Trending Events

اتجاه متصاعد:

البدائل المحتملة لهيمنة الدولار على التجارة الدولية

- حساني شحات محمد باحث متخصص في شؤون الاقتصاد الدولي

كرّس اتفاق مؤتمر ”بريتون وودز“، في عام 1944، مركزية العملة الأمريكية فيه، غير أن تصاعد النزعة الحمائية التجارية للولايات المتحدة مؤخراً، وتوظيفها النظام المالي العالمي ”سويفت“، وقوة عملتها كأدوات لمعاقبة القوى المناوئة لها، دفع عدداً من الدول في مقدمتها الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين لتطبيق سياسات لتقليص اعتمادها على الدولار الأمريكي.

يسعى هذا التحليل إلى بيان أهم مقومات مركزية الدولار الأمريكي في النظام المالي العالمي، وأبرز السياسات التي اتبعتها الدول المختلفة، خاصة القوى الاقتصادية الرئيسية للحد من هيمنته، خاصة مع تصاعد الصراعات التجارية والسياسية بين القوى الكبرى، بالإضافة إلى تقييم فاعلية هذه السياسات، والسيناريو­هات المستقبلية.

�أولاً: مقومات هيمنة �لعملة �لاأمريكية

ترجع قوة العملة الأمريكية وهيمنتها على الاقتصاد العالمي لمجموعة من العوامل، والتي يمكن إبرازها في التالي: 1- الهيمنة على المعامات التجارية الدولية: على الرغم من اتجاه بعض الدول الصناعية الكبرى لبيع صادراتها بعماتها المحلية، إذ بلغت صادرات منطقة اليورو المنفذة باليورو نحو 60% عام 2012، فإن هذا الاتجاه لايزال هو الاستثناء، إذ إن أغلب الدول المتقدمة لاتزال تعتمد على الدولار الأمريكي في تبادلها التجاري مع الدول الأخرى.

فقد وصلت صادرات فرنسا المنفذة بالدولار الأمريكي نحو 38.5% في عام 2012، وصدرت استراليا أكثر من ثاثة أرباع صادراتها بالدولار الأمريكي، و الأمر نفسه ينطبق على اليابان وكندا(1(. ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للبلدان النامية، إذ إن أغلب صادرات الدول في آسيا وأفريقيا وأمريكا الاتينية مقومة بالدولار الأمريكي(2.)

وفي أحد الاستطاعات التي أجرتها أستاذة الاقتصاد في جامعة هارفارد "جيتا جوبيناث"، وواحدة من الاقتصاديي­ن الرئيسيين في صندوق النقد الدولي، وجدت أن حصة التجارة العالمية التي تم تحرير فواتيرها بالدولار أكثر من ثاثة أضعاف حصة الولايات المتحدة من الصادرات العالمية(3 .) 2- احتفاظ الدولة النامية باحتياطات مقومة بالدولار الأمريكي: لايزال الدولار الأمريكي يسيطر على نحو 58% من إجمالي احتياطيات الأجنبي لدى البنوك المركزية بمختلف دول العالم(4(، كما هو موضح في الجدول رقم )1(، وتتجه اقتصادات الدول النامية لاعتماد على الدولار الأمريكي لإدارة سعر صرفها الخاص، ولتسوية معاماتها الخارجية، وإصدار

الديون السيادية، لاسيما أن عماتها لا تلقى قبولاً دولياً كونها عمات غير قابلة للتحويل، وتهيمن المواد الأولية على هيكل صادراتها. وعلى سبيل المثال، بلغت نسبة الديون السيادية المصدرة بالدولار الأمريكي نحو 39% من الدين العالمي(5.) 3- هيمنة الدولار الأمريكي على نظام التحويات المالية العالمية السويفت: تعد "جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك" )سويفت( مؤسسة تقدم خدمات تبادل الرسائل والمعلومات المالية لأكثر من 11 ألف مؤسسة مالية ومصرفية تابعة لأكثر من 200 دولة حول العالم، ويتحكم هذا النظام في مجمل المدفوعات العالمية، باعتباره الوسيط الذي يربط بنوك العالم كافة، ويعتمد هذا النظام على الدولار الأمريكي(6.)

ثانياً: بد�ئل �لدولار �لاأمريكي

تسارعت مؤخراً وتيرة السياسات التي انتهجها عدد من الدول لمقاومة هيمنة الدولار الأمريكي، بسبب تبني واشنطن سياسات تجارية حمائية، بفرضها تعريفات جمركية على الكثير من وارداتها مثل الحديد والألمونيو­م من روسيا، والاتحاد الأوروبي، والمكسيك، وفرض واشنطن رسوماً جمركية على منتجات صينية بقيمة 250 مليار دولار(7(، فضاً عن توظيف واشنطن الدولار الأمريكي ونظام "سويفت" كذراع لفرض العقوبات الدولية، فقد طالت العقوبات الأمريكية عُشر دول العالم بتعداد سكاني يبلغ 2 مليار نسمة وناتج محلي يفوق 15 ترليون دولار، ومن بين هذه الدول روسيا وإيران وفنزويا وكوبا والسودان وزيمبابوي وميانمار وجمهورية الكونغو الديمقراطي­ة وكوريا الشمالية، وبعض الدول التي تخضع لعقوبات جزئية مثل الصين وباكستان وتركيا(8.)

وقد دفع ذلك العديد من الأطراف الدولية للقيام بمحاولات لإيجاد بدائل للنظام المالي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار الأمريكي، ويمكن تناول أبرز هذه المحاولات في التالي: 1- محاولات طرح عمات بديلة للدولار: دعت الصين وروسيا، في مارس عام 2009، إلى عملة عالمية جديدة، وإنشاء عملة "احتياط" مستقلة تتسم بالاستقرار على المدى الطويل(9(، ومنذ ذلك التاريخ تم اتخاذ الكثير من الإجراءات: أ- الرنمينبي (اليوان) الصيني: تسعى الصين لاستغال مشروع " الحزام والطريق" من أجل تعزيز وضع "الرنمينبي الصيني" في النظام الاقتصادي الدولي، وتقديمه كبديل للدولار الأمريكي في التعامات الاقتصادية الدولية. ففي 2013، أطلقت الصين مبادرة "الحزام والطريق"، وهو عبارة عن مشروعات تهدف لتطوير وإنشاء طرق تجارية وممرات بحرية تربط أكثر من 60 بلداً بالاقتصاد الصيني. وتسعى بكين لتوظيف هذه المبادرة، كأداة لتعزيز التعامل باليوان بدلاً من الدولار الأمريكي. كما أن ضم صندوق النقد الدولي اليوان الصيني إلى سلة العمات التي تتألف منها "حقوق السحب الخاصة" SDR)) اعتباراً من 1 أكتوبر 2016، عزز من وضع العملة الصينية في الاقتصاد الدولي، ومنحها دور أكبر في تسوية التعامات التجارية الدولية.

ومن جهة ثالثة، قامت بكين على خلفية الحرب التجارية مع واشنطن، بفتح التداول بالعقود الآجلة للنفط بعملتها المحلية لفك الارتباط بين سعر النفط وسعر الدولار الأمريكي(10،) وأطلقت الصين أول عقودها الآجلة لخام النفط، في 26 مارس 2018، ببورصة شنجهاي للطاقة. وباعتبارها أكبر مستورد للنفط، ستستفيد الصين، من العقوبات الأمريكية على طهران من خال تسعير وارداتها النفطية من إيران بالرنمينبي الصيني، وسيزيد استخدام الرنمينبي في التجارة المالية العالمية، مما قد يضر في النهاية بالدولار الأمريكي(11.) ب- اليورو الأوروبي: دعا رئيس الاتحاد الأوروبي جان كلود يونكر، في خطاب أمام البرلمان الأوروبي، إلى تعزيز دور اليورو بدءاً من عام 2019، مستنكراً تسديد أوروبا نحو 80% من قيمة واردات الطاقة بالدولار الأمريكي على الرغم من أن ورادات الاتحاد من النفط الأمريكي لا تمثل سوى 2% من الإجمالي، فضاً عن قيام شركات الطيران الأوروبية بشراء طائرات أوروبية بالدولار، وليس باليورو(12.)

وتحاياً على العقوبات الأمريكية ضد طهران، أطلق الاتحاد الأوروبي "أداة دعم المبادلات التجارية"، والتي تعرف اختصاراً باسم "انستيكس" لدعم التبادلات التجارية مع إيران باليورو، كما اتفقت دول الاتحاد الأوروبي على حماية الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران من العقوبات الأمريكية وتمكينها من التعامل باليورو(13.) 2- استخدام العمات المحلية في المبادلات التجارية: أبرمت موسكو وبكين اتفاقاً في ديسمبر 2014، للتعامل بالعمات المحلية، مما يقلل من دور الدولار كوسيط للتبادل بينهما(14.) وفي سبتمبر 2018، ناقشت إيران مع روسيا وتركيا مسألة التجارة باستخدام العمات المحلية بدلاً من الدولار"(15.) وفي الإطار نفسه، أعلن أمين عام مجموعة الدول الثماني الإسامية النامية جعفر كو شاري، في ديسمبر 2018، اعتزام دول المجموعة اعتماد العمات المحلية في تعاماتها التجارية باقتراح من تركيا(16.)

3- حيازة الذهب على حساب السندات الأمريكية: تراجعت استثمارات الصين في سندات الدين الأمريكية بنحو 200 مليار دولار بين اغسطس وسبتمبر 17) 2018(، وبالمثل خفضت روسيا استثماراته­ا فيها بنحو 85 مليار دولار خال عام 18) 2018(. واتجهت الدولتان لزيادة حيازتهما من الذهب فقد وصلت احتياطيات الذهب لدى روسيا والصين لنحو 2.2 و1.9 ألف طن على الترتيب، حتى نهاية ديسمبر 2018. وبذلك فإن احتياطيات الصين وروسيا مجتمعة ستضعهما في المركز الثاني عالمياً من حيث حيازتهما للذهب، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، كما هو موضح في الجدول رقم )2(. وإذا ما طغى هذا التوجه على الأسواق المالية العالمية، فإنه سوف يفرض تهديداً أكبر على قيمة الدولار الأمريكي، ويدفع الدول إلى تقليل اعتمادها عليه. 4- إطاق مجموعة البريكس آلية :"BRICS+" دعت دول البريكس )البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا( خال القمة التي عقدت في جوهانسبرج في يوليو 2018، لإنشاء هذه الآلية بهدف التسلح ضد هيمنة الدولار، من خال توسيع التعاون مع الدول النامية الرئيسية، لاستخدام العمات وأنظمة الدفع المحلية في المعامات التجارية والاستثمار­ية البينية، وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي واليورو. وتسعى البريكس لضم دول رئيسية مثل تركيا وإندونيسيا والأرجنتين ومصر وجامايكا إلى آلية BRICS+""19).)

ثالثاً: تقييم محاولات �لتخلي عن �لدولار

على الرغم من المحاولات العديدة التي يقوم بها عدد من الأطراف الدولية لكسر هيمنة الدولار الأمريكي على النظام النقدي الدولي، فإن العديد من الدلائل تشير إلى زيادة الاعتماد على الدولار الأمريكي في سوق النقد العالمي، إذ بلغت حصة الدولار الأمريكي نحو 58% في الربع الثالث من عام 2018، مقارنة بنحو 35% فقط في الربع الثالث من عام 2010، أي بزيادة قدرها 23%، ولم تزد نسبة الاعتماد على اليورو سوى ب 4%، والين الياباني 3%، والجنيه الاسترليني 2% خال الفترة نفسها، ولم يمثل الرنمينبي الصيني منذ اعتماده كاحتياطي نقدي من صندوق النقد الدولي، سوى أقل من 2% فقط.

ويمكن إرجاع صعوبة أن يحل اليورو أو الين أو اليوان محل الدولار الأمريكي لعدة عوامل يتمثل أبرزها فيما يلي: 1- الخسائر الجانبية: تتخوف الصين من أن التخلي عن الدولار الأمريكي سيجعلها الخاسر الأول عالمياً؛ لأن ذلك بمنزلة انهيار لقيمة حيازتها من السندات الأمريكية، وفقدان السوق الأمريكي الذي يعد الوجهة الأولى لبضائعها، إذ بلغ حجم التجارة السلعية بين الصين والولايات المتحدة خال الشهور العشرة الأولى من 2018، نحو 549 مليار دولار، بعجز قُدر ب 344.4 مليار دولار في غير صالح الولايات المتحدة(20.) 2- غياب البديل للدولار: على الرغم من قوة دول منطقة اليورو، وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا، فإن غياب النفوذ العسكري والسياسي جعل منطقة اليورو تدور في فلك نظام الولايات المتحدة. وكان من المحتمل أن تكون هناك حصة كبيرة لليورو في الأسواق المالية العالمية، إذا اعتمدت المملكة المتحدة اليورو كعملة لها محل الجنيه الاسترليني، وذلك بالنظر لمكانة أسواق لندن باعتبارها رائدة مالياً بالسوق العالمي لكل من الدولار واليورو، غير أن خروج بريطانيا من الاتحاد بدد هذا الحلم تماماً(21.)

ومن جهة ثانية، فإنه على الرغم من سيطرة الين الياباني على نحو 5% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمي، فإن اليابان عزفت بعد الحرب العالمية الثانية عن دعم عملتها في المبادلات الدولية. كما تسببت المشاكل الاقتصادية اليابانية التي شهدتها في الآونة الأخيرة في إضعاف وضع الين في الاقتصاد العالمي(22 .)

ر �بعاً: �ل�صيناريوهات �لمحتملة

تاريخياً، تمكنت ثاث عمات من السيطرة على النظام النقدي العالمي وهي الجيلدر الهولندي، والذي ساد خال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ثم الجنيه الاسترليني بعد الثورة الصناعية الأولى، حتى هيمنة الدولار الأمريكي على النظام النقدي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم(24.)

ويثار التساؤل حول ما إذا حان الوقت لتراجع هيمنة الدولار الأمريكي، وعلى الرغم من صعوبة الإجابة على هذا التساؤل، نظراً لارتباطه بعوامل متعددة، غير أنه يمكن القول إن هناك سيناريوهان أساسيان وهما: 1- استمرار مركزية الدولار الأمريكي: إذ لاتزال الولايات المتحدة تهيمن على 25% من الناتج المحلي العالمي، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي عام 2018، كما أن الدول المنافسة للولايات المتحدة، مثل الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا واليابان وغيرها تستثمر في السندات الحكومية الأمريكية، وهو ما يعني أن أي اتجاه للتخلي عن سندات الدين المقومة بالدولار الأمريكي، سوف يؤدي إلى تراجع قيمته، بما يضر ليس فقط بالولايات المتحدة، ولكن كذلك باقتصادات الدول الأخرى المستثمرة فيها، بما قد يفضي لانهيار النظام النقدي العالمي. وما قد يعزز هذا السيناريو تراجع العوائد

الاستثماري­ة المرتبطة بمشروع الحزام والطريق الصيني، أو نجاح الولايات المتحدة في تحجيمه.

2- ظهور عمات بديلة: يذهب أنصار هذا السيناريو إلى التأكيد على معاناة الاقتصاد الأمريكي من العديد من المشكات الداخلية والخارجية، بما يرجح تراجع هيمنته عالمياً. فداخلياً، يعاني الاقتصاد الأمريكي مشكلتين، وهما تزايد عبء الدين العام، حيث تضاعفت المديونية الأمريكية على مدار عقد لتصل إلى 21.97 تريليون دولار بنهاية ديسمبر 2018، والذي يشكل نحو 30% من الدين العالمي(23(، فضاً عن استمرار العجز التجاري، خاصة مع أقطاب تجارية فاعلة كالصين والاتحاد الأوروبي، حيث وصل العجز التجاري الأمريكي إلى 712 مليار دولار في الشهور العشرة الأولى من عام 2018، مقارنة بنحو 800 مليار دولار عام 24) 2017.)

وخارجياً، يعاني الاقتصاد الأمريكي منافسة القوى الاقتصادية الأخرى في النظام الدولي، والاقتصادا­ت الصاعدة، وترجح بعض الاتجاهات نمو الاقتصادات الصاعدة بمناطق مختلفة من العالم، الأمر الذي سيقلص من حصة الولايات المتحدة الأمريكية في الاقتصاد العالمي.

وتتمثل البدائل المحتملة في هذه الحالة في اليورو والين واليوان. ويعد اليورو المنافس الأقرب للدولار الأمريكي، نظراً لأن حصة مشاركته في الاحتياطات العالمية بلغت نحو 19% في عام 2018، كما توجد فرصة كبيرة أمام اليابان إذا ما سعت لتبني سياسات نشطة في هذا الاتجاه. وبالمثل، يتوقع أن تسعى الصين لدعم عملتها الرنمينبي في تسوية معامات تجارية وعقد صفقات نفطية مع شركائها التجاريين، إذا ما نجحت مشروعاتها المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق.

وفي الختام، لا يمكن تجاهل التحركات الدولية لكسر هيمنة الدولار الأمريكي، خاصة أنها من أقطاب فاعلة في النظام الاقتصادي الدولي، كالاتحاد الأوروبي والصين وروسيا والهند وتركيا، تفوق حصتها فيه حصة الولايات المتحدة الأمريكية بكثير. وعلى الرغم من استخدام الإدارة الأمريكية قوتها العسكرية والدبلوماس­ية من أجل تكريس وضع الدولار، فإن تطور الاقتصاد العالمي وصعود اقتصادات جديدة تفوق في حجمها الاقتصاد الأمريكي ستخلق ترتيبات جديدة للنظام النقدي العالمي. وقد تُرغم الولايات المتحدة الأمريكية على القبول بترتيبات جديدة لا يكون للدولار الأمريكي المهيمن فيها، في ظل ما تواجهه من أعباء الدين الداخلي والعجز التجاري والعداء مع القوى الدولية الأخرى.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates