Trending Events

لماذا عجز الكُرد عن تأسيس دولة قومية؟

د. عبدالحكيم خسرو

- أستاذ العلوم السياسية في جامعة صلاح الدين-أربيل وباحث في معهد الدراسات والتنمية-كردستان العراق

تكشف التطورات الأخيرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط عن إخفاق الكُرد في إقامة دولتهم، ارتباطاً بعاملين أساسيين، وهما تبدل مواقف الحركات الكردية من الدولة القومية، فضلاً عن دور العامل الخارجي، وتحديداً الدور الأمريكي.

تحولات �لروؤية �لكردية

مرت فكرة الدولة القومية الكردية بمراحل متعددة، حيث تباينت المطالب الكردية من فترة لأخرى، فقد بدأت بالدفاع عن فكرة إقامة الدولة المستقلة مع بداية القرن العشرين وحتى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تراجعت بعدها للمطالبة بضمان الحقوق الثقافية والإدارية للكُرد، من خال الحكم الذاتي أو الفيدرالية.

وتصاعدت المطالب الكردية في السنوات الأخيرة لتطرح فكرة الدولة الكونفدرال­ية كنتاج لفشل نموذج الدولة في بعض الدول التي تتقاسم كردستان، خاصة سوريا والعراق، حيث طرحت القيادة السياسية الكردستاني­ة العراقية صيغة الاتحاد الكونفدرال­ي والدعوة إلى الاستفتاء لتقرير المصير، فضاً عن مطالبة الكرد في سوريا بإقليم فيدرالي في إطار كونفدرالية شرق أوسطية تحتفظ بالحدود القائمة.

وشكّل تغيير نظام الحكم في العراق بعد عام 2003 منعطفاً تاريخياً للقضية الكردية في المنطقة، خاصة بعد اعتماد النظام الفيدرالي، والتي ضمنت للکرد إقليماً فيدرالياً، وتبني النظام التوافقي في بناء المؤسسات الاتحادية الجديدة.

ولعبت الدول الإقليمية أدواراً سلبية، خاصة مع تدخلها للتأثير على الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003، لتعظيم مصالحها على حساب الشعب العراقي، وتقويض التجربة الديمقراطي­ة، وساهمت عوامل مثل الربيع العربي والحرب الأهلية في سوريا والحرب على "داعش" في تدهور الوضع السياسي في بغداد، وتنامي الاستقطاب الإقليمي، وتدخل إيران وتركيا في الشأن العراقي.

وتمثلت الرؤية الكردية لتطورات المشهد العراقي في استحالة إعادة اندماج إقليم كردستان العراق في الدولة العراقية، خاصة بعد أن أصبحت بعض الدوائر في الإقليم تنظر إلى الدولة العراقية نفسها باعتبارها مهدداً للوجود الكردي، لذا ظهرت فكرة الكونفدرال­ية. وطرحها رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني في عام 2014 باعتبارها حاً للخافات العالقة بين إقليم كردستان والحكومة المركزية، وترجم هذا النهج الجديد في استفتاء الاستقال الذي أجري في سبتمبر 2017، أماً في الدخول في مفاوضات الاستقال بين بغداد وأربيل، إلا أنه تم تجميد نتائج الاستفتاء بناء على نصائح دولية، وبسبب الموقف السلبي للدول الإقليمية والحكومة العراقية والتخوف من محاولات إجهاض تجربة الإقليم.

وفي تركيا، تراجع حزب العمال الكردستاني بدءاً من عام 2005 عن المناداة بإقامة دولة كردستان الكبرى، والتي تضم المناطق الجغرافية التي يقيم فيها الأكراد في الدول الأربع )تركيا وإيران والعراق وسوريا(. وترجم

هذا التوجه الجديد في موقف دوران كالكان، عضو مجلس إدارة منظومة المجتمع الكردستاني في حزب العمال الكردستاني، والذي عبّر فيه عن رفضه للدولة القومية وتقسيم الدول القائمة، مؤكداً أنه: "لا يحق لأحد أن يقوم بتقسيم دول تركيا وإيران والعراق وسوريا، لأننا نسعى إلى بناء نظم ديمقراطية في هذه الدول الأربع". وطرح حزب العمال الكردستاني منذ ذلك الوقت النموذج الكونفدرال­ي الديمقراطي وفق النهج الأوجاني.

وتماهى "حزب الاتحاد الديمقراطي" السوري، وهو الحزب الرئيسي المهيمن على شمال سوريا، مع توجه حزب العمال الكردستاني، حيث تبنت ديباجة العقد الاجتماعي لشمال سوريا، وهو بمنزلة دستور أحادي الجانب، فكرة الفيدرالية الديمقراطي­ة. وارتبط هذا الموقف بانسحاب الجيش السوري من غرب كردستان وشمال سوريا في عام 2013، وقيام وحدات "حماية الشعب" الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي بتسلم مواقع الجيش والانتشار في المدن والقصبات وإعان الإدارة الذاتية الديمقراطي­ة في الجزيرة وعين العرب )كوباني( وعفرين.

ويتضح من العرض السابق تخلى حزب العمال الكردستاني في تركيا وسوريا عن فكرة الدولة المستقلة أيديولوجياً، بينما ساهمت الصعوبات التي واجهت المحاولات الكردية في كردستان العراق في تجميد الاستقال مرحلياً مع بقائه كمبدأ قومي لا يمكن العدول عنه.

حدود �لدعم �لاأمريكي

لم يقدم المجتمع الدولي رؤية جديدة مختلفة عن الثوابت التاريخية في مسألة الحفاظ على وحدة أراضي دول الشرق الأوسط من دون القبول بترتيبات جديدة تسمح للكُرد بتأسيس دول مستقلة، ولذلك، رفضت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي الاستفتاء على استقال كردستان العراق في سبتمبر 2017، فضاً عن عدم الاعتراف بنتائجه.

وقامت الولايات المتحدة في أعقاب استفتاء كُرد العراق بالوقوف على الحياد، والقبول بسيطرة القوات الحكومية العراقية على المناطق المتنازع عليها بين إقليم كُردستان العراق والحكومة المركزية في بغداد، مع الحفاظ على وحدة الإقليم في الحدود التي رسمها الدستور العراقي.

وسعت واشنطن لحل بعض الخافات العالقة بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان العراق، كما توسطت لإلغاء العقوبات التي فرضتها الحكومة الاتحادية على الإقليم بعد الاستفتاء، وهيأت البيئة المناسبة لعودة الأحزاب السياسية الكُردستانية، خاصة الحزب الديمقراطي الكُردستاني، للمشاركة في العملية السياسية وخوض انتخابات مايو .2018

وأكدت واشنطن للساسة الكُرد ضرورة الالتزام بالدستور العراقي، وذلك في مقابل استمرار الدعم الأمريكي للإقليم، سياسياً وأمنياً. وترجم ذلك في البيانات المختلفة التي أصدرتها الإدارة الأمريكية والتي أكدت ضرورة "بقاء الإقليم قوياً وموحداً"، وسرعان ما تبنت الدول الأوروبية والأمم المتحدة مواقف مماثلة.

وفيما يتعلق بغرب كردستان، أو كُرد شمال سوريا، فإن العاقة الأمريكية معهم اقتصرت على محاربة الإرهاب وطرد "داعش" من المناطق التي يسيطر عليها. وشكل إعان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المفاجئ لانسحاب من كُردستان سوريا ردود أفعال قوية داخل الإدارة الأمريكية نفسها، وفي الإعام والدوائر الأكاديمية الأمريكية، والذين اعتبروا الكُرد الحلفاء الأكثر إخاصاً والأكثر وثوقاً في الحرب على الإرهاب، فضاً عن انتقاد ترامب لتكراره الأخطاء الأمريكية التاريخية، والتي أفضت في السابق إلى التخلي عن الكُرد.

ومثلت الضغوط التي مورست على الرئيس الأمريكي العامل الحاسم في التريث ودفعته إلى إبطاء الانسحاب لحين ضمان حماية الإدارة الذاتية في غرب كردستان، وإن تجاهلت الدخول في تفاصيل الإدارة ونموذج النظام السياسي والإداري للكيان القائم بحكم الأمر الواقع على الأرض، والذي لم يتوفر له بعد أي غطاء دستوري أو قانوني لشرعنته.

ولاتزال الاستراتيج­ية الأمريكية في غرب كردستان يكتنفها الغموض، وهو ما يرتبط بالمخاوف الأمريكية من أن دعم أي محاولات انفصالية كردية سوف تنعكس سلباً على الأولويات الاستراتيج­ية لواشنطن في المنطقة، والتي تمثلت أولاً في محاربة "داعش"، ثم تحولت في مرحلة تالية لتتمثل في تقويض النفوذ الإيراني، فضاً عن انعكاس هذا الدعم سلباً على العاقات التركية – الأمريكية. ومن جهة أخرى، فإن أي محاولة أمريكية لدعم الحركات الانفصالية الكردية سوف يدخلها في مواجهة مباشرة مع كل من العراق وإيران وتركيا.

ويتوقع أن تسعى الإدارة الأمريكية للبحث عن ترتيبات سياسية ودستورية تحفظ الإدارة الذاتية لأكراد في سوريا، حتى بعد الانسحاب الأمريكي من هناك.

وعلى الرغم من أن الاستراتيج­ية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط تخلو من ذكر الدولة الكُردية، فإنها لاتزال ملتزمة بحماية ودعم إقليم كُردستان العراق، فضاً عن دعم الجهود الرامية للتوصل إلى صيغة للعاقة مع بغداد تتوافق مع الدستور.

ويمكن القول إن المتغير الجديد في السياستين الأمريكية والأوروبية، يتمثل في توافقهما على ضرورة حماية الكرد من التهديدات الإقليمية والسياسة التوسعية الإيرانية والتركية على حد سواء، مع وجود تفهم نسبي عربي للقضية الكُردية وضرورة استيعابها في التوازنات الجديدة التي بدأت تتشكل في الشرق الأوسط.

وفي الختام، يمكن القول إن مراجعة الحركات الكردية السياسية لأطروحاتهم من تأسيس دولة قومية مستقلة، إلى إيجاد صيغة فيدرالية تضمن التعايش السلمي مع الدول التي يشكلون جزءاً منها، فضاً عن غياب الدعم الأمريكي والأوروبي لكيان كردي مستقل في منطقة الشرق الأوسط، إدراكاً منهما للتداعيات الاستراتيج­ية المترتبة على مثل هذا القرار، كلها عوامل ساهمت في تراجع فكرة تأسيس الدولة القومية الكردية، وإن استمرت واشنطن في لعب دور فاعل في حماية الإدارة الذاتية للكرد في كل من العراق وسوريا.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates