القومية" التي يتبناها ترامب، وترتب عليها آنذاك انعزال الولايات المتحدة عن الساحة الدولية)2 .)

ولقد ركز تحليل رخمان على تداعيات صعود الفكر القومي في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى، فمن المعروف أن الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون هو الذي مثل الولايات المتحدة في مؤتمر باريس للسلام عام 1919، وهو الذي صاغ النقاط الأساسية التي كان من المفترض أن يتأسس عليها النظام العالمي الجديد في مرحلة ما بعد الحرب،

وعصبة الأمم، التي كانت ستعمل على حفظ السلام به.

وبدلاً من أن تلعب الولايات المتحدة دورها المنتظر في تنفيذ هذه الأفكار، أحبط معتنقو فكرة "أمريكا أولاً" داخل مجلس الشيوخ الأمريكي، بزعامة عضو الكونجرس في ذلك الوقت "هنري كابوت لودج"، جهود ويلسون، حيث رفض المجلس التصديق على عضوية الولايات المتحدة في هذه المنظمة الجديدة، والتي بدورها سرعان ما انهارت مع اندلاع الحرب العالمية الثانية.

وعلى الرغم من مرور مئة عام، ما زال هناك من يقرأ في قصة فشل عصبة الأمم واندلاع الحرب العالمية الثانية دلالات بالنسبة للنظام العالمي الآن. فأنصار الرؤية القومية، ومنهم اليوم جون بولتن، يرون في ذلك دليلاً على فشل فكرة الحوكمة العالمية بشكل عام، فالقوة الصلبة للدول القومية هي التي استطاعت وقف التجاوز والعدوان من ألمانيا الفاشية، ما لم تستطع عصبة الأمم، أو أي منظمة دولية، أن تقوم به)3.)

ومن جانبهم، يذهب أنصار المدرسة الدولية إلى أن انسحاب الولايات المتحدة من الساحة الدولية، هو الذي خلق الظروف المواتية لاندلاع حرب، وأن عدم مشاركتها في عصبة الأمم هو الذي قوض قدرتها على احتواء الأزمة. وتثار هذه القضية من جديد مع موقف ترامب من حلفاء الماضي والمؤسسات الدولية.

ثانياً: ثلاثية قطبية تدفع اإلى عدم ال�ستقرار

تستند الرؤية الداعمة لمحورية الدور الأمريكي في حفظ السلام العالمي على أن الولايات المتحدة هي القوة الأولى عالمياً إلى المستويات العسكرية والاقتصادي­ة والتكنولوج­ية، وهي لذلك قادرة من خلال التلويح بالعصا والجزرة على التأثير في مجريات العلاقات الدولية. لكن هذا الوضع قد تغير، باعتراف القادة العسكريين الأمريكيين أنفسهم، الذين وصلوا إلى قناعة بأن الولايات المتحدة تفقد بسرعة موقعها المتقدم وميزتها التنافسية "في كل مجال من مجالات الحرب"، بحسب وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس)4.)

وتعمل المؤسسة العسكرية الأمريكية الآن بأقصى طاقاتها على تطوير إمكانياتها لنوع جديد ومتقدم من الحرب. وسيكون الصراع القادم، كما يتوقعه ماتيس وآخرون، متعدد الجبهات وسريع الانتشار، ومتقدماً تكنولوجياً بصورة تفوق التوقعات.

ويعتبر ماتيس أن مواجهة عسكرية بهذا الحجم لا تعد أمراً محتوماً، لكن الاستعداد لها ضرورة لا جدال فيها، بل أن الولايات المتحدة في الواقع أصبحت في وضع يجب عليها فيه "اللحاق" بقدرات الدول الأخرى، وعلى الأخص الصين، حيث يشير الخبراء إلى قدرة الأخيرة على تطوير أسلحة جديدة في فترة قياسية، تستغرق أقل من سبع سنوات للوصول بها من مرحلة الفكرة إلى التنفيذ، بينما يستغرق ذلك حوالي ستة عشر عاماً في المتوسط بالنسبة للولايات المتحدة)5.)

ولا يزال هناك خلاف على المستوى السياسي والأكاديمي الأمريكي، حول الدولة التي تمثل التهديد الأكبر للولايات المتحدة. إذ يضع البنتاجون بوضوح الصين نصب عينيه بوصفها التهديد الماثل، ويوافقه في ذلك دوائر من يتبنون الفكر المحافظ القومي من الجمهوريين، نظراً لتطور قوتها الصلبة وتعارض مصالحها مع مصالح الولايات المتحدة)6.)

وفي المقابل، يرى الديمقراطي­ون أن روسيا، بأفكارها "الرجعية" على المستوى الاجتماعي والثقافي، وممارساتها السلطوية على المستوى السياسي، وتدخلها العسكري خارجياً، هي التي تمثل تهديداً للولايات المتحدة والنظام الدولي. لكن هناك توافق على أن مرحلة "الأحادية القطبية" قد انتهت، وأن الولايات المتحدة ليست وحدها المهيمنة على قرارات السلم والحرب في عالم اليوم.

ويرى المحلل مايكل كلير أن الولايات المتحدة تواجه في الواقع تهديداً مزدوجاً من كل من الصين وروسيا، وأن البيئة الاستراتيج­ية أصبحت أكثر خطورة بظهور نظام دولي "ثلاثي الأقطاب" يتسم بقدر كبير من عدم الاستقرار، وبتعدد القضايا والمناطق التي من الممكن أن تتصاعد فيها التفاعلات سريعاً إلى درجة الصراع)7.)

وتتمتع القوى الثلاثة الرئيسية وهي الولايات المتحدة والصين وروسيا بقدرات عسكرية ضخمة، تضم أشكالاً متعددة من الأسلحة التقليدية والنووية، كما أن الصين وروسيا أصبح لهما وجود ملموس، دبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً خارج أراضيهما، وإن لم يماثل بعد حجم الوجود الأمريكي، بحيث طالت خطوط التماس أو المواجهة بين القوى الثلاث في منطقتين رئيسيتين: الأولى على امتداد الحدود الأوروبية - الروسية، والثانية في آسيا، على الامتداد من الشرق الأقصى لروسيا إلى بحر الصين، ثم إلى المحيط الهندي.

ويزيد من احتمالات "الاشتعال السريع" في عالم اليوم أن قادة هذه القوى الرئيسية يتبنون بقوة الرؤية القومية، ويتخذون منهجاً حاداً في الدفاع عما يرونه المصلحة القومية لبلادهم، مع التلويح المستمر بمظاهر القوة التي تتمتع بها.

وقد أدى ذلك إلى أن الخطوط الفاصلة بين الحرب والسلام في التفاعلات الدولية قد أصبحت مبهمة إلى حد كبير. فهذه القوى الرئيسية تنتهج أنماطاً من التفاعل قد لا ترقى إلى مستوى المواجهة الكاملة، لكنها تحمل بعض صفات الصراع بين الدول، ما يعني من وجهة نظر كلير أن "الحرب" بينها قد بدأت بالفعل.

وتتضمن هذه الممارسات الحرب التجارية الأمريكية على الصين، والتي تهدف لإضعاف الاقتصاد الصيني وبالتالي عرقلة المساعي الصينية لتحقيق المساواة مع الولايات المتحدة على الساحة الدولية، وهو ما تعتبره الصين تهديداً وجودياً لمستقبلها كقوة عظمى لا يمكن أن تتقبله من دون رد قوي.

ومن جانب آخر، يمثل الفضاء السيبراني مجالاً جديداً للصراع، غير خاضع حتى الآن للقواعد والتقنين، حيث يتم

توظيفه في سرقة أسرار التكنولوجي­ا، والتدخل للتأثير على التفاعلات السياسية الداخلية، وصولاً إلى التهديد بشل البنية التحتية) 8 .)

وعلى الصعيد العسكري، تولي هذه الدول اهتماماً كبيراً بتطوير قدراتها، وتقوم باستعراض هذه القدرات من خلال "تدريبات عسكرية" ضخمة تقترب من حدود القوى الأخرى. بل أن هذه القوى تتعمد "الاحتكاك" ببعضها على خطوط التماس بينها، إذ تتواتر الأنباء عن "صدامات وشيكة" بين طائرات أو سفن في هذه المناطق.

وتسعى كل دولة لتمديد نطاق نفوذها في هذه المناطق الحساسة، ما قد يؤدي إلى حوادث قد تتصاعد بسرعة إلى مواجهات عسكرية. ويزيد من مخاطر الصدام أن هذه القوى تعمل الآن على تطوير ترساناتها النووية بما فيها أنواع الأسلحة التي يمكن أن تستخدم في إطار مواجهة عسكرية تقليدية، وذلك خرقاً لاتفاقيات التسلح التي كانت تعد من مكاسب النظام الدولي في العقود الماضية.

وتخضع الأطر والاتفاقيا­ت التي كانت تساهم في خفض فرص الصدام النووي للتقويض والتفكيك مع انسحاب الولايات المتحدة منها، ويرى كلير أن النظام الدولي معرض الآن لاندلاع أزمة جديدة تشبه في خطورتها أزمة الصواريخ الكوبية في القرن الماضي، تضع العالم على شفا مواجهة عسكرية ونووية خطيرة.

ثالثاً: تحالف ليبرالي من دون الوليات المتحدة

هل يقف العالم مكتوف الأيدي في انتظار "عودة" الدور الأمريكي القيادي لمواجهة التهديدات العالمية؟ الإجابة، كما صاغها المحلل الأمريكي ديفيد إجناشيوس، هي لا، فالمجتمع الدولي قرر المضي قدماً من دون ترامب، وأطراف أخرى سوف تتقدم لملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة)9.)

وتبدو إرهاصات ذلك في مجالات متعددة، فكما قررت الدول المشاركة في اتفاقية باريس المناخية المضي قدماً من دون الولايات المتحدة، حشدت اليابان وكندا وأستراليا الجهود لإنفاذ اتفاقية تحرير التجارة عبر الباسيفيكي من دون مشاركة الولايات المتحدة. وعلى الصعيد الأوروبي، جاءت مطالبة ماكرون، والتي أيدتها ميركل، بإنشاء قوة دفاع أوروبية خالصة، بحيث تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها من دون الاعتماد على الولايات المتحدة.

وعلى النقيض من رؤية مايكل كلير لعالم ثلاثي القطبية يستند في تفاعلاته إلى منطق المصالح القومية، يطرح الباحثان أيفو دالدر وجيمس ليندساي في دورية فورين أفيرز رؤية تهدف للحفاظ على أسس النظام الدولي المستند إلى قواعد متفق عليها في التفاعل وإلى قيم ليبرالية)10.)

وتطرح هذه الرؤية التي جاءت تحت عنوان "لجنة لحماية النظام العالمي"، دوراً محورياً للدول الديمقراطي­ة التي كانت تعد من حلفاء الولايات المتحدة في النظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بوصفها المرشح لسد الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة، ولقطع الطريق على صعود فاعلين بقيم لا تتصف بالليبرالي­ة.

وتتبنى هذه الرؤية فكرة "مجموعة التسع"، والتي تقوم على حشد الامكانيات العسكرية والاقتصادي­ة لكل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية في آسيا، وكندا في أمريكا الشمالية، لتصبح تجمعاً فاعلاً على الساحة الدولية.

ولهذا التجمع هدفان محددان، هما الحفاظ على تماسك أطر واستمرار تطبيق قواعد النظام الدولي الليبرالي حتى "تعود" الولايات المتحدة إلى دورها القيادي فيه، وتوفير الظروف المواتية لهذه العودة. وفي هذا الإطار، يجب أن تعمل هذه الدول على لعب دور أكبر مما اعتادت عليه، وعليها التفكير لا في كيفية العمل مع الولايات المتحدة تحت قيادتها الحالية، بل في كيفية العمل من دونها.

وتعد حرية التجارة من الأسس المحورية للنظام الليبرالي والتي تستطيع "مجموعة التسع"، من وجهة نظر الكاتبين، أن تلعب دوراً مؤثراً في حمايتها من سياسات ترامب. ويعرض الكاتبان مسوغات قوة هذا التجمع الاقتصادي، حيث تنتج الدول الأعضاء به مجتمعة ما قيمته ثلث إجمالي الناتج العالمي، أي ضعف ما تنتجه الصين وأكثر بحوالي 50% مما تنتجه الولايات المتحدة، بالإضافة أنها تتحكم في 30% من إجمالي الصادرات والواردات العالمية، وهو ضعف ما تتحكم فيه الولايات المتحدة والصين.

وعلى هذا الأساس فإن التجارة مجال رئيسي لتعاون هذه الدول، وعليها أن تعمل على حماية حرية التجارة، وتطوير منظومة منظمة التجارة العالمية لتتلاءم مع احتياجات الواقع العالمي. وعلى الرغم من أن العمل على عقد اتفاقيات متعددة الأطراف من دون الولايات المتحدة سوف يضع هذه المجموعة في تنافس مع الأخيرة، فإنها ينبغي أن تبحث عن أطر تسمح لها أيضا بمواصلة التعاون معها)11.)

من جانب آخر، يواجه تعاون هذه الدول في المجال الأمني تحديات أكبر، فالدول الأوروبية وكندا لديها إطار للتعاون من خلال حلف الناتو، لكن إنفاقها العسكري محدود. من جانب آخر، فإن الدول الآسيوية في هذه المجموعة تنفق مبالغ ضخمة على تطوير قدراتها العسكرية، لكنها تفتقد إلى إطار تنظيمي للتعاون.

وتمثل قدرات هذه الدول مجتمعة، خاصة لو زادت الدول الأوروبية من انفاقها العسكري، قوة لا يستهان بها على الساحة الدولية. ففي عام 2017 أنفقت هذه الدول ما قيمته 310 مليارات دولار على دفاعاتها، مما يضعها في المركز الثاني عالمياً بعد الولايات المتحدة، كما يتجاوز ذلك ما أنفقته الصين بمقدار الثلث، ويمثل أربعة أضعاف ما أنفقته روسيا.

ويدرك الكاتبان أن هناك الكثير من العمل لكي تطور هذه

الدول من قدرتها على العمل ككيان متماسك على الصعيد العسكري، ويرون أن ذلك يمكن التوصل إليه من خلال التعاون المشترك المباشر، خاصة أن هناك قضايا مشتركة تهم كل هذه الدول، ومنها الخطر الذي تمثله القدرات النووية لكوريا الشمالية)12 .)

وعلى المستوى العملي، يبدو هذا التعاون بعيد المنال خاصة لو أخذنا في الاعتبار أن الولايات المتحدة، التي لديها علاقات عسكرية وثيقة مع كل من كوريا الجنوبية واليابان، واجهت إشكاليات عديدة في محاولة التنسيق بين البلدين لتكوين جبهة في مواجهة كوريا الشمالية.

ولكي تصبح مجموعة التسع قوة يعتد بها على الساحة الدولية، فيجب أن تكون مستعدة لاستخدام القوة منفردة، من دون الولايات المتحدة، وهو ما سيكون صعباً بالنظر إلى أن معظمها قد تعود على التعامل المباشر مع الولايات المتحدة، لا التعاون فيما بينها، ولا يبدو أن لديها بوادر الإرادة السياسية لتحمل المزيد من المسؤولية.

رابعاً: تحقيق ال�سلام في عالم معقد

تبدو فرنسا بقيادة ماكرون استثناءً من العزوف الأوروبي عن تحمل المزيد من المسؤوليات في تشكيل وقيادة أطر للتعاون متعدد الأطراف. وقد أطلقت باريس مبادرة جديدة في هذا الصدد بالتزامن مع الاحتفالات بمئوية نهاية الحرب العالمية الأولى، وهي "منتدى باريس للسلام"، والتي تعد بحسب ريتشارد جوان مبادرة من "خارج الصندوق"، تعكس في محاولتها للتعامل مع مجموعة واسعة من القضايا، باشتراك ممثلين لدول من جميع أنحاء العالم، ولمنظمات دولية وشركات عالمية ومراكز فكر ومنظمات مجتمع مدني، مدى تعقيد قضية تحقيق السلام في عالم اليوم)13.)

وعلى الرغم من أن الأطر القانونية والمنظمات الدولية التي تعمل على تحقيق الأمن والسلم العالميين قد تطورت بشكل كبير خلال العقود الماضية، فإن واقع التنافس حول قواعد التعامل في حالة من تعدد القطبية، بالإضافة إلى الهيكل البيروقراط­ي الكبير للمنظمات الدولية أصبح يفضي بشكل متكرر إلى حالة من الشلل المؤسسي في التعامل مع الأزمات الدولية.

ومن جانب آخر، ظهرت أشكال جديدة ومتنوعة من التهديدات والمخاطر التي لا تصلح الأطر القائمة في التعامل معها، ومنها على سبيل المثال، المخاطر المتعددة المتعلقة بالفضاء السيبراني وهو ما دفع المتخصصين للبحث عن أساليب جديدة لمواجهة الأزمات والمخاطر، يمكن تلخيصها في ثلاثة تيارات رئيسية، بحسب جاون، كانت كلها ممثلة في منتدى باريس للسلام.

ويمثل من يتبنون الرؤية "العالمية" التيار الأول، وهم يقرنون تحقيق الأمن والسلام العالمي بقضايا كبرى مثل مكافحة تغير المناخ وتحقيق التنمية المستدامة، ويتمركزون في المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، وعلى رأس المدافعين عن هذا التوجه حالياً أنطونيو جوتيرس، الأمين العام الحالي للأمم المتحدة.

أما التيار الثاني فيتبناه "رواد الأعمال"، ويركز على دور الفاعلين من غير الدول مثل الشركات العالمية والمدن الكبرى، في حل المشكلات التي لا تستطيع الدول وحدها التعامل معها، ومن رواد هذا التيار بيل جيتس ومايكل بلومبرج.

وأخيراً، هناك التيار المهتم بالأوضاع والتطورات على المستوى المحلي، والذين لا يثقون في الاستراتيج­يات العريضة، ويرون أنه لا يمكن فهم الصراعات أو حلها إلا من خلال دراسة الأوضاع على الأرض في المجتمعات المحلية ويجتذب هذا التيار في الأساس الباحثين والأكاديمي­ين.

ختاماً، تعد هذه المقاربات مفيدة ولها قيمتها وفقاً لبعض المحللين، ويمكن الاستفادة من الجمع بينها بأطر وأشكال مختلفة، لكنها تخلق حالة من التشتت عند محاولة مناقشة المخاطر الجديدة التي يواجهها العالم وتطوير مقاربات لها، ويحسب لمنتدى باريس الجمع بينها في محاولة مبتكرة لتوفير أطر جديدة للتعاون متعدد الأطراف في بيئة عالمية شديدة التعقيد. ‪1- Priya Satia, Are 100 Years Enough?,‬ ‪The New Republic,‬ ‪November 12,2018, accessible at: https://newrepubli­c.com/article/152153/100-‬ years-enough ‪2- Gideon Rachman, Emmanuel Macron, Donald Trump and the Ghosts of 1918,‬ ‪The Financial Times,‬ ‪November 5,2018, accessible at:‬ www.ft.com/content/8fc5bf84-e0el-11e8-8e7o-5e22a430c1­ad 3- Ibid., ‪4- Katrina Manso, Robot Soldiers, Stealth Jets and Drone Armies: the Future of War,‬ ‪The Financial Times,‬ ‪November 16,2018, accessible‬ ‪at: www.ft.com/content/442de9aa-e7a0-11e8-8a85-04b8afea6a­a3‬ 5- Ibid., ‪6- Reihan Salam, Is China or Russia America’s defining rival?, ‪The Atlantic,‬ September 10,2018, accessible at: https://goo.gl/cFj5PM‬ ‪7- Michael Klare, The new global tinderbox, Lobelog, November 1,2018, accessible at: https://lobelog.com/the-new-global-tinder-box/‬ 8- Ibid., ‪9- David Ignatius, The world is moving on from Donald Trump,‬ ‪The Washington Post,‬ ‪November 13,2018, accessible at: https://goo.gl/‬ pKaNQh ‪10- Ivo H. Daalder, James Lindsay, The committee to save the world order,‬ ‪Foreign Affairs,‬ ‪September 30,2018, accessible at: https://goo.‬ gl/88haiB 11- Ibid., 12- Ibid., ‪13- Richard Gowan, Peacekeepi­ng is More Complicate­d than Ever,‬ ‪World Politics Review,‬ ‪November 12,2018, accessible at: https://goo.‬ gl/8gG9tH

 ??  ??
 ?? كارن أبو الخير مستشار الشؤون الدولية بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة - أبوظبي ??
كارن أبو الخير مستشار الشؤون الدولية بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة - أبوظبي

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates