Trending Events

中华人民共和国

تحول الصين إلى ”سياسات أكثر واقعية“على الساحة الدولية

- خالد حسين

الحديث عن صعود جمهورية الصين الشعبية (中华人民共和国) لا يُعد أمراً جديداً بالنظر إلى أن العديد من الدراسات والأبحاث التي تناولت هذه القضية على مدار السنوات الماضية، مفصلةً أسباب وملامح هذا الصعود والعديد من الجوانب المرتبطة به، غير أن الظاهرة الجديدة نسبياً تبدو في تحول الصين إلى انتهاج ”سياسات أكثر“واقعية في تحركاتها الإقليمية والعالمية وتغير لغة الخطاب المُوجهَّة للخارج، وهو ما بدا واضحاً في ظل حكم الرئيس الصيني الحالي ”تشي جين بينج“الذي تولي منصبه في 14 مارس 2013، ثم أُعيدَ انتخابه مرة أخرى في 17 مارس 2017، حيث يلعب ”بينج“دوراً كبيراً في هذه التحولات، بما يحمله من فكر يصب في تحقيق هدف ”جعل الصين عظيمة مرة أخرى“.

ويبدو التحول في طبيعة الصعود الصيني واضحاً في أمرين رئيسيين، الأول: يتعلق بتغير لغة الخطاب الصيني، والثاني: يتمثل في مظاهر هذا الصعود؛ فقد باتت لغة المسؤولين الصينيين أكثر جرأة في الدفاع عن مصالح بلادهم، وأصبحت تحركاتهم تتسم بالمبادرة وليس رد الفعل. ولم تعد مظاهر الصعود تقتصر فقط على الجانب الاقتصادي، وإنما امتدت تلك المظاهر لتشمل الرغبة في ممارسة نفوذ سياسي وعسكري ليس فقط في المحيط الإقليمي القريب وإنما أيضاً، وهو الأهم، في المحيط الدولي، وذلك سعياً إلى تعظيم مصالح بكين وحمايتها، في دلالة واضحة ربما على الرغبة في التوسع والتمدد.

وعلى ضوء ذلك تبرز مجموعة من التساؤلات التي تتعلق بطبيعة الصعود الصيني في هذه المرحلة، من بينها: ما هي المبادئ الواقعية الحاكمة للسياسة الصينية؟ وما هي السياسات التي تتبعها الصين لتعزيز صعودها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً؟، وما هي مظاهر التحول في الصعود الصيني، أي كيف تمارس الصيني نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري إقليمياً ودولياً؟ أو ما هي التحركات التي تقوم بها الصين على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادي­ة لممارسة نفوذها الإقليمي والدولي؟، وكيف يرى العالم الغربي، الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، هذا التحول الصيني؟ وما هي السياسات الغربية لمواجهة هذا الصعود الصيني وتطويقه؟!

اأولً: المبادئ الواقعية الحاكمة لل�صيا�صة ال�صينية

هناك مجموعة من المبادئ الواقعية الحاكمة للسياسة الصينية التي تعكس في جانب منها فكرة الصعود، وتنبع هذه المبادئ عامةً من فكر الرئيس الصيني، شي جين بينج، الذي يعمل على نهوض الصين واستعادة مكانتها، وتتركز في ثماني قضايا أساسية من بينها، العمل على تحويل الصين إلى دولة عظيمة ومزدهرة وقوية)1(، وهو ما أطلق عليه الرئيس بينج "الحلم الصيني"، ويتضمن جزءين، الأول هو زيادة مستوى معيشة الشعب الصيني، والثاني تحقيق صعود الصين كقوة عظمى. ووفقاً للرئيس بينج فإن الحلم الصيني يتجسد في "هدف استكمال بناء دولة ثرية وقوية وديمقراطية ومتحضرة واشتراكية حديثة متناغمة"، وتوقع تحقق ذلك بحلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949.

وسياسياً، فإن هذا "الحلم الصيني" من أهدافه: ضمان الرخاء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، وتوسيع نطاق السلطة الوطنية للدولة بما في ذلك التطوير العسكري والعاقات الدولية)2(. وفي هذا الصدد شهدت السياسات الصينية تطوراً ملحوظاً منذ تولي الرئيس بينج مقاليد الحكم، وهو ما يمكن رصد أبرز مامحه في الآتي: 1- تبني مفاهيم أمنية جديدة: دأب قادة الصين على تأكيد عدم نية بادهم في التوسع الخارجي، ربما في محاولة طمأنة الدول المجاورة وكذلك الدول الغربية التي تتوجس من الصين، ولكن مع تنامي قوة الصين الاقتصادية كانت دائماً تأتي تلميحات بأن الصين يمكن أن تلجأ للتوسع من أجل حماية مصالحها أو ما تعتبره حقوقها المشروعة.

ويؤكد على ذلك تصريح الرئيس بينج خال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الوطني للحزب الشيوعي في أكتوبر 2017، أن الصين لن تسعى أبداً وراء الهيمنة، ولن تقوم بالتوسع الخارجي أبداً، مهما بلغ مستواها في التنمية"، مشدداً أن تنمية الصين لا تشكل تهديداً على أية دولة أخرى"، لكنه أكد في السياق ذاته أن الصين لن تتخلى أبداً عن حقوقها ومصالحها المشروعة، قائاً: "لن يُسمَح لأي شخص بتخيّل محاولة إجبار الصين على ابتاع ثمرة مُرة تضر مصالحها الخاصة") 3 .)

وواقعياً، تبدو فكرة التوسع الخارجي واضحة في سياسات الصين الخارجية، إذ تسعى بكين إلى التوسع إقليمياً ودولياً في إطار ما تراه حفاظاً على مصالحها؛ وعلى الرغم من أن الكتاب الأبيض المعني بالدفاع، والمنشور في عام 2015 أكد على "الطبيعة الدفاعية لسياسات الدفاع الوطنية للدولة"، وأوضح أن الصين "لن تسعى أبداً لفرض الهيمنة أو التوسع"، فإنه أقر أيضاً بوجود "متطلبات جديدة" فرضت على الجيش تهيئة "تموضع استراتيجي مائم" و"ضمان التطور السلمي للباد". كما أبرز الكتاب الأبيض الحاجة إلى حماية "المصالح الاستراتيج­ية المتنامية" للدولة على نحو أفضل، ودعا جيش التحرير إلى "التوسيع الفعال لنطاق التعاون العسكري والأمني وتعزيز وضع إطار إقليمي للأمن والتعاون".

وتسعى الصين من خال هذه الاستراتيج­ية إلى تشكيل بيئة أمنية إقليمية سلمية ومستقرة تنهض فيها بدور رئيسي، في حين تفتقر فيها الدول الأخرى إلى القدرة على تهديد مصالحها "الرئيسية" عسكرياً)4(. وينعكس هذا في التطبيق في رغبة بكين في فرض هيمنتها على المحيط الإقليمي، وتهيئة بيئة إقليمية آسيوية تخلو من أي قوى خارجية، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية؛ ولهذا دأبت الصين على انتقاد هيكل التحالف الأمريكي في آسيا، وسعت إلى تشكيل هياكل أمنية تتولى زعامتها، حيث طرح الرئيس بينج خال مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا، والذي عقد في الصين في مايو 2014، "المفهوم الأمني الآسيوي الجديد للتقدم في التعاون الأمني". وتأمل بكين من وراء هذا الطرح إقامة بنية أمنية قوية تقودها بحيث تكون بمنزلة بنية موازنة مقابلة لنظام التحالف الأمريكي أو حتى بدياً لها)5.) 2- سياسة فرض الأمر الواقع إقليمياً: أصبحت سياسة فرض الأمر الواقع من المبادئ التي تعتمدها الصين في سياستها الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بنزاعاتها الحدودية في آسيا، حيث تلجأ إلى فرض الأمر الواقع بالقوة في محاولة لتأكيد موقفها في هذه النزاعات حتى لو كان ذلك مخالفاً لقواعد القانون الدولي؛ وهو ما ينطبق على سياسة الصين فيما يتعلق بنزاعاتها البحرية في بحر الصين الجنوبي، وهو الأمر الذي أكدته الدول المعنية في هذه النزاعات، فقد حذرت وزارة الدفاع اليابانية في كتاب أبيض نشر في 2 أغسطس 2016 من أن سياسة الأمر الواقع التي تنتهجها الصين لتعزيز موقفها في الخافات البحرية في آسيا قد تفضي إلى نزاعات، وقالت الحكومة اليابانية إن "الصين لا تزال تتصرف خصوصاً في المسائل البحرية، حيث تخالف مصالحها مصالح الآخرين، بأسلوب سلطوي وتحاول تغيير الوضع القائم بالقوة"، ونشرت وزارة الدفاع اليابانية هذا التقرير إثر القرار الصادر عن محكمة التحكيم الدائمة في

لاهاي، والذي قضى بأن بكين ليس لها "أي حقوق تاريخية" تبرر مزاعمها بالسيادة على بحر الصين الجنوبي)6.)

وعلى الرغم من نفي بكين الدائم لمثل هذه الاتهامات، فإن تتبع مواقفها من النزاعات في بحر الصين الجنوبي يؤكد اعتمادها هذه السياسة، إذ تطالب بالسيادة شبه الكاملة على البحر، وترفض مطالب الدول الأخرى المشاطئة، وهي، الفلبين وفيتنام وماليزيا وسلطنة بروناي، وتلوح أحياناً باستخدام القوة واللجوء إلى الحرب.

وفي هذا السياق تبرز تصريحات الرئيس الصيني عقب جولة في أكتوبر 2018 ضمت مقاطعة كوانجدونج، حيث توجد قيادة المنطقة الجنوبية التي من ضمن مهامها الإشراف على بحر الصين الجنوبي، إذ أمر الرئيس جيش باده بمراقبة بحر الصين الجنوبي وتايوان، لتقييم الوضع وتعزيز قدراته حتى يتمكن من التعامل مع أي حالة حرب طارئة، وقال بينج: "من الضروري تعزيز المهمة.. وتركيز الاستعدادا­ت لخوض الحرب")7.)

وتبدو هذه السياسة واضحة في أمرين رئيسيين، هما رفض حكم محكمة التحكيم في لاهاي، وقيام الصين ببناء منشآت على جزر سبراتلي الواقعة في البحر والمُتنازع عليها وإنشاء جزر صناعية وتسليحها؛ فقد قال الرئيس بينج: "إن سيادة الصين الإقليمية وحقوقها البحرية في البحار لن تتأثر بالقرار بأي شكل من الأشكال"، وأكدت الصين، التي قاطعت جلسات المحكمة، أنها ستتجاهل القرار، وشددت على أن قواتها المسلحة ستدافع عن سيادة الباد ومصالحها البحرية) 8 .)

وتوازياً مع ذلك الرفض، تطبق الصين سياسة الأمر الواقع من خال تأسيس منشآت على جزر سبراتلي وجزر صناعية في البحر وتعمل على تسليحها، مشيرة إلى أن ما تقوم بإنشائه هو مبانٍ ومشروعات سلمية، ولكن العديد من التقارير تُجمِع على أن هذه الإنشاءات تتضمن جانباً عسكرياً، فعلي سبيل المثال، أفادت "مبادرة الشفافية البحرية لآسيا" التابعة لمركز واشنطن للدراسات الاستراتيج­ية والدولية، بأن الصين تواصل تركيب رادارات عالية التردد ومنشآت أخرى يمكن استخدامها لأغراض عسكرية على جزرها الصناعية في بحر الصين الجنوبي)9(. كما أعلن مسؤولون في المخابرات ووزارة الدفاع الأمريكية في فبراير 2017، أن الصين شيدت هياكل على الجزر الصناعية التي أنشأتها في بحر الصين الجنوبي، تبدو مصممة لإيواء بطاريات صواريخ أرض جو طويلة المدى)10.) 3- السعي إلى السيطرة على الاقتصاد العالمي: يمثل السعي إلى السيطرة على الاقتصاد العالمي أحد المبادئ الأخرى الواقعية الحاكمة للسياسات الصينية في هذه المرحلة، حيث نجح الرئيس بينج خال فترة رئاسته الأولى )2012 - 2017( في نقل الباد من نموذج اقتصادي يقوم على السلع المُصنَّعة المنخفضة التكلفة وذات القيمة المضافة إلى نموذج اقتصادي يركز على الصناعات والخدمات المتقدمة والاستهاك المحلي)11(، ثم طرح بينج خال المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي فكراً اقتصادياً جديداً سُمي ب "فكر شي جين بينج في اشتراكية ذات خصائص صينية في عصر جديد" 12)(، تتضمن مزيداً من الانفتاح على العالم، لأن الانغاق يفقد القدرة على التغلغل والسيطرة، ويبرز هدف بينج من وراء فكره الاقتصادي في قوله: "الأمة الصينية صمدت وأصبحت غنية وقوية وتمتلك الآن مقومات التجديد، وفي العصر المقبل ستقترب الصين أكثر من مركز الصدارة وستقدم مساهمات أكبر للجنس البشري")13(، ولذا يركز بينج على العوامل التي تساعد في تغلغل الاقتصاد الصيني في مفاصل الاقتصاد العالمي، من خال ما يسمى المعاملة المنصفة للشركات الأجنبية وتعزيز دور السوق وإضفاء مرونة أكبر في الدخول إلى السوق الصيني ومواصلة تحرير سوق العمات)14.) ويبدو أن الصين تتقدم لتحقيق هذا الهدف، وهو ما تؤكده مجموعة من المؤشرات الاقتصادية التي برزت بوضوح، خاصة بعدما أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي، ومن هذه المؤشرات ما يلي)15:) • تقلص الفارق بين حجم الناتج المحلي الإجمالي الصيني ونظيره الأمريكي من نحو 9.073 تريليون دولار في عام 2000، إلى نحو 7.170 تريليون دولار في عام 2016، وإلى نحو 6.4 تريليون دولار في عام 2017. وتذهب توقعات صندوق النقد الدولي إلى احتمال تراجع هذا الفارق إلى نحو 5.469 تريليون دولار في عام 2020، مع توقع الصندوق أن يبلغ الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في هذا العام نحو 21.927 تريليون دولار، مقابل نحو 16.458 تريليون دولار لنظيره الصيني. • باتت الصين أكبر دولة مُصدِّرة للسلع في العالم منذ عام 2009 بعدما تجاوزت ألمانيا في هذا الصدد، وأضحت أكبر دولة من حيث إجمالي حجم التجارة الخارجية منذ عام 2014، بعدما تجاوزت الولايات المتحدة. • أصبحت الصين الشريك التجاري الأهم والأكثر نفوذاً وتأثيراً في كثير من الدول والمناطق حول العالم، بما في ذلك القوى الاقتصادية الكبرى. • باتت الصين ثاني أكبر مستثمر على مستوى العالم في مجال البحث والتطوير بعدما أصبحت تنفق نحو 20% من إجمالي الإنفاق العالمي على البحث والتطوير.

ثانياً: اأبرز اأدوات تعزيز ال�صعود ال�صيني

تتبع الصين مجموعة من السياسات الاقتصادية والتجارية والعسكرية، بهدف تعزيز صعودها إقليمياً وعالمياً في المستقبل، ويمكن عرض أبرز هذه السياسات بإيجاز فيما يلي:

1- سياسات اقتصادية/ تجارية )مبادرة الحزام والطريق(: تمثل مبادرة حزام واحد.. طريق واحد" التي أعلنها الرئيس بينج في عام 2013 إحدى أدوات تعزيز نفوذ الصين على اعتبار أن الاقتصاد والتجارة يمثان محركاً رئيسياً لهذا الصعود، فالمبادرة تعد التعبير الأيديولوج­ي لسعي الصين نحو تعظيم قدراتها الاقتصادية العالمية، وكذا تطلعها السياسي إلى الصعود قطباً دولياً مهماً وإن لم يكن مهيمناً)16.)

وأصبح اسم المبادرة في مايو 2017 "الحزام والطريق"، والتي تمثل إحياءً لطريق الحرير القديم الذي كان يربط الصين براً بمنطقة وسط آسيا والبحر المتوسط، وتهدف إلى ضخ استثمارات ضخمة لتطوير البنى التحتية للممرات الاقتصادية العالمية، لربط أكثر من 70 بلداً، وهي عبارة عن مشروع يهدف إلى إنشاء شبكة طرق برية من سكك الحديد والطرق عبر آسيا الوسطى وروسيا، وحزام بحري يسمح للصين بالوصول إلى أفريقيا وأوروبا عبر بحر الصين والمحيط الهندي، بكلفة إجمالية تبلغ تريليون دولار) 17 .)

وقبل الحديث عن كيفية توظيف الصين لهذه المبادرة كسياسة تعزز من صعودها، تكشف نظرة سريعة على بعض الحقائق بخصوصها عن مدى أهميتها، وذلك على النحو التالي)18:) • أعلنت الصين في 8 نوفمبر 2014، تخصيص 40 مليار دولار لإقامة صندوق طريق الحرير لدعم مشروعات الحزام والطريق. • بحلول 26 أغسطس 2018، وصل عدد قطارات الشحن بين الصين وأوروبا إلى 10 آلاف. • خال السنوات الخمس الماضية، تخطت تجارة الصين للبضائع مع الدول على طول الحزام والطريق 5.5 تريليون دولار أمريكي، ووصل الاستثمار الصيني المباشر في القطاعات غير المالية في هذه الدول إلى أكثر من 80 مليار دولار أمريكي. • أسست الصين خال السنوات الخمس الماضية 82 منطقة تعاون اقتصادي وتجاري في الدول الواقعة على طول الحزام والطريق، حيث استثمرت 28.9 مليار دولار. • تقدر قيمة عقود البناء الجديدة التي تقوم بها الصين على طول الحزام والطريق بنحو 57.11 مليار دولار. • وقعت أكثر من 100 دولة ومنظمة دولية بحلول يوليو 2018 على وثائق تعاون مع الصين في إطار مبادرة الحزام والطريق، ما وسع نطاق المبادرة من أوراسيا إلى أفريقيا وأمريكا الاتينية ومنطقة الكاريبي ومنطقة جنوب الباسيفيك.

وبالنظر إلى هذه الحقائق وإلى الأموال الضخمة التي وعدت الصين بإنفاقها على المبادرة، فإنه يصعب القول إن هدف بكين هو فقط "تعزيز التعاون الاجتماعي والاقتصادي" مع الدول المشاركة في المبادرة، وإنما هناك با شك أهداف أكثر أهمية، إذ يشير محللون إلى أن أحد أهداف الصين الحقيقية من المبادرة هو رغبتها في المحافظة على أسواق التصدير وفتح أسواق تصدير جديدة، حيث تخلق المبادرة تعاوناً تجارياً ثنائياً أو أكثر يتحول تدريجياً إلى تحالفات تجارية ترسخ مكانة الصين تجارياً وبشكل مستدام، كما ترغب الصين في الوقت نفسه في دعم اليوان وزيادة نسبة التبادل التجاري به في محاولة لتقليل تكلفة التبادل التجاري وتقليل مخاطر تقلبات أسعار الصرف بالنسبة للشركات الصينية) 19 .)

ويضيف آخرون أن المبادرة تخدم أهداف بكين الطموحة الأخرى في السياسة الخارجية، والتي تتمثل في الوصول إلى أو حتى الاقتراب من تحقيق التكافؤ الاستراتيج­ي مع الولايات المتحدة في آسيا، إذ إن من الهواجس الرئيسية هي قطع طرق التجارة الصينية في حالة المواجهة مع الولايات المتحدة، نظراً لكونها محاطة بسلسلة من الأصدقاء والحلفاء الأمريكيين، ومن شأن المبادرة أن تزيد من نفوذ بكين في الدول الواقعة على طول "الحزام والطريق"، بدءاً من شرق آسيا، مروراً بالمحيط الهندي وآسيا الوسطى، وصولاً إلى الشرق الأوسط ومنه إلى أفريقيا وأوروبا)20.)

ويرى آخرون أن للمبادرة أيضاً أهدافاً عسكرية، فجيبوتي التي أقامت فيها الصين قاعدة عسكرية في عام 2017 باتت في قلب مشروع "الحزام والطريق"، وهو ما أكدته صحيفة "ساوث تشاينا مورنينج بوست" الصينية، عندما قالت في تقرير إن المشروع الصيني هو "إلى حد كبير تجاري بطبيعته، لكنه أيضاً يعكس حاجة الصين لتعزيز وجودها العسكري لحماية مصالحها المتنامية خارج حدودها"، خاصة أن جيبوتي تعد بوابة قناة السويس التي يمر عبرها 10% من صادرات النفط العالمية، و20% من السلع التجارية، لذا تُولي الصين لها أهمية كبرى)21.) 2- تحديث الجيش ووضع استراتيجية عسكرية جديدة: إلى جانب السياسات الاقتصادية والتجارية، وضعت الصين سياسات عسكرية لتعزيز صعودها على المستويين الإقليمي والدولي، وهو ما يتبلور بصورة خاصة في تحديث الجيش الصيني وتطوير قدراته؛ فقد وعد الرئيس بينج في أكتوبر 2017 بتعزيز قدرات الجيش الصيني وزيادة الكفاءة والابتكار في الأسلحة، وأوضح أن صعود الصين لن يتوقف وأنها ستصبح قوة عسكرية عظمى، وتعهد بالميكنة الكاملة لجيش التحرير الشعبي بحلول عام 2020، والتحديث الكامل للقوات

تؤكد تحركات قادة الصين أن بكين أضحى لديها مفاهيم جديدة تختلف عن الحقبة السابقة، سواءً فيما يتعلق بالاستقرار الداخلي والأمن الإقليمي؛ حيث لم تعد فكرة التوسع بعيدة عن مصالح الصين الوطنية، أو فيما يتعلق بدور الصين العالمي؛ خاصة محاولة السيطرة على الاقتصاد العالمي بما يفرضه ذلك من تداعيات سياسية وأمنية في العقدين القادمين.

المسلحة والدفاعات الوطنية بحلول عام 2035، وتحويل الجيش الصيني إلى قوة عالمية بحلول عام 22( 2050.)

ويكشف ذلك عن رغبة الصين في تحويل جيشها إلى جيش عالمي يكون داعماً للصعود الصيني وقادراً على أداء المهام التي يفرضها هذا الصعود، حيث لن تقتصر مهام الجيش الصيني في هذه الحالة على المهام التقليدية للجيوش العادية التي تنحصر في حماية حدود الدولة، وإنما قد تمتد تلك المهام لتشمل خارج الحدود. وفي هذا الصدد أشار محللون إلى أن المهام الموكولة للجيش الصيني توسعت بشكل يتناسب مع الدور العالمي المتزايد للصين، وباتت تشمل تشكيل البيئة الأمنية الدولية والإقليمية، والمساعدة الإنسانية والاستجابة للكوارث، ودعم الاستقرار الإقليمي والدولي، والدفاع عن المصالح الرئيسية المتمثلة في دعم الاستقرار الداخلي، ومنع استقال تايوان، والدفاع عن المطالبات البحرية والمصالح الاقتصادية للصين، والدفاع عن الحدود، وحماية أصول ومواطني جمهورية الصين في الخارج)23.)

وفيما يتعلق بالتكتيكات والاستراتي­جية العسكرية للجيش الصيني، فقد أعرب الجيش الصيني عن رغبته في تحديث تكتيكاته القتالية لتشمل مناورات هجومية، وليس فقط تلك المتعلقة بالدفاع عن النفس، وشدد الجيش في تعليق رسمي نقلته صحيفة "ساوث تشاينا مورننج بوست" في نوفمبر 2018، على الحاجة إلى "دمج التحركات البرية ذات القدرات الجوية، مع استباق تحركات العدو بهجمات خاصة"، وجاء في التعليق أن "التخطيط الاستباقي يمكن أن يكسر الموقف السلبي ويسيطر تماماً على الكيفية التي يجب أن تخرج بها الحرب، مضيفاً: "إذا كانت حرباً برية جديرة بالاعتماد على خطط سابقة التصميم، فإن القوات يمكن أن تضرب الأعداء بشكل مباغت وتستفيد من الأسلحة إلى حد بعيد، مما يجعل احتمال الانتصار أقرب إلى أيدينا")24(. كما تطورت أيضاً الاستراتيج­ية العسكرية للجيش الصيني، خاصة مع تطور تقييمات الصين للتهديدات ولمكانتها في العالم، حيث أصبحت تلك الاستراتيج­ية أكثر تركيزاً على مواجهة التهديدات داخل المنطقة وخارج حدود الصين المباشرة، خاصةً تلك التي تؤثر على المطالب الإقليمية في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي)25.)

ولا تختلف الحال بالنسبة لمظاهر تحديث الجيش الصيني، حيث عمدت الصين إلى تزويد جيشها بأسلحة نوعية متطورة، خاصة مع تنامي ميزانية الدفاع الصينية، التي بلغت نحو 175 مليار دولار في عام 2018 وفقاً لتقرير ميزانية قدم للدورة الأولى للمجلس الوطني ال 13 لنواب الشعب الصيني، بعدما كانت نحو 161.87 مليار دولار في عام 26( 2017.)

وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى بعض الأمثلة حول طبيعة الأسلحة التي يتم تزويد الجيش الصيني بها)27:) • ظهور الطائرات المسيَّرة، حيث كانت الصين قد كشفت النقاب في عام 2014 عن تفاصيل أربع طائرات من دون طيار تخضع للتطوير، ثاث منها مصمَّمة لحمل أسلحة. • المركبات الانزلاقية بسرعة فوق صوتية، وهي إحدى التقنيات التي اختبرها الجيش الصيني في السنوات الماضية، وهذه المركبة قادرة على إطالة مدى الصواريخ الباليستية الصينية ضد الأهداف البرية والبحرية. • حامات الطائرات، حيث تمتلك الصين حاملتي طائرات، الأولى هي "لياونينج"، وقد أبحرت بالفعل، والثانية تم تصنيعها محلياً وتم تدشينها في عام 2017، وبدأت أولى رحاتها التجريبية في 13 مايو 2018. كما تطور الصين حاملة طائرات ثالثة من طراز 002، التي يبلغ وزنها 80 ألف طن وستحمل 40 طائرة.

كما كشفت الصين في صيف عام 2017 عن أحدث

سفنها العسكرية من طراز 055، وهي مدمرة تصل حمولتها إلى 12 ألف طن، وأعلنت خال شهر فبراير 2018 إطاق أول طائرة مقاتلة محلية الصنع "شينجدو جي 2" يُطلق عليها "النسر الأسود"، لتكسر الاحتكار الأمريكي لصناعة الطائرات الشبح. كما عملت على تطوير مقاتلتها المحلية الثانية التي يطلق عليها "شينيانج جي 31"، التي يُعتقد أنها ستضع الصين على طريق مزاحمة الولايات المتحدة في تصدير المقاتات)28.)

ثالثاً: تحركات ال�صين ال�صيا�ص�ية والع�ص�كرية على الم�ص�تويين الإقليمي والدولي

انعكس الصعود الصيني في العديد من التحركات السياسية والعسكرية التي قامت بها الصين على المستويين الإقليمي والدولي. ولعل أبرز هذه التحركات على المستوى العسكري هو بناء قواعد عسكرية في الخارج، وعلى المستوى السياسي تعزيز عاقاتها مع الدول الأفريقية ومد نفوذها إلى أمريكا الاتينية وتعزيز عاقاتها مع روسيا، وهو ما يمكن تناوله بشيء من التفصيل فيما يلي: 1- إقامة قواعد عسكرية في الخارج: شكل اتجاه بكين إلى بناء قواعد عسكرية في الخارج أحد مظاهر الصعود الصيني التي اتخذت طبيعة مختلفة منذ تولي الرئيس شي جين بينج الحكم، فالصين التي دائماً ما ارتبط صعودها بتحقيق معدلات نمو اقتصادية مذهلة في بعض السنوات، باتت تسعى وراء امتاك النفوذ والتوسع والتمدد إلى مناطق مختلفة من العالم، بما ينعكس مستقباً على وضعها كقوة تطمح إلى التحول لدولة عظمى وإن لم تصرح بذلك عانية؛ إذ يجوز القول إن الصين تدرك أن استمرارها في تعظيم قوتها الاقتصادية بحاجة إلى تأمين تدفق الموارد الطبيعية التي تحصل عليها من الخارج وتأمين طرق التجارة الدولية، فهي تحتاج، على سبيل المثال، إلى تأمين خطوط النقل البرية والبحرية التي تقع ضمن مشروع طريق "الحزام والطريق"، وتحتاج إلى ضمان سامة طرق نقل المنتجات النفطية التي تقوم بشرائها من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

في هذا الإطار، افتتحت الصين رسمياً في جيبوتي أول قاعدة عسكرية خارج حدودها يوم 1 أغسطس 2017، وقد وقع الاختيار على هذه القاعدة بالنظر إلى عدة اعتبارات تصب كلها في حماية المصالح الصينية، فجيبوتي تعد نقطة استقطاب للقوى العظمى والكبرى، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما لإقامة قواعد عسكرية فيها، نظراً لموقعها الجغرافي، وانضمام الصين لهذه الدول يجعلها قادرة على حماية مصالحها في هذه المنطقة التي تعج بالوجود العسكري الدولي، وعلى أن تكون قريبة جداً من أحد ممرات التجارة العالمية المهمة وقريبة كذلك من استثماراته­ا الهائلة في دول أفريقيا، فضاً عن أن موقع جيبوتي على خريطة الموانئ التي قامت الصين بالاستثمار فيها يبدو مركزياً إلى حد كبير، حيث تمتد سلسلة من الموانئ في كل من تركيا شمالاً، مروراً باليونان وإسرائيل ومصر وإريتريا، وصولاً إلى كينيا وتنزانيا وموزمبيق في جنوب القارة الأفريقية، عاوة على موانئ أخرى في كل من باكستان وسريانكا وبنجاديش وميانمار)29.)

وقد أظهرت وسائل إعام صينية أن القاعدة شهدت بعض الأنشطة التي تُظهر اهتمام الصين بتحسين قدراتها القتالية، حيث القيام بزيارة الموانئ في جميع أنحاء أفريقيا، وإجراء تدريبات مشتركة على الحرب البحرية والبرية كما حدث في نوفمبر 2018 حينما أجرى الجيش الصيني تمرينات مكثفة بالذخيرة الحية استُخدمت فيها المدفعية الثقيلة والقوات البرية والمدرعات القتالية في جيبوتي، وقيام مروحيات تابعة للجيش الصيني بمناورات تدريبية كبيرة تُحاكي عملية إخاء الضحايا من فرقاطة صاروخية موجهة قبالة سواحل جيبوتي، ما يدل على قدرات الصين الجوية والبرية المتطورة في المنطقة) 30 .) ويبدو أن الصين تسعى لبناء قواعد عسكرية في عدد من البلدان الأخرى، وهو ما أكده تقرير حديث أصدرته وزارة الدفاع الأمريكية نُشر في 2 مايو 2019، حيث ذكر التقرير أن الصين قد تزيد من قواعدها العسكرية حول العالم لحماية مشاريعها المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق، وأنها "تسعى إلى بناء قواعد إضافية في دول تملك عاقات طيبة قديمة معها، مثل باكستان ودول أخرى تستقبل تقليدياً قواعد عسكرية أجنبية")31.)

وعلى الرغم من النفي المشترك من الصين وباكستان لذلك، فإن الحديث عن اعتزام بكين إنشاء قاعدة عسكرية في باكستان لا يعد أمراً جديداً، إذ أكدت تقارير إعامية كثيرة أن بكين ستبني قاعدة عسكرية جوية وبحرية في "خليج جيواني" في جنوب غرب باكستان، كما ستقوم ببناء ميناء تجاري ضخم في مدينة جوادر التي تقع على بُعد نحو 60 كيلومتراً شرق جيواني عند نهاية "الممر الاقتصادي الصيني- الباكستاني"، وحسب محللين، فإن قاعدة جيبوتي وقاعدة خليج جيواني ستضعان القوات الصينية على مدخل ممرين مائيين دوليين حيويين من الناحية الاستراتيج­ية، ما قد يسمح لبكين بتقييد تحركات خصومها في المنطقة كجزء من استراتيجية عدم الوصول/ منع الوصول، والتي يُطلق عليها الصينيون اسم "هجمات مضادة استراتيجية نشطة على الخطوط الخارجية". كما أن القاعدة في خليج جيواني ستمنح بكين خيار توسيع استراتيجيت­ها ب "عدم الوصول/منع الوصول" إلى مسرح عمليات الأسطول الأمريكي الخامس، وهذا من المخاوف التي تساور واشنطن منذ فترة طويلة)32.)

وإلى جانب ذلك تحدثت تقارير - نفتها بكين - عن رغبة الصين في بناء قاعدة عسكرية في أفغانستان، فقد أكد مسؤول في وزارة الدفاع الأفغانية في عام 2016 لوكالة "فرانس برس" أن بكين تتفاوض مع كابول من أجل بناء قاعدة عسكرية في جبال واخان قرب الحدود بين الدولتين،

بهدف منع دخول مقاتلين إساميين إلى أراضيها ومساعدة جارتها في الوقت نفسه، وأكد المسؤول أن القاعدة ستكون أفغانية، لكن شوهدت قوات صينية تقود دوريات مع عسكريين أفغانيين)33.) 2- تعزيز العلاقات مع روسيا: اتجهت الصين في سياستها الخارجية إلى تعزيز عاقاتها مع روسيا، انطاقاً من رغبتها في اكتساب شركاء يدعمونها في مواجهة القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة التي تعمل من أجل تحجيمها ومنعها من أن تصعد على سلم القوى الدولي، فالصين التي تسعى إلى أن تجعل من نفسها قوة مركزية في النظام الدولي ولتجعل هذا النظام أكثر ماءمة لمصالحها كقوة اقتصادية، تبحث عن شركاء يعززون دورها ويدعمونها كي تحقق طموحاتها الدولية، وقد وجدت بكين أن روسيا هي أحد هؤلاء الشركاء إن لم يكن أهمهم على الإطاق، وهو ما عبر عنه الرئيس بينج في خطاب في نوفمبر 2014 أمام مؤتمر العاقات الخارجية الصيني، عندما تحدث لأول مرة عن "قوى نامية كبرى" كما سمّاها، تضم روسيا، وتعتبر ذات أهمية لاستراتيجي­ة الدبلوماسي­ة الصينية)34.)

وتضع الصين روسيا في أولى اهتماماتها لأنه مهما تعاظمت القوة الصينية سوف تظل بحاجة إلى حليف قوي ودائم، مثل روسيا، خصوصاً مع اشتداد الضغط الدولي ضد الصين. بمعنى آخر، أن تعزيز الصين عاقاتها مع روسيا هو واجب وأمر حتمي في سبيل النهضة الصينية)35.)

ويستند تعزيز العاقات بين الدولتين في جانب منه إلى تمتع قيادتهما بصداقة شخصية أفصح بينج وبوتين عنها علناً، ففيما وصف الرئيس الصيني نظيره الروسي بأنه "صديقه الأكثر قرباً"، شدد بوتين على عاقته مع "صديقه العزيز" في مقابلة مع قناة "سي جي تي إن" الرسمية الصينية. وقد منح بينج صديقه بوتين في احتفالية كبرى بقاعة الشعب في بكين يوم 8 يونيو 2016 "ميدالية الصداقة"، وهو تكريم غير مسبوق لم يحظ به زعيم أجنبي من قبل)36.)

ويتشابه الرئيسان في أسلوب القيادة، وفي تقاربهما فكرياً، ورغبة كل منهما في "إعادة العظمة" إلى دولته، ويتقاسمان الشكوك إزاء الهيمنة الأمريكية ولا يثقان بالنوايا الأمريكية، ويؤيدان عالماً متعدد الأقطاب، ويبدو أنهما مصممان على مقاومة تهديد ناتج عن تدخل أمريكي في مجالات نفوذهما.

وقد دفعت العقوبات والضغوط التي فرضها الغرب على روسيا والصين بشكل متزامن إلى مزيد من التقارب، فقد كان من أهم تداعيات أزمة شبه جزيرة القرم في عام 2014 توجه روسيا نحو الصين واكتساب عاقات الدولتين مزيداً من العمق الاستراتيج­ي، بحثاً عن توازن عالمي جديد، حيث تسعى روسيا إلى وقف مد النفوذ الغربي وإبعاده عن منطقة نفوذها، فيما تمر العاقات الصينية الأمريكية بضغوط متزايدة لا تقتصر بالطبع على الحرب التجارية الدائرة الآن)37.)

ويبرز تقارب الدولتين سياسياً في عدة أزمات حديثة، منها مثاً أزمة فنزويا، حيث تقف الدولتان في مواجهة مساعي الولايات المتحدة لإسقاط نظام الرئيس نيكولاس مادورو، وذلك عبر تقديم دعم سياسي ودبلوماسي واضح للنظام الفنزويلي، كان من أبرز مامحه تعطيل الدولتين أي محاولة أمريكية لاستصدار قرارات من مجلس الأمن الدولي ضد الرئيس مادورو.

وعلى المستوى التجاري، تبرز المشاركة الروسية في مبادرة "الحزام والطريق" التي طالما أكدت بكين أن موسكو تعد شريكها الرئيسي لتنفيذ هذه المبادرة. وقد ذهب البعض إلى أن هذه المبادرة ما كان يمكن لها أن تصبح حقيقة على أرض الواقع لولا الموافقة الروسية على التوسع الصيني، خصوصاً استخدام الصين للطرقات في منطقة آسيا الوسطى والجسر الأوراسي الجديد؛ وهو ما يعتبر بشكل أو بآخر اعترافاً روسياً بأن الصين أصبحت قوة لا يمكن إيقافها وأن روسيا تفضل الجار الصيني القوي على العدو التاريخي الأمريكي) 38 .) ويشير لتلك الحقيقة الاتفاقات العديدة التي رافقت القمة الروسية الصينية في سبتمبر 2018، إذ شملت تفاهمات وعقوداً بين الشركات الروسية والصينية تتصل بتطوير التعاون التجاري والاقتصادي، وزيادة الاستثمارا­ت المتبادلة؛ خاصة أن الصين أصبحت خال الأعوام الأخيرة أكبر شركاء روسيا التجاريين، وارتفع حجم التبادل التجاري بينهما في عام 2017 بنسبة 31.5% مقارنة بعام 2016، حيث بلغ 87.4 مليار دولار، منها 39 مليار دولار صادرات روسية إلى الصين، مقابل واردات بقيمة 48.4 مليار دولار، وتسعى الدولتان إلى زيادة التبادل التجاري بينهما بنسبة 150% خال السنوات العشر المقبلة)39.)

وعلى المستوى العسكري، تعتبر الصين أحد الشركاء الأساسيين لروسيا في مجال مبيعات الساح، والصناعات المشتركة لبعض الطرازات. كما تكشف المشاركة الصينية في المناورات العسكرية الروسية التي أُقيمت في الفترة من 11 إلى 17 سبتمبر 2018، عن رغبة مشتركة لنقل التعاون العسكري إلى مرحلة جديدة في إطار ما وُصف بأنه مسعى مشترك لمواجهة التحديات المعاصرة، كما اشتركت الدولتان في مناورات حملت اسم "الشرق 2018"، التي شارك فيها 300 ألف جندي وعشرات الآلاف من المدرعات والمروحيات والأسلحة المتطورة، ليظهرا إمكانية الوصول لمرحلة من التعاون ترتبط بتنسيق أنظمة الأسلحة وهياكل القيادة) 40 .) 3- تعزيز النفوذ في القارة الأفريقية: يمثل تحرك بكين تجاه دول القارة الأفريقية أحد مظاهر الصعود الصيني في هذه المرحلة، حيث اتجهت الصين لتنافس دولاً كبرى سبقتها كثيراً في هذه المنطقة، مثل الولايات المتحدة وفرنسا اللتين تمتلكان

نفوذاً تاريخياً ومتنامياً في القارة. وقد اعتمدت الصين في تحركها على قدراتها الضخمة في تقديم المساعدات التنموية وضخ الاستثمارا­ت في دول القارة، وعلى صورتها كدولة لا تستهدف تحقيق أي أهداف سياسية من وراء مساعداتها الاقتصادية أو التنموية.

وقد تمكنت الصين من أن تتغلغل داخل القارة الأفريقية، وأن يكون لها موطئ قدم راسخة بها، من خال مجموعة من الآليات، من بينها تقديم المساعدات التنموية، إذ أعلنت الصين على سبيل المثال في عام 2015 عن 10 خطط تعاونية لمدة ثاث سنوات لتعزيز تعاونها مع القارة السمراء وتقديم 60 مليار دولار أمريكي لتمويل مشروعاتها بالقارة، التي شملت مجالات، مثل التصنيع والتحديث الزراعي والبنية التحتية والخدمات المالية والتنمية الخضراء وتيسير التجارة والاستثمار والحد من الفقر وغيرها. ووفقاً للتقديرات الأولية، من المتوقع أن تؤسس المشاريع الصينية التي تم الانتهاء منها بالفعل بموجب هذه الخطة نحو 30 ألف كيلومتراً من الطرق السريعة و85 مليون طن سنوياً من القدرة التشغيلية للموانئ المحلية، وتوليد حوالي 20000 ميجاوات من الطاقة، بالإضافة إلى خلق نحو 900000 فرصة عمل محلية)41.)

وخال قمة منتدى التعاون الصيني - الأفريقي التي عُقدت في سبتمبر ،2018 أعلن الرئيس الصيني أن باده، ستقدم تموياً بقيمة إجمالية تبلغ 60 مليار دولار لدول قارة أفريقيا، وذلك في شكل مساعدات حكومية، واستثمارات وتمويات من جانب مؤسسات مالية وشركات. ويشمل هذا المبلغ منحاً وقروضاً ميسرة بقيمة 15 مليار دولار، وخطوط ائتمان بقيمة 20 مليار دولار، وإقامة صندوق خاص لتمويل التنمية بقيمة 10 مليارات دولار، وآخر خاص لتمويل الاستيراد من أفريقيا بقيمة 5 مليارات دولار. كما كشف الرئيس بينج عن إعفاء دول أفريقية محددة من ديون مستحقة في شكل قروض من دون فائدة تستحق بنهاية عام 2018، وأن الإعفاء سيُمنح للدول الأفريقية الفقيرة والمثقلة بالديون، والتي لها عاقات دبلوماسية مع الصين)42.)

من جانب آخر، تعد الاستثمارا­ت وسيلة أخرى تساعد الصين على تعزيز عاقاتها مع الدول الأفريقية، فقد بلغ رصيد هذه الاستثمارا­ت بنهاية عام 2016 حوالي 100 مليار دولار، تغطي تقريباً كل دولة في القارة)43(، وهو ما استتبعه الرئيس الصيني خال منتدى التعاون الصيني الأفريقي بتشجيعه الشركات الصينية على إقامة استثمارات في أفريقيا بقيمة لا تقل عن 10 مليارات دولار في السنوات الثاث المقبلة")44.)

أيضاً فقد لجأت الصين إلى "القوة الناعمة" لتعزيز عاقاتها مع دول القارة، فشرعت في بناء مراكز ثقافية عديدة لتعليم اللغة والثقافة الصينيتين، وبدأ الكثير من الصينيين في الإقدام على الزواج من نساء أفريقيات. كما تعمد الصين إلى عدم التدخل في السياسات التي تتبعها الحكومات الأفريقية ولا تفرض أي شروط سياسية نظير مساعداتها ولا توجه أي انتقادات لنظم الحكم القائمة)45.)

وقد استطاعت الصين ترسيخ نفوذها في أفريقيا بما يساعدها على تحقيق مصالحها، حيث ضمان الحصول على المواد الخام التي تحتاجها الصين من القارة، إذ إن 90% من صادرات الدول الأفريقية تجاه الصين تخص فقط النفط والمعادن والغاز، هذا عاوة على تحقيق أرباح مالية ضخمة قدرت دراسة أصدرتها "وكالة ماكنزي الأمريكية" بأنها سوف تبلغ 440 مليار دولار أمريكي في عام 46( 2025،) خاصة أن حجم تجارة الصين مع دول القارة بلغ حوالي 200 مليار دولار في عام 2017 بعدما لم يكن يتجاوز 10 مليارات دولار في عام 47( 2000.) -4 التوجه نحو أمريكا اللاتينية والكاريبي: يعد الامتداد إلى أمريكا الاتينية، التي تعتبر الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية، إحدى تحركات الصين التي برزت بوضوح منذ بداية القرن الحالي، واكتسبت زخماً كبيراً في السنوات الأخيرة، ويتوقع استمرارها بقوة في السنوات المقبلة نظراً لما تحققه الصين من مكاسب كبيرة من عاقاتها مع دول أمريكا الاتينية. وكانت الصين قد أصدرت أول كتاب عن سياستها تجاه أمريكا الاتينية، نشرته صحيفة "الشعب" الرسمية الصينية، في 5 نوفمبر 2008، وتضمن برنامج العمل الشامل للتعاون المستقبلي بين الجانبين، وحسب الكتاب فإن الحكومة الصينية ترى أن عاقاتها مع أمريكا الاتينية والكاريبي تشكل خطة استراتيجية وتسعى لبناء وتطوير شراكة شاملة وتعاونية خصائصها المساواة والمنفعة المتبادلة والتنمية المشتركة.

ويحرص المسؤولون الصينيون باستمرار على التأكيد على رغبتهم في تعزيز التعاون مع دول أمريكا الاتينية، فقد استضافت الصين في 8 يناير 2015 أول اجتماع لمنتدى التعاون بين الصين ودول مجموعة أمريكا الاتينية والكاريبي )سياك(، وتعهد الرئيس بينج أمام المنتدى بأن تستثمر الصين 250 مليار دولار في أمريكا الاتينية على مدى عشرة أعوام، وقال إن حجم التجارة المتبادلة بين الجانبين سيرتفع إلى 500 مليار دولار في غضون عشر سنوات.

وقد استخدمت الصين قوتها الاقتصادية من أجل التمدد إلى

يُثير صعود دور الصين في النظام العالمي جدالاً واسعاً حول من هم الفائزون ومن هم الخاسرون، فثمة قوى أساسية لديها تخوفات من تأثير هذا الصعود بالسلب على مصالحها ومكانتها، لاسيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند واليابان؛ ودول أخرى سوف تستغل هذا الصعود لتحقيق قدرٍ من التوازن في علاقاتها الدولية، لاسيما روسيا وبعض الدول الأفريقية واللاتينية والشرق أوسطية.

أمريكا الاتينية، حيث حقق الانتشار الصيني الجيوسترات­يجي في المنطقة أرقاماً وصفها البعض ب "المذهلة"، لعل أبرزها تلك المعطيات التي نشرتها اللجنة الوطنية الصينية للتنمية والإصاح في عام 2017، والتي ذكرت أن الشركات الصينية ضخت نحو 192 مليار دولار من أجل تنفيذ مشاريع البنى التحتية، وخلقت هذه الاستثمارا­ت في الفترة بين عامي 1990 و2016، ما لا يقل عن 1.8 مليون وظيفة تعادل 4% من إجمالي عدد الوظائف الجديدة خال هذه الفترة)48.)

ويلفت النظر حديث المسؤولين الصينيين عن ما يسمونه "مجتمع المصير المشترك" بين الصين وأمريكا الاتينية، بل إن الرئيس "بينج" في خطابه أمام برلمان دولة بيرو، في 22 نوفمبر 2016، قدم مقترحاً من 4 نقاط حول بناء هذا المجتمع، وهي: تعزيز مفهوم مجتمع المصير المشترك على أساس السام والتنمية والتعاون، ودفع الترابط بين الجانبين بشأن الخطط التنموية لديهما، وتعزيز تعاونهما ودفع ازدهار مجتمع المصير المشترك بينهما، وتحقيق التعاون في تبادل النتائج وجلب المنافع على الشعوب وتكثيف التبادل الثقافي وتعزيز التعاون المشترك في الجوانب المادية والروحية)49.)

وينقسم المحللون في تفسير أسباب توجه الصين لتعزيز عاقاتها مع أمريكا الاتينية، حيث يرى فريق أن الصين تسعى إلى الوصول إلى ثروات القارة المعدنية والنفطية، وترغب في مواجهة الاستراتيج­ية الأمريكية الساعية إلى احتوائها ومحاصرة نفوذها، وذلك من خال تعزيز العاقات مع الدول المجاورة للولايات المتحدة، خاصة في دول أمريكا الاتينية باعتبارها الفناء الخلفي لواشنطن، بينما يرى فريق آخر أن تطور العاقات الصينية الاتينية جاء بشكل تلقائي نتيجة رفع بكين شعار النهضة السلمية، وتسويق نفسها في دول أمريكا الاتينية باعتبارها مثالاً للقضاء على الفقر، بعيداً عن الليبرالية الغربية، وهو ما وجد آذاناً صاغية لدى هذه الدول) 50 .) وفي واقع الأمر، يمكن القول إن توجه الصين نحو أمريكا الاتينية يستهدف جميع ما سبق، لأنه يحقق لها منافع اقتصادية من جانب، ويضمن حضورها بالقرب من الولايات المتحدة من جانب آخر، لاسيما مع توتر العاقات بين واشنطن وبكين منذ وصول ترامب للرئاسة الأمريكية.

رابعاً: تخوفات القوى الدولية من ال�صعود ال�صيني

يثير الصعود الصيني مخاوف العديد من القوى الدولية بالنظر إلى انعكاسات هذا الصعود على مصالحها القومية وعلى هيكل النظام الدولي بصفة عامة، ويمكن، في هذا الصدد، التركيز على مواقف كل من الولايات المتحدة واليابان والهند والاتحاد الأوروبي من الصعود الصيني باعتبار أن هذه القوى هي الأكثر تأثراً بالسلب بطبيعة الحال من ذلك الصعود الصيني. 1- الولايات المتحدة الأمريكية: تعبر الولايات المتحدة صراحة عن مخاوفها من الصعود الصيني، ففي أكتوبر 2000 أنشأ الكونجرس الأمريكي "لجنة مراجعة العاقات الاقتصادية والأمنية الأمريكية - الصينية"، كأداة لمتابعة ودراسة واقع العاقات التجارية والاقتصادي­ة بين الولايات المتحدة والصين، وانعكاس تلك العاقات على الأمن القومي والمصالح الأمريكية، وتقوم هذه اللجنة بإصدار تقرير سنوي حول تلك القضايا يتم رفعه إلى الكونجرس)51.)

ويوضح المؤرّخ جريج برازينسكي، من جامعة جورج واشنطن، في كتابه المعنون "الفوز بالعالم الثالث: المنافسة

الصينية - الأمريكية خال الحرب الباردة"؛ أن واشنطن تخشى من أن "الصين ستنشر نموذجاً للتنمية السياسية والاقتصادي­ة، سيقوّض النظام الدولي الليبرالي، الذي تسعى الولايات المتحدة إلى التمسك به"، فالمؤسسات التي أنشأتها الصين عقب إطاق مبادرة الحزام والطريق، مثل البنك الآسيوي لاستثمار في البنية الأساسية، من الممكن أن تحل محل مؤسسات بريتون وودز )البنك الدولي وصندوق النقد الدولي(، خاصة مع انضمام عدد كبير من الدول له من بينها دول أوروبية كبيرة، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، والتي انضمت لعضوية هذا البنك الذي أسسته الصين في عام 52( 2014.)

وتنظر الولايات المتحدة إلى الصعود الصيني باعتباره عائقاً في مواجهة الرغبة الأمريكية في الهيمنة على الشؤون العالمية، خاصة في سياق اختاف رؤية كل منهما لطبيعة النظام الدولي، إذ ترفض بكين فكرة الهيمنة الأمريكية على شؤون العالم، وتؤكد بدلاً من ذلك أن النظام متعدد الأقطاب هو النظام الأمثل لتحقيق التنمية السياسية والاقتصادي­ة على المستوى الدولي)53(، بينما تخشى الولايات المتحدة من تمدد الصين في بعض المناطق ذات النفوذ الأمريكي الأصيل، مثل أمريكا الاتينية وأفريقيا، حتى أن وزير الخارجية الأمريكي السابق، ريكس تليرسون، حذر خال جولته الأفريقية في مارس 2018 من أن أنشطة الصين في القارة تهدد استقال دولها) 54 .)

وتعبر واشنطن كذلك عن مخاوفها بشأن صعود الصين عسكرياً، فقد حذر تقرير أصدرته "لجنة مراجعة العاقات الاقتصادية والأمنية الأمريكية - الصينية"، في 16 نوفمبر 2016، من أن تعزيز قدرات بكين العسكرية سيشكل تهديداً للأمن الأمريكي، وأوضح أن تعزيز الصين قدراتها العسكرية سيدفعها إلى استخدام القوة أكثر للدفاع عن مصالحها، ولفت التقرير إلى "ميول عدوانية أظهرتها بكين في بحري الصين الشرقي والجنوبي، وتزايد المخاوف القائمة من صعود الصين بين حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في منطقة آسيا الكبرى") 55 .)

كما عبرت واشنطن عن مخاوف اقتصادية بعد إعان مشروع الصين العماق "صنع في الصين 2025"، والذي يهدف إلى الوصول بالتصنيع الصيني لقمة العالم على صعيد الصناعات ذات التقنية العالية، نظراً لأنه قد يؤدي إلى سيطرة الصين شبه الكاملة على ساسل توريد كاملة في قطاعات كبيرة، خاصة المرتبطة بالمواد الأساسية، بما يهدد الولايات المتحدة ودولاً غربية أخرى تمثل الصناعات فائقة التكنولوجي­ا الأساس في نهضتها الاقتصادية.

ولا يختلف الأمر بالنسبة لمبادرة "الحزام والطريق"، إذ ترى واشنطن أنها ترمي إلى هيمنة الصين على العالم، حيث أكدت "لجنة مراجعة العاقات الاقتصادية والأمنية الأمريكية - الصينية" في تقريرها الصادر في 14 نوفمبر 2018، أن جهود الصين، في إطار مبادرة الحزام والطريق، تعطي حكومتها ذريعة لاحتفاظ بوجود عسكري في الدول التي تشارك في المبادرة، وقال التقرير إن الصين تستخدم المبادرة "لتصدير معايير لتطبيقات التكنولوجي­ا قد تضر بالشركات الأمريكية وحضورها بالأسواق في أنحاء العالم")56.) 2- اليابان: تتركز مخاوف اليابان إزاء الصعود الصيني في الجانب العسكري، ففي خضم التوسع الصيني الإقليمي، تأخذ نظرية "الخطر الصيني" حيزاً أكبر في عقل صانعي القرار في اليابان، لاسيما في ظل تنافس الدولتين إقليمياً، ووجود قضايا عالقة بينهما تتعلق بالأساس بترسيم الحدود البحرية داخل بحر الصين الشرقي، والنزاع حول جزر سنكاكو/ دياويو. وتزداد حدة تلك المخاوف في ظل حالة عدم الثقة وتشكيك كل طرف في نوايا الآخر، وهي الحالة التي ترتبط بشكل أو آخر بميراث من التوتر خلقه التاريخ الاستعماري للإمبراطور­ية اليابانية، ولذا عبرت اليابان صراحة - وفي مناسبات عديدة - عن مخاوفها من تزايد الإنفاق العسكري الصيني وعن سياسات الصين لتحديث جيشها)57.)

وفي هذا الإطار، دعت المسودة شبه النهائية لاستراتيجي­ة الأولى للأمن القومي، التي أصدرتها اليابان في ديسمبر 2013، إلى وجود جيش ياباني أكثر قوة مقابل التوسع العسكري الملحوظ للصين في المنطقة، حيث تطرقت المسودة إلى مخاوف حيال التوسع العسكري الصيني السريع في المنطقة من دون توفير القدر المطلوب من الشفافية)58.) وفي 6 مارس 2018، أعرب وزير الدفاع الياباني السابق، إيتسونوري أونوديرا، عن قلقه العميق إزاء إعان الصين رفع ميزانية الدفاع إلى 175 مليار دولار، مقارنة بنحو 161 مليار عام 2017، معتبراً أن هذا النهج الذي تتبعه بكين إلى جانب الافتقار للشفافية، أصبح يمثل مخاوف أمنية خطيرة للمنطقة المحيطة، بما فيها اليابان.

وقد عبرت اليابان عن مخاوفها بشكل أكثر وضوحاً، حينما أشارت في "الورقة البيضاء" السنوية لعام 2018 التي تنشرها طوكيو حول سياساتها الدفاعية، إلى صعود الصين كقوة عسكرية، وقالت إن بكين تثير "مخاوف أمنية قوية في المنطقة وفي المجتمع الدولي بما في ذلك اليابان"، وأكدت على مخاوف اليابان بشأن زيادة الإنفاق العسكري الصيني وتوسع طموحات بكين البحرية، وقالت إن بكين تحاول "تغيير الوضع القائم عن طريق الإكراه"، مشيرة إلى قيام بكين ببناء جزر متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، وتوسيع أنشطتها البحرية حول جزر بحر الصين الشرقي المتنازع عليها مع اليابان)59.) 3- الهند: تتركز مخاوف الهند إزاء الصعود الصيني في تزايد نفوذ بكين الإقليمي، وما يترتب عليه من تقليص نفوذ نيودلهي في المنطقة، بالإضافة إلى المخاوف من مبادرة "الحزام والطريق"؛ حيث تصاعدت المخاوف الهندية جراء النفوذ الصيني المتزايد من باكستان إلى نيبال ومن

سريانكا إلى جزر المالديف، وينتاب الهند دائماً القلق من النفوذ المتزايد للصين في دول الجوار التي حافظت الهند معها على روابط قديمة، مثل نيبال وبوتان وسريانكا وجزر المالديف، وهو ما يظهر مثاً في فوز حزب التحالف اليساري الشيوعي المؤيد لبكين، والذي يقوده رئيس الوزراء السابق، شارما أولي، في الانتخابات التي أجريت في نيبال في أواخر عام 2017، وموافقة المالديف على إبرام اتفاق للتجارة الحرة مع الصين، وفي سريانكا أنشأت الصين ميناء هامبانتوتا)60(؛ وهو ما يمهد الطريق لبكين كي تعزز نفوذها في المنطقة التي تعتبرها الهند فناءها الخلفي.

وتعارض الهند مبادرة "الحزام والطريق" لأنه يمر عبر أراضٍ متنازع عليها مع الجانب الباكستاني في كشمير، وترى الهند أيضاً أن المشروع يعزز الوجود الصيني لدى جارتها باكستان، ولذا رفضت المشاركة في منتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي الذي عقد في مايو 2017 في بكين، موضحة أنها لا تقبل مشروعاً يتجاهل مخاوفها بشأن سيادتها ووحدة أراضيها، حيث ذكرت المتحدثة باسم الخارجية الهندية، جوبال باجا، أن "المجتمع الدولي يدرك موقف الهند جيداً فيما يتعلق بما يسمى الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان الذي يعد مشروعاً رئيسياً في إطار الحزام الاقتصادي لطريق الحرير، ولا يمكن لأي دولة أن تقبل مشروعاً يتجاهل قلقها الأساسي بشأن السيادة والسامة الإقليمية"، ويمر مشروع الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان عبر منطقة )جيلجيت - بالتستان( من إقليم كشمير المتنازع عليه بين الهند وباكستان ويخضع للسلطة الباكستاني­ة)61.) 4- الاتحاد الأوروبي: تتركز مخاوف الاتحاد الأوروبي من الصعود الصيني في إمكانية تعرض التكتل لانقسام في ظل تمدد الصين نحو جزء منه عبر آليات اقتصادية معينة، وفي محاولة الصين تأسيس نفوذ سياسي لها لدى بعض الدول بما يؤثر على سياسة التكتل ومواقفه إزاء الصين، وفي انعكاسات انضمام دول منه إلى مبادرة "الحزام والطريق"، وأخيراً تمدد الصين نحو مناطق نفوذ بعض الدول المؤثرة في الاتحاد، مثل تمدد الصين في أفريقيا التي تعد منطقة نفوذ تاريخية لعدد من الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا.

وتبدو مخاوف الاتحاد الأوروبي من تعرض التكتل لانقسام جراء الصعود الصيني، بالنظر إلى قيام الصين بالتمدد نحو الدول الواقعة في شرق ووسط أوروبا وبعضها أعضاء في الاتحاد، وذلك من خال صيغة «16+1» التي اقترحتها بكين، وعقدت أول اجتماعاتها في عام 2012 في العاصمة البولندية وارسو، فيما عقد اجتماعها الثامن في 12 أبريل 2019 في مدينة دوبروفنيك الكرواتية، ومن خال هذه الصيغة تسعى الصين إلى ربط هذه المنطقة بمبادرة الحزام والطريق؛ حيث سبق وأعلنت بكين عن اعتماد 10 مليارات دولار وإنشاء صندوق استثمارات قيمته 3 مليارات دولار لإنشاء مشروعات في هذه الدول)62.)

وتبدو جدية المخاوف الأوروبية بالنظر إلى سعي الصين إلى الاستفادة من التباينات بين أعضاء الكتلتين الشرقية والغربية الأوروبية بشأن عدد من الملفات، خاصة تلك المتعلقة بالنواحي الاقتصادية والمشروعات التنموية في بلدان الكتلة الشرقية، وهو ما عبر عنه "زيغمار جابرييل" نائب المستشار ووزير الخارجية الألماني السابق، في دعوته للصين في التعامل مع أوروبا من خال مفهوم «أوروبا واحدة.. وأننا إذا فشلنا في وضع سياسة واحدة تجاه الصين فإن الصين ستنجح في تقسيم أوروبا»63(.)

من جهة أخرى تؤدي محاولة الصين تأسيس نفوذ سياسي لها، سواء من خال آلية ‪+16" "1‬أو من خال الاستثمارا­ت التي تضخها في القارة، إلى إثارة المخاوف الأوروبية، فقد ضخت الصين استثمارات بلغت قيمتها 40 مليار دولار في عام 2016، و30 مليار دولار في عام 2017، وهو ما يمكنها من بعض النفوذ السياسي في القارة، فعلى سبيل المثال، نجحت اليونان التي استفادت بدرجة كبيرة من هذه الاستثمارا­ت، في منع الاتحاد الأوروبي من انتقاد ممارسات صينية في مجال حقوق الإنسان خال مؤتمر للأمم المتحدة، ومنعت كاً من المجر واليونان "الاتحاد" من رفع دعوى ضد تحركات بكين في بحر الصين الجنوبي)64.)

وقد تأكدت المخاوف الأوروبية من مبادرة "الحزام والطريق"، مع انضمام إيطاليا إليها في 23 مارس 2019، بالنظر إلى ما يمثله ذلك من مخاطر على استقالية وسيادة أوروبا، على حد قول جونتر أوتينجر، مفوض الميزانية في الاتحاد الأوروبي، الذي أبدى قلقه "لأنه في إيطاليا وفي عدد من الدول الأوروبية الأخرى، لم تعد البنية التحتية المهمة مثل شبكات الطاقة وخطوط السكك الحديدية السريعة والموانئ أوروبية، بل باتت في أيدي الصينيين"، ويخشى الأوروبيون أن تكون إيطاليا هي مدخل الصين للنفاذ إلى الداخل الأوروبي، ذلك أن ميناءي تريسيتي وجنوة البحريين سيكونان منفذين أوروبيين محتملين للبضائع الصينية القادمة عبر قناة السويس)65.)

وتثور لدى فرنسا تخوفات من الصعود الصين، فنجد بكين منافساً قوياً لها في أفريقيا، وهو ما شدد عليه الرئيس "إيمانويل ماكرون" في جولته الأفريقية في مارس 2019 وشملت جيبوتي وأثيوبيا وكينيا. كما أن فرنسا تتخوف من نشاطات الصين في منطقة جنوب المحيط الهادي، حيث السيادة الفرنسية على أرخبيل كاليدونيا الجديدة، وأرخبيل بولينيزيا وجزيرة كليبرتون الصغرى، وقد عبر المسؤولون الفرنسيون أكثر من مرة عن قلقهم إزاء نشاطات بكين العسكرية في هذه المنطقة)66.)

خام�صاً: ال�صيا�صات الأمريكية والأوروبية لتحجيم بكين

على ضوء المخاوف التي سبق الحديث عنها، اتجهت الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي ومعهما بعض الدول الأخرى إلى العمل من أجل تحجيم صعود الصين، حيث

تتخذ هذه السياسات أشكالاً مختلفة، علماً بأن الولايات المتحدة هي الأكثر تحركاً في هذا المجال، وذلك بالنظر إلى أنها ربما تكون الأكثر تأثراً بالسلب من الصعود الصيني على المستويات المختلفة. 1- السياسات الأمريكية: تتسم سياسات الولايات المتحدة إزاء الصعود الصيني بالتنوع، حيث اتخذت التحركات الأمريكية مناحي مختلفة تصب جميعها في تحقيق هدف واحد هو تحجيم الصين والحيلولة دون تمكنها من تحقيق أهدافها على مختلف الصعد، ومن أبرز هذه التحركات الأمريكية ما يلي: أ- تأسيس تحالف رباعي للحد من نفوذ الصين: اتجهت الولايات المتحدة إلى تأسيس تحالف رباعي يضم إليها اليابان والهند وأستراليا، وهي دول تتخوف من صعود الصين، وتراه يهدد مصالحها الوطنية. وقد سبق عرض مخاوف واشنطن وطوكيو ونيودلهي، أما أستراليا التي تعتبر نفسها، حسب محللين، دولة آسيوية ومعنية بما يدور بالقارة بحكم الموقع الجغرافي القريب نسبياً، فا تريد أن ترى بكين قوة مهددة للأمن والاستقرار في جوارها بفعل ما بين الأخيرة وخمس من دول تكتل "آسيان" من خافات حول حق السيادة على جزر بارسيل وسبراتلي الواقعة في بحر الصين الجنوبي)67.)

وقد اتخذ هذا التجمع بعض الخطوات الفعلية، حيث وافق أعضاؤه في نوفمبر 2017 على إقامة تنسيق وثيق لإجراء تدابير لاحتواء الصين، وأعلنت الدول الأربع أنها شكلت ائتافاً للقيام بدوريات في بحري الصين الشرقي والجنوبي، وغيرت الولايات المتحدة تسمية المنطقة من "آسيا والمحيط الهادئ" إلى "الهند والمحيط الهادئ" للتركيز على دور الهند)68.) ويعتقد البعض أن القضيتين المهمتين لهذا التحالف هما الأمن والاقتصاد، إذ إن التحالف في شقه الأمني يستهدف إيجاد آلية لتحجيم نفوذ الصين في منطقة "آسيا والمحيط الهادي"، وذلك من خال العمل على إرساء هذه المنطقة على قواعد تنظيمية منضبطة فاعلة تبقيها متمتعة بالحرية والانفتاح)69،) وفي شقه الاقتصادي يسعى لعمل خطة بنية تحتية مشتركة لمواجهة نفوذ الصين في المنطقة.

وقد نقلت صحيفة "أستراليان فايننشال ريفيو" في عددها الصادر يوم 19 فبراير 2018، عن مسؤول أمريكي كبير، قوله: "إن دول التحالف الرباعي تناقش مشروع بنية تحتية دولية مشتركاً كبديل لمبادرة الحزام والطريق الصينية سعياً لمواجهة اتساع نطاق نفوذ بكين"، وأكد المسؤول أن الوصف الأمثل للخطة أنها "بديل" لمبادرة الحزام والطريق وليس "منافساً" لها)70.) 2- وضع استراتيجية جديدة تجاه أفريقيا: إدراكاً من الولايات المتحدة للدور المحوري المنوط بأفريقيا في عملية الصعود الصيني، رأت واشنطن ضرورة مواجهة نفوذ بكين في هذه القارة، من خال تدعيم النفوذ الأمريكي هناك، ومعالجة كل ما من شأنه أن يؤثر على هذا النفوذ. في هذا الإطار، وبعد نحو شهرين من وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في اجتماع مع أعضاء الكونجرس من الحزبين الجمهوري والديمقراط­ي، البلدان الأفريقية ودولاً أخرى ب"الحثالة"، قام وزير الخارجية الأمريكي السابق، ريكس تليرسون، في 7 مارس 2018، بجولة أفريقية شملت أربع دول هي تشاد وجيبوتي وكينيا ونيجيريا، في محاولة لمعالجة تداعيات هذا التصريح، ولمواجهة تصاعد نفوذ بكين في القارة. وسعياً لتحقيق هذا الهدف، تحرك تيلرسون في اتجاهين: الأول إنساني، والثاني سياسي. وقد ظهر الجانب الأول في إعانه عن مساعدة إنسانية أمريكية تزيد على 530 مليون دولار لمكافحة الجوع وغياب الأمن الغذائي في القرن الأفريقي وكذلك حوض بحيرة تشاد، كما أرسل رسالة مفادها أن "أفريقيا هي المستقبل"، وأنه يعرف القارة جيداً بصفته رئيساً سابقاً لمجلس إدارة مجموعة "إكسون - موبيل" النفطية.

وأما الجانب السياسي فقد اتضح في مقارنة "تيلرسون" بين جهود الولايات المتحدة تجاه القارة وتلك التي تقوم بها الصين، حيث أوضح أن المساعي الأمريكية تهدف إلى الترويج "للنمو المستدام" بينما تشجع الاستثمارا­ت الصينية في القارة "على الاعتماد على الغير"، قائاً: "الاستثمارا­ت الصينية لديها إمكانات معالجة الفجوة في البنية التحتية بأفريقيا لكن نهجها أدى إلى زيادة الديون وإلى قلة الوظائف، إن وجدت، في معظم البلدان"، وأكد أنه "عندما نضيف الي ذلك الضغوط السياسية والمالية فإن هذا يعرض للخطر الموارد الطبيعية الأفريقية واستقرارها الاقتصادي والسياسي على المدى الطويل"، ورأى "تيلرسون" أنه لمواجهة هذه الإشكالية ينبغي "تعميق الشراكات مع أفريقيا لجعل الدول الأفريقية أكثر قدرة على المقاومة وعلى تحقيق الاكتفاء الذاتي"، مضيفاً أن "الولايات المتحدة تريد تشجيع نمو دائم يعزز المؤسسات ودولة القانون ويسمح للدول الأفريقية بالاكتفاء الذاتي")71.)

وفي خطوة أخرى تجاه القارة الأفريقية، أعلن مستشار الأمن القومي، جون بولتون، في 14 ديسمبر 2018، استراتيجية أمريكية جديدة تجاه القارة تحت عنوان "من أجل أفريقيا مزدهرة"، والتي تهدف إلى تعزيز التبادل التجاري مع القارة والاستثمار­ات الأمريكية فيها، ومواجهة الإرهاب وتهدئة الصراعات، ومتابعة تقديم المساعدات الأمريكية، وهو ما يكشف عن تغير كبير في الدبلوماسي­ة الأمريكية.

يقتضي صعود دور الصين العالمي من المجتمع البحثي والأكاديمي العربي مزيداً من الدراسات الخاصة بالمجتمع والدولة في الصين، وبطبيعة التحولات الجارية في النظام العالمي الراهن. كما يتطلب استعداداً مبكراً من الدول للتعامل مع هذه التحولات وإعادة تكييف سياساتها ومصالحها الخارجية للتعامل مع المستجدات العالمية.

وتتضمن الاستراتيج­ية التي أعلنها "بولتون" خال خطاب في "مؤسسة هريتدج للأبحاث" مجموعة من المحاور، أبرزها ما يلي)72:) • إعادة النظر في سياسة المساعدات الاقتصادية، وذلك من خال ربط ضمان الحصول عليها بتحقيق نتائج، فحسب بولتون: "اعتباراً من الآن، لن تتسامح الولايات المتحدة مع هذا التقليد العريق للمساعدة من دون نتائج، ومن دون مسؤولية". • تقليص حجم المساعدات المقدمة للبلدان الأفريقية، واعتماد مبدأ الاعتماد على الذات وتعزيز التجارة المتبادلة والاستثمار­ات بدلاً من سياسة المساعدات والمعونات التي اعُتمِدَت في السابق. • تطوير عاقات اقتصادية في المنطقة لإتاحة فرص للشركات الأمريكية وحماية استقال الدول الأفريقية وكذلك مصالح الأمن القومي الأمريكية. • ضرورة اتباع استراتيجية شاملة للتخلص من تنظيمي "داعش" والقاعدة، وغيرهما من التنظيمات الإرهابية المسلحة التي توجد في أفريقيا، وتجند أفارقة للعمل لصالحها. • تغيير النهج المتبع في دعم عمليات الأمم المتحدة لحفظ السام، والتي تساهم الولايات المتحدة بنحو ثلث ميزانيتها، من خال تقييم كل عملية على حدة، الأمر الذي يفتح الباب أمام تراجع كبير في عمليات حفظ السام في أفريقيا التي تستقبل النصيب الأكبر من هذه العمليات عالمياً. • عدم السماح باختال موازين القوى في القارة لصالح دول أخرى مثل الصين، وهو ما أكده بولتون قائاً: "يجب ألا نسمح باختال موازين القوى لمصلحة الصين في القرن الأفريقي الذي يُعتبر ذا أهمية استراتيجية بالنسبة إلى أمريكا". وقد كان لافتاً أن بولتون انتقد الصين وروسيا بشدة في خطابه الذي أعلن فيه هذه الاستراتيج­ية، مقارناً بين النهج الذي تتبعه الدولتان في أفريقيا والنهج الذي ستتبعه باده، على اعتبار أن منهج الصين سيؤدي إلى التبعية وانتشار الفساد، فيما تعمل الولايات المتحدة من أجل الشراكة وبناء الدول والتنمية المستدامة. وهاجم بولتون دور الصين في أفريقيا، متهماً إياها بأنها تؤسس لدورها بالعمليات المشبوهة والفساد المالي، ومعتبراً أنها "تلجأ إلى الرشوة وإبرام اتفاقات غير واضحة، واستخدام الدين على نحو استراتيجي، لإبقاء البلدان الأفريقية رهينة رغباتها ومطالبها، وأن مشروعاتها الاستثماري­ة تعج بالفساد"، وأن ممارسات الصين تتسم بالاستغال وتكبل النمو الاقتصادي في أفريقيا، وتهدد استقال دولها اقتصادياً"، وضرب مثالاً على ذلك هو زامبيا التي تدين للصين بنحو 10 مليارات دولار، وأنها قد تضطر إلى التنازل عن شركتها الوطنية للطاقة من أجل تسديد هذا الدين)73.) 3- شن حرب تجارية على الصين وتحجيم تطورها التكنولوجي: في إطار سعي الولايات المتحدة لتحجيم الصعود الصيني، اتخذت واشنطن عدة إجراءات لمواجهة بكين تجارياً وتكنولوجياً، خاصة في ظل المخاوف الأمريكية من تطور الصين في هذه المجالات الحيوية التي تساعدها كثيراً في الصعود على المستوى الدولي؛ ففي ظل بلوغ عجز الميزان التجاري الأمريكي مع الصين 375 مليار دولار في عام 2017، بادرت إدارة ترامب بشن حرب تجارية على الصين من خال فرض رسوم على الواردات الأمريكية من الصين بمليارات الدولار. ومنذ مارس 2018 تتبادل الدولتان فرض الرسوم على وارداتهما المتبادلة، وهو ما يعتبره كثيرون "معركة بين قطبي الاقتصاد العالمي للهيمنة على الاقتصاد العالمي")74.)

وحاول الرئيس ترامب في إطار هذه الحرب التجارية إقناع الشركات الأمريكية التي تستثمر في الصين بنقل أعمالها إلى الولايات المتحدة، وهو إن حدث فسوف يوجه ضربة إلى الصين التي ستُحرم من استثمارات ضخمة وتكنولوجيا متقدمة؛ فقد دعا ترامب شركة "آبل" إلى تصنيع منتجاتها داخل الولايات المتحدة إذا كانت تريد أن تتجنّب فرض رسوم جمركية على الواردات من الصين، بل إنه وعد بتقديم حوافز عالية، مثل الإعفاء تماماً من الضرائب، ولا شك أن "آبل" قد تستجيب لمطلب ترامب، خاصة إذا فشلت المفاوضات بين واشنطن وبكين لإنهاء حربهما التجارية، فحسب خبراء، تعد "آبل" من بين أكثر الشركات الأمريكية انكشافاً في ظل التوترات التجارية المتصاعدة، إذ تصنع الشركة الغالبية العظمى من منتجاتها في الصين، وتصدرها إلى الولايات المتحدة، ما يجعلها هدفاً جمركياً محتماً، كما أن لديها أعمالاً كبيرة في الصين، والتي يمكن أن يستهدفها الصينيون رداً على الإجراءات التجارية الأمريكية)75.)

وإلى جانب الحرب التجارية، سعت إدارة ترامب إلى تحجيم التطور التكنولوجي الصيني من خال وسائل عدة، من بينها تضييق الخناق على شركات التكنولوجي­ا الصينية، وفرض قيود على الاستثمارا­ت الصينية في الولايات المتحدة. ولعل المثال الأبرز على الوسيلة الأولى تلك المعركة التكنولوجي­ة بين الدولتين، والتي يقع عماق التكنولوجي­ا الصينية، شركة هواوي، في القلب منها، حيث تعرضت الشركة للكثير من التمحيص الدولي في الآونة الأخيرة، بعدما أثارت الولايات المتحدة مخاوف أمنية حول منتجاتها. وقد ذهب بعض المحللين إلى اعتبار التنافس التكنولوجي بين البلدين بمنزلة "حرب باردة"، وأن الخاف حول شركة "هواوي" يعد تعبيراً عن هذا التنافس الجيوسياسي المتصاعد) 76 .)

ويتوقع العديد من المحللين أن تواصل الولايات المتحدة تطبيق إجراءات لا عاقة لها بالتعريفات التجارية لمواجهة الصين، مثل تقييد الاستثمارا­ت الصينية في الولايات المتحدة، وتحديد قدرة الشركات الأمريكية على تصدير التقنيات إلى الصين ومواصلة الضغط على الشركات الصينية، وقد يكون من شأن قانون أصدرته الولايات المتحدة في العام الماضي تسهيل هذه العملية، فقد عزز هذا القانون سلطات الحكومة الأمريكية لإعادة النظر - ومنع - الصفقات التجارية المتعلقة بالشركات الأجنبية عن طريق توسيع نماذج الصفقات التي يمكن للجنة الاستثمارا­ت الأمريكية مراجعتها، حيث تقوم اللجنة بتدقيق الاستثمارا­ت الأجنبية للتحقق من احتمال تشكيلها تهديداً للأمن الوطني الأمريكي)77.)

ومن شأن حظر استثمار الشركات الصينية في شركات التكنولوجي­ا الأمريكية، ومنع تصدير مزيد من التكنولوجي­ا لبكين، أن يعرقل خطط الصين في أن تكون مركز التكنولوجي­ا في العالم تحت مسمى مبادرة "صنع في الصين 2025،"

وهي الخطط التي وصفها وزير التجارة الأمريكي "ويلبور روس" في أبريل 2018 بأنها "مخيفة" وتعرض الملكية الفكرية للولايات المتحدة للخطر)78.)

2- السياسات الأوروبية: تتركز السياسات الأوروبية في مواجهة الصعود الصيني في الجانب الاقتصادي- التجاري، إذ تعمل دول الاتحاد على توسيع نفوذ الاتحاد في القارة الأفريقية، من خال طرح بديل أوروبي لمبادرة الحزام والطريق، وتقديم خطط جديدة لاستثمار.

وفي هذا الصدد أطلق الاتحاد الأوروبي خطة جديدة لاستثمار الخارجي تم إقرارها كجزء من تعزيز الاتحاد لاستثمارات ودعمه لتنمية أكثر شمولاً واستدامة في أفريقيا ودول الجوار الأوروبي. ومن المتوقع أن يسهم الاتحاد الأوروبي بموجب الخطة بمبلغ قدره 4.1 مليار يورو، إضافة إلى ضخ نحو 44 مليار يورو في شكل استثمارات من القطاعين العام والخاص في الفترة بين أعوام 2017 و2020. وفي هذا الصدد، قال السفير، إيفان سوركوش؛ رئيس وفد الاتحاد الأوروبي لدى مصر، إن الخطة بمنزلة إشارة لالتزام الاتحاد الأوروبي نحو تشجيع النمو الاقتصادي وتعزيزه من خال استثمارات القطاعين العام والخاص في الباد الشريكة بأفريقيا ودول الجوار)79.)

من جانب آخر أطلق الاتحاد الأوروبي "استراتيجية آسيا للتواصل"، والتي تهدف إلى تحسين العاقات في مجالات النقل والتكنولوج­يا والطاقة وتعزيز المعايير الخاصة بالبيئة والعمل واستحداث الوظائف الجديدة والنمو الاقتصادي ومنح المجتمعات المحلية المزايا والفوائد، وذلك من دون أن تثقل كاهل الدول المستفيدة بأي ديون لا تستطيع سدادها. وعلى الرغم من تأكيد الاتحاد أن هذه الاستراتيج­ية ليست رداً على على أي جهة أخرى، فإن المؤكد أنها تعد منافساً أو حتى بدياً لمبادرة الحزام والطريق الصينية، التي تزايدت الشكوك بشأنها في ظل تنامي حجم الديون التي على الدول المستفيدة منها أن تتحملها والتي قد تعجز بعض هذه الدول عن تحملها)80.)

وإلى جانب ما سبق، بدأت الدول الأوروبية في مواجهة الرغبة الصينية لاستحواذ على شركاتها، خاصة شركات التكنولوجي­ا، حيث كان لافتاً الرفض الألماني طلباً صينياً لاستحواذ على شركة التكنولوجي­ا "ليفيلد" بعد سنوات من التساهل تجاه مستثمري الصين في شراء المؤسسات الألمانية. وقد بررت الحكومة الألمانية موقفها باعتبارات الأمن الوطني، حيث تتوجس الدول الأوروبية من الدور الذي تلعبه الدولة في الاقتصاد في الصين، فعندما تتجه شركة مملوكة للدولة في الصين نحو الاستحواذ على أخرى أوروبية، فإن الشكوك حول الدعم الحكومي والمنافسة غير المشروعة يمكن أن يكون مبرراً لرفض الحكومات طلبات الاستحواذ) 81 .)

خاتمة

يشير كل ما سبق إلى أن الصين تشهد تحولات كبرى فيما يتعلق بصعودها عالمياً كقوة عظمى؛ بحيث لم يعد الحديث المتكرر عن الصعود الصيني منذ عقدين من الزمن مجرد حديث نظري، لأن "التنين" الصيني يعمل بكل قوة خال السنوات الأخيرة على الحفاظ على تماسك واستقرار الداخل، ويتحرك إقليمياً لتثبيت نفسه كقوة أولى في القارة الآسيوية، ويسعى عالمياً بخطوات متدرجة نحو تأكيد وترسيخ مكانته في أقاليم العالم المختلفة ومنافسة القوى الرئيسية، خاصة الولايات المتحدة وأوروبا، على النفوذ والهيمنة.

وتدرك دول الشرق الأوسط والمنطقة العربية – مثل سائر أقاليم العالم - جيداً حقيقة هذا الصعود الصيني، ولذا بدأت تظهر بعض الكتابات الخاصة بتحليل الدور الصيني وانعكاساته المُحتملة، وماذا يمكن أن تفعل الصين، وهل دورها سوف ينعكس بالإيجاب أم بالسلب على مصالح الدول المختلفة؛ خصوصاً أن منطقة الشرق الأوسط تستحوذ على اهتمام كبير من قادة الصين، فلدى بكين أكثر من أربعة عشر اتفاقية للشراكة الاستراتيج­ية مع دول المنطقة، ولديها تبادلات تجارية واستثمارات ضخمة مع دول المنطقة، وتكترث لاعتبارات الأمنية بالمنطقة، ومنها بالطبع الأمن البحري واستقرار الدول المصدرة للنفط والغاز لها؛ وبالتالي يتوقع البعض مشاركة صينية أكبر في السنوات المقبلة في أزمات المنطقة، لاسيما مع حرصها على تنفيذ مبادرة الحزام والطريق التي تقع دول الشرق الأوسط في القلب منها، ومع وجود قاعدة صينية في جيبوتي على أهم طرق الماحة الدولية.

أخيراً، يمكن التأكيد أن الصعود الصيني يقتضي من المجتمع البحثي والأكاديمي العربي مزيداً من الدراسات الخاصة بالمجتمع والدولة في الصين، وبطبيعة التحولات الجارية في النظام العالمي الراهن. كما يتطلب هذا الصعود الصيني من الدول الاستعداد المبكر لمثل هذا التحولات وتكييف سياساتها ومصالحها الخارجية للتعامل مع المستجدات العالمية، حيث يُتوقع أن يتحول النظام العالمي لنظام متعدد الأقطاب خال العقدين أو العقود الثاثة المقبلة، في عملية بدأت بالفعل وسوف تستمر لبعض الوقت.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates