Trending Events

تهديد متجدد:

أسباب تنامي أنشطة "داعش" الإرهابية في إندونيسيا أ.د. شهاب إنعام خان

- أ.د. شهاب إنعام خان أستاذ دكتور بقسم العلاقات الدولية بجامعة جاهانجيرنا­جار بنجلاديش

تشير العديد من التطورات التي يشهدها جنوب شرق آسيا، خاصة إندونيسيا، إلى تنامي الأنشطة المرتبطة بتنظيم "داعش" الإرهابي، وذلك على الرغم من انحسار التنظيم في معاقله الأساسية في سوريا والعراق، وذلك ارتباطاً بعودة المقاتلين الذي حاربوا مع التنظيم، فضلًا عن وجود أكثر من جماعة موالية ل"داعش" هناك. يسعى هذا التحليل إلى إلقاء الضوء على التعددية الدينية في إندونيسيا، فضاً عن العوامل التي دفعت لظهور التطرف، سواء خال حكم سوهارتو، أو في مرحلة الإصاح، بالإضافة إلى بيان أنشطة تنظيم "داعش" الإرهابي، وتقدير المخاطر النابعة من التنظيم على الأمن الإقليمي.

�أولاً: �لتنوع �لديني في �إندوني�صيا

بلغ عدد سكان إندونيسيا في عام 2017 حوالي 264 مليون نسمة، ويقدر عدد المسلمين منهم بما يزيد على 200 مليون نسمة، مما يجعلها أكبر دولة إسامية في العالم، خاصة أنهم يمثلون 13% من إجمالي عدد المسلمين في العالم. وينتمي المسلمون إلى إثنيات وعرقيات متعددة، تتباين تصوراتهم حيال عدد من القضايا أبرزها دور الإسام في السياسة والمجتمع.

ويشبه المجتمع الإندونيسي الفسيفساء، خاصة مع انتماء حوالي 64 مليون نسمة منهم إلى ديانات أخرى أبرزها المسيحية، وهو ما يرجع إلى تأثر الأرخبيل تاريخياً بالهجرات والثقافات القادمة من أوروبا والشرق الأوسط وجنوب وشرق آسيا.

ودخل الإسام إلى الأرخبيل الإندونيسي في القرن الرابع عشر الميادي قادماً من ولاية غوجارات في غرب الهند. وبحلول نهاية القرن الخامس عشر، تأسست حوالي 20 مملكة إسامية، مما يعكس سرعة انتشار الدين الإسامي هناك، ثم أدخلت الكاثوليكي­ة إلى الأرخبيل على يد البرتغاليي­ن في القرن السادس عشر، بينما نشر الهولنديون البروتستان­تية الكالفينية واللوثريّة في خال القرن نفسه.

ودخلت اليهودية في القرن السابع عشر من هولندا مع مهاجرين من أصول هولندية وألمانية. وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر، عاشت حوالي 20 عائلة يهودية من أصول هولندية وألمانية في جاكرتا، كما استقر عدد من اليهود العراقيين في جاكارتا وسورابايا، عاصمة إقليم جاوا الشرقية، وبلغ عددهم في عام 1997 حوالي 20 يهودياً فقط)1.)

وسبق دخول الديانات الإبراهيمي­ة إلى إندونيسيا الديانات الدهارمية، مثل الهندوسية والبوذية، والتي انتشرت في القرنين الثاني والرابع الميادي على التوالي من خال التجار الهنود. ونشأت عدة ممالك متأثرة بالعقائد الهندوسية والبوذية في القرن السادس الميادي.

ثانياً: علاقة م�صطربة بين �لدين و�لدولة

لم يسع أحمد سوكارنو، أول رئيس لإندونيسيا، إلى توظيف الدين لخدمة أهدافه الداخلية، ولكن الرئيس سوهارتو، والذي حكم الباد على مدار 32 عاماً )1966 – 1998(، عمد إلى توظيف الإسام للقضاء على الشيوعيين، ثم سعى في مرحلة

تالية إلى تحجيم دوره في المجال السياسي، الأمر الذي أثار غضب الإساميين، ووضع البذور الأولى لظهور التطرف.

فقد مثّل الشيوعيون التهديد الأكبر لحكمه، ولذلك قام في عام 1965، غداة انقاب فاشل نُسب إلى الحزب الشيوعي الإندونيسي بشن حملة تطهير ضد أعضاء الحزب، ترتب عليها قتل حوالي نصف مليون شخص.

وفي أعقاب هذه الحادثة، تبنى سوهارتو سياسات تفرض على كل مواطن الانتماء إلى دين معين في محاولة منه للقضاء على الحزب الشيوعي، والذي كان أغلب أعضائه ملحدين، مما أدى إلى تحولهم إلى البروتستان­تية والكاثوليك­ية والإسام، غير أن هذه السياسة لم تحل المشكلة تماماً، خاصة مع ظهور "المسلمين بالاسم" ‪Abangan Muslims(‬ ،) أي الأفراد الذين يعتنقون الإسام ظاهرياً، غير أنهم لا يدينون به فعلياً.

ولذلك عمد سوهارتو، خال الفترة الممتدة من منتصف الثمانينيا­ت وحتى أواخر العقد من القرن العشرين، إلى مواجهة المسلمين "غير الحقيقيين" من خال نشر التعليم الديني في القرى الإندونيسي­ة، التي يشك في صحة إسام أصحابها)2(، وهو ما لاقى قبولاً من الحركات الإسامية المحافظة في الباد.

وفي أعقاب التخلص من الشيوعيين، عمد سوهارتو إلى اتباع سياسة مناقضة لأولى، حيث سعى لتحجيم دور الدين لتعزيز سلطته المطلقة، خاصة في مواجهة الأحزاب الإسامية، فأجبرها في عام 1973 على الاندماج في حزب واحد هو "حزب التنمية المتحد" ‪United Developmen­t(‬ Party،) كما حرص على ألا يتم اعتبار الإسام كأيديولوجي­ة رسمية للحزب، نظراً لرغبته في حصر دور الإسام في الجانب الروحي، وعدم توظيفه في المجال السياسي، وسعى الرئيس الإندونيسي إلى توحيد الباد خلف هدف واحد، وهو تحقيق "التنمية".

ودفعت هذه السياسات إلى زيادة غضب الجماعات الإسامية على سوهارتو، خاصة مع عدم إقدامه على إصاح التعليم، وتعديل القوانين بما يتوافق مع الشريعة الإسامية، فضاً عن اتباعه سياسات منفتحة على الديانات الأخرى، والسماح للمسيحيين بتولي العديد من المناصب الحكومية المؤثرة، وهو ما ترتب عليه في النهاية تنامي الحركات الإسامية المتطرفة.

ومن جهة أخرى، برزت حركة موازية ساعية لأسلمة المجتمع في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، وكانت تحظى بدعم جزئي من ضباط الجيش. وفي هذه الأثناء، تأسس الجيل الأول من الجماعات الإرهابية الإندونيسي­ة ممثلة في "كوماندو جهاد"، والذي يعتقد أنه تشكّل بدعم من إحدى فرق القوات الخاصة للجيش الإندونيسي "كوباسوس")3(. وقام التنظيم بأول عملية إرهابية في 11 نوفمبر 1972، عندما فجر قنبلة داخل مسجد نور الإيمان في مدينة بادانج السياحية.

ثالثاً: ت�صاعد �لاإرهاب بعد �صوهارتو

مع انتهاء الحرب الباردة في عام 1991، بدأت الولايات المتحدة تركز على الجرائم التي ارتكبها سوهارتو بعد سابق تجاهلها لها، خاصة بعد إقدام الجيش الإندونيسي في نوفمبر من العام نفسه بإطاق النيران على تظاهرات في تيمور الشرقية تطالب بالانفصال عن إندونيسيا، وترتب عليها سقوط 250 فرداً من المتظاهرين، الأمر الذي أدى إلى توتر العاقة بين جاكارتا وواشنطن، وأصدر الكونجرس في عام 1992 قراراً بتقييد المساعدات التدريبية والعسكرية للجيش الإندونيسي) 4 .)

ومن جهة ثانية، أضعفت الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997 وضع سوهارتو، مما اضطره إلى التخلي عن منصبه في عام 1998، ليبدأ عهداً جديداً عرف باسم "ريفورماسي" أي "الإصاح"، وأرخيت القيود المفروضة على عمل المنظمات الإسامية المتشددة، وأُطلق سراح العديد من المتطرفين من السجون، كما عاد إلى إندونيسيا الإرهابيون الذين غادروها خال حكم سوهارتو)5.)

وعلى الرغم من الحرية التي تمتعت بها التيارات المتطرفة في إندونيسيا في مرحلة ما بعد سورهاتو، فإن هذه التيارات مُنيت بهزيمة كبيرة في انتخابات عام 1999، حيث لم ينجح في الحصول سوى على عدد محدود من الأصوات، وهو أحد الأسباب التي دفعتها إلى التخلي عن الآلية الديمقراطي­ة ومحاولة توظيف العنف للوصول إلى السلطة.

ونشأت في هذا الإطار تنظيمات إرهابية مثل مجلس المجاهدين الإندونيسي­ين، وجبهة المدافعين عن الإسام، والجماعة الإسامية، وعسكر الجهاد. وتشترك هذه التنظيمات في رؤيتها الداعمة لتطبيق الشريعة الإسامية، وتبنيها أيديولوجية مناهضة للغرب، وتوظيفها العنف والإرهاب لتحقيق أهدافها.

وكانت أبرز هذه التنظيمات الإرهابية هي الجماعة الإسامية، الموالية للقاعدة، التي أدينت بارتكاب أكثر الهجمات الإرهابية عنفاً في تاريخ الباد خال السنوات ال 18 الماضية، ففي 25 ديسمبر 2000، زرعت قنابل في 11 كنيسة منتشرة في مناطق مختلفة من إندونيسيا، مما أسفر عن مقتل 19 شخصاً، تلتها تفجيرات بالي الإرهابية في عام 2002 عندما قامت بتفجير قنبلتين بصورة متزامنة في نادٍ ليلي، مما أسفر عن مقتل 202 شخص، معظمهم من السياح الأجانب، وغيرها الكثير، الأمر الذي جعل "الجماعة الإسامية" من أكثر الجماعات الإرهابية عنفاً في العالم)6.)

ودعمت الولايات المتحدة الحكومة الإندونيسي­ة في عام 2003 عبر مساعدتها على تأسيس "الفرقة الخاصة 88"، وهي

فرقة خاصة لمكافحة الإرهاب، وأمدتها واشنطن بالتمويل، فضاً عن تدريب أعضائها على يد وكالة الاستخبارا­ت المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، الأمر الذي عزز من فاعلية الوحدة في إضعاف الجماعة الإسامية)7.)

ر �بعاً: �صعود " �لاأ�صر �لانتحارية"

نجحت الجهود السابقة في القضاء على القاعدة، غير أن أبو بكر باعشير، أحد مؤسسي الجماعة الإسامية، تمكّن من إنشاء تنظيم جديد عرف باسم "جماعة أنصار التوحيد" في عام 2008، والتي نفذت هجمات متعددة ضد المدنيين وأفراد الشرطة والجيش، كما خرج من رحم هذه الجماعة تنظيم جديد في عام 2015، وهو جماعة أنصار الدولة، والتي بايعت "داعش" في سوريا والعراق. وشرعت بدءاً من يناير 2016 في تنفيذ سلسلة من الهجمات الانتحارية ضد المدنيين والشرطة) 8 .)

وركز "داعش" على غرار التنظيمات الإرهابية السابقة على استهداف المسيحيين، وذلك لتعزيز الانقسام المجتمعي، وإيجاد أرضية مناسبة لتجنيد المتطرفين، الذين يرفضون النظر إلى المسيحيين باعتبارهم متساوين في الحقوق مع المسلمين. غير أن التنظيم عمد إلى اتباع تكتيكات مختلفة عن تلك التي كانت مألوفة من جانب تنظيمات الإرهاب المحلي، خاصة توظيف أسلوب "الأسر الانتحارية".

ففي 13 مايو 2018، هاجم ستة أفراد من العائلة نفسها ثاث كنائس في سورابايا بجاوة الشرقية، حيث استهدف الأب كنيسة منهم، واستهدف أبناؤه المراهقون كنيسة أخرى، وقامت زوجته وابنتاه، وعمرهما 12 و9 سنوات، بتفجير أنفسهن في الكنيسة الثالثة، مما أودى بحياة 12 مصلياً)9(. وفي 14 مايو، حاول زوجان وثاثة من أبنائهما تفجير مقر شرطة في سورابايا، ولم تنج من الحادثة سوى طفلة)10.)

خام�صاً: �ل�صيولة �لتنظيمية ل"د�ع�س"

صرح قائد الجيش الإندونيسي الجنرال جاتوت نورمانتيو في يونيو 2017 بأن هناك خايا نائمة ل"داعش" في أقاليم الباد كافة تقريباً. وعلى الرغم من أن معظم المنتسبين ل"داعش" اليوم في إندونيسيا لم يسبق لهم السفر إلى سوريا أو العراق، ومن ثم يفتقدون إلى المهارات والخبرات القتالية، فإن الخطر الأكبر يكمن في استمرار ولائهم ل"داعش"، فضاً عن إمكانية قيام المقاتلين الذين حاربوا مع "داعش" في سوريا والعراق وعادوا إلى الباد، وعددهم حوالي مائتين من إجمالي 700 مقاتل، بتأسيس خايا إرهابية جديدة، ونقل خبراتهم إلى الإرهابيين المحليين.

ومن جهة ثانية، يعد أحد التهديدات النابعة من "داعش" هو غياب تنظيم مركزي واحد يضم الموالين للتنظيم، بل يوجد العديد من الجماعات المحلية والأفراد الذين بايعوا التنظيم، والذين لا يرتبط بعضم ببعض في إطار تنظيمي واضح، الأمر الذي يعقد جهود مكافحة "داعش". ومن جهة ثالثة، فإن صعود "داعش" في إندونيسيا خال عام 2018 جاء في الوقت الذي ينحصر فيه التنظيم الأم في سوريا والعراق، وهو ما يكشف عن عدم تأثير تراجع التنظيم الأم على نشاط التنظيمات الفرعية المرتبطة به.

وفي مواجهة هذا التهديد، شرع البرلمان الإندونيسي في تعزيز صاحيات الأجهزة الأمنية، إذ أقر تشريعاً جديداً لمكافحة الإرهاب يجيز للشرطة أن تطلب من الجيش القيام بعمليات عسكرية ضد التنظيمات الإرهابية بعد موافقة الرئيس، فضاً عن احتجاز "المدانين بالإرهاب" لمدة تصل إلى 21 يوماً من دون تهمة، ومائتي يوم إضافي إذا احتاجت الشرطة إلى وقت أكبر لجمع الأدلة)11(، بالإضافة إلى إطاق يد الأجهزة الأمنية في التجسس على الاتصالات بأنواعها، لإحباط أي عمليات إرهابية يجري التخطيط لها)12.)

وفي الختام، يمكن القول إنه على الرغم من محدودية عدد الإندونيسي­ين الذين التحقوا بتنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا والعراق، مقارنة بدول أخرى، فإن تضاريس الأرخبيل الإندونيسي وعدد سكانه الهائل يعني أنه أي زيادة، ولو طفيفة، في عدد المتطرفين قد تشي بكارثة على المجتمع وعلى الاستقرار الإقليمي، خاصة مع مركزية إندونيسيا لتنظيمات الإرهاب في منطقة جنوب شرق آسيا.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates