Trending Events

لماذا تبدو سياسة ترامب الخارجية "غير مفهومة"؟

د. ديفيد دي روش

- د. ديفيد دي روش

تتمثل وجهة النظر السائدة عند تحليل سياسة الولايات المتحدة تحت حكم ترامب، في أنها تتسم بالغموض، وعدم اليقين، في حين أن التدقيق في أبعادها يكشف عن التزامها بالمبادئ العامة التي حكمت سياسة واشنطن عبر عقود، وإن لم تخل من بعض التوجهات الجديدة.

يُعرف عن السياسة الخارجية الأمريكية أنها تتسم بالثبات النسبي على الرغم من تعاقب الإدارات، وذلك نظراً لأنها تعكس المصالح والهواجس الأمنية الأمريكية، وليس توجهات رئيس الدولة، ومن ثم فإن أي تغيير تشهده عادة ما يكون محدوداً، ويكون على المستوى التكتيكي، وليس في التوجه الاستراتيج­ي.

وتنطبق القاعدة السابقة، حتى على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي يمكن أن نلتمس في سياساته بعض الثوابت والمبادئ التي تحكم توجهاته في السياسة الخارجية الأمريكية. فالرئيس ترامب لا يمكن اعتباره سياسياً تقليدياً، بأي حال من الأحوال، وهو ما يتضح من مسيرته السياسية، فقد كان داعماً للحزب الديمقراطي حتى عام 2009، كما لم يشغل أي منصب، سواء في الحزب الديمقراطي أو الجمهوري، وترشح كشخص من خارج الدوائر السياسية في عام 2016.

ونظراً لأنه لم يكن يدين بالولاء للحزب الجمهوري، فقد ظهرت توجهات مناوئة لترامب من جانب الحزبين، وهو ما أعاق قدرته على استكمال المناصب الأساسية في إدارته. ومع ذلك فإنه يمكن تحديد بعض عناصر الاستمراري­ة في سياسة ترامب الخارجية.

ثلاثة توجهات حاكمة

ينحصر تفكير ترامب في ثاثة مبادئ تهيمن على الفكر الأمريكي بشأن السياسة الخارجية، ألا وهي: الواقعية والمثالية والانعزالي­ة. وياحظ أن المبادئ الثاثة ظلت حاضرة باستمرار في أي نقاش أمريكي حول السياسة الخارجية. وعادة ما يهيمن أحد المبادئ الثاثة على تفكير الإدارة الأمريكية فيما يتعلق بالتوجهات الخارجية.

فعلى سبيل المثال، نجد أن الرئيسين جيمي كارتر )1977 – 1981( وودرو ويلسون )1913 – 1921( وضعا المثالية على رأس جدول أعمالهما، وذلك في صورة الدفاع عن حقوق الإنسان في حالة كارتر، والدفاع عن مبدأ تقرير المصير في حالة ويلسون، ولكن تفكيرهما اتسم كذلك بقدر من الواقعية.

ويعتبر كل من ريتشارد نيكسون 1969( – 1974( ودوايت أيزنهاور 1953( – 1961( من أتباع المدرسة الواقعية، حيث إنهما كانا يقبان بالحلول الوسط من أجل تعزيز المصالح الأمريكية، مع تجنب التورط العسكري في الخارج، نظراً لكلفته المرتفعة، وإن كان على استعداد دائم للجوء لهذا الخيار كماذ أخير إذا كانت ستدعم مصالح واشنطن.

أما ترامب، فيقع في المعسكر الثالث، وهو الأندر نوعاً، فهو من الرؤساء الذين تحركهم فكرة الانعزالية، نظراً لأنه شهد تورط الولايات المتحدة تحت إدارة رئيسين من كا الحزبين الجمهوري والديمقراط­ي في حروب مكلفة با طائل، فخلص ترامب إلى أن الرؤساء السابقين تسرعوا في إقحام الولايات المتحدة في صراعات لا تمس مصالحها الرئيسية، بل وتهدر أموالاً الوطن أولى بها.

ولم تجد سياسة الانعزالية داعماً لها داخل البيت الأبيض منذ الحرب العالمية الثانية، فقد نشأت أجيال من الأمريكيين على أن النزعة الانعزالية، التي سادت بعد الحرب العالمية الأولى، كانت سبباً رئيسياً وراء اندلاع الحرب العالمية الثانية.

وكان دونالد ترامب هو الوحيد الذي أدرك جاذبية النهج الانعزالي، فاستغله، أثناء حملته الانتخابية، في الوصول إلى البيت الأبيض، فلقد رأى كيف اضطر باراك أوباما إلى إعادة قواته إلى العراق في السنوات الأخيرة من ولايته، على الرغم من تعهده أثناء ترشحه لمنصب الرئاسة بالخروج منها، فانضم بذلك إلى مسؤولي إدارة بوش الابن، الذين اتخذوا القرار الخاطئ بغزو العراق في عام 2003.

ولكن التوجه الانعزالي ليس هو المحدد الوحيد لسياسة ترامب الخارجية؛ إذ إنه لا يزال مؤمناً بضرورة أن تكون واشنطن قوية في الخارج، وأن تلجأ إلى استخدام قوتها الاقتصادية والعسكرية، عندما يكون هذا هو المسلك الوحيد لتعزيز القوة الأمريكية، ولن تفضي إلى التزامات أبدية. كما أن عقله الباطن يفضل الدول الشريكة والحلفاء الذين أبدوا ولاءهم للولايات المتحدة ويتعرضون للتهديد على أيدي آخرين. لذا يبدو أن بولندا، المهددة من روسيا، وإسرائيل، التي لم تتوصل لسام مع جميع جيرانها بعد، قد استفادتا من هذا الأمر. ترامب الخارجية في تحليل الصورة التي يرسمها لنفسه، ويحاول جاهداً التأكيد عليها في كل المناسبات العامة. فهو يفتخر بافتقاره إلى الخبرة السياسية بعد أن راهن بنجاح على أن أغلب المواطنين الأمريكيين لم يعودوا يميلون لفئة السياسيين المحترفين. لذا فقد قدم نفسه بصورة رجل الأعمال الناجح القادر تماماً على فهم قوة المال وسلطته على نحو أفضل من أي شخص آخر على الساحة الوطنية، وبصورة المفاوض المحنك الذي اخترع عبارة "فن الصفقات".

ومما يساعد على تفسير الكثير من تحركات ترامب في السياسة الخارجية بشكل أفضل هو النظر إلى الأثر المحلي لسياسته الخارجية، فترامب يدرك أن المواطن الأمريكي هو وحده من يملك خيار التصويت لترامب أو ضده، وبالتالي فهو يقيم تداعيات سياسته الخارجية على المستوى الداخلي أكثر من تبعاتها الفعلية على المستوى الخارجي.

وفي هذا الإطار، يمكن فهم أسباب دعم ترامب لإسرائيل، والتي لاتزال يحظى بشعبية كبيرة في الولايات المتحدة. كما أن استعداد ترامب للدخول في مفاوضات مع طاغية كوريا الشمالية من دون التحضير الجيد للتفاوض، والاتفاق على حدود التنازلات المسموح بها أمريكياً، يعد جانباً آخر من جوانب سياسته الخارجية التي تحركها الرغبة في تصوير نفسه بصورة المتمكن من "فن الصفقات"، وبأنه الوحيد القادر على حل الأزمة الكورية المعقدة بفضل شخصيته وخبرته الفريدتين.

ويعد إسهام ترامب "المبتكر" في السياسة الخارجية حقاً هو توظيف مكانة أمريكا في الاقتصاد العالمي كساح يمكن استخدامه لتعزيز أهدافها الخارجية. فقد استغل ترامب الأدوات الاقتصادية، مثل العقوبات والتعريفات الجمركية، بطريقة لم تشهدها الولايات المتحدة من قبل وعلى نحو يخدم مصالح السياسة الخارجية أغلب الوقت. ويعتبر هذا النهج فريداً من نوعه في تاريخ الولايات المتحدة. وقد يصير هذا التوظيف للأدوات الاقتصادية في النهاية هو البصمة التي سيتركها ترامب على إدارة واشنطن لعاقاتها الخارجية.

وأخيراً، ومن ناحية أقل إيجابية، يعد ترامب أول رئيس أمريكي في العصر الحديث يربط الاعتبارات الاقتصادية المحلية ربطاً صريحاً وواضحاً بالسياسة الخارجية، فغالباً ما يضع ترامب الاستثمارا­ت والإنفاق الأجنبي في الولايات المتحدة كمبرر لغض الطرف عن سياسات الدول الصديقة التي لا تحظى بشعبية كبيرة في واشنطن.

وتميل تصريحات ترامب عندما يتعرض لضغوط بشأن هذه الأمور إلى الإشارة إلى الجانبين الواقعي والانعزالي للسياسة الأمريكية، مؤكداً على الفوائد التي تجنيها الدولة باستمرار على المستوى المحلي من وراء هذه التصرفات، فضاً عن عدم اكتراثه بسياسات الدول الأخرى.

كما ياحظ أنه بينما يستهين بقيمة الجانب المثالي للسياسة الخارجية الأمريكية، فإنه لم يغض الطرف عنه تماماً، فهذا الجانب لا يزال قائماً، وهو ما يتضح في الانتقادات الموجهة لتصريحات ترامب حول هذه الموضوعات، وهو ما يكشف عن أن هذا الجانب لا يزال كامناً في الظل، في انتظار خروجه إلى النور عندما يحين الوقت المناسب.

وفي الختام، يمكن القول إن ترامب رئيس استثنائي، لكنه لم يأت من العدم، فعلى الرغم مما تتسم به شخصيته من غرابة وتقلب، فإن سياسته وسلوكه ليسا متهورين، ولا يأتيان من فراغ، فقد أدرك أهمية جانب من جوانب السياسة الخارجية الأمريكية لم يحظ بالتقدير ولا بالتحليل الكافي، وقام بتوظيفه لصالحه. وتبين أن إهمال هذا الجانب يمثل فرصة له، فانقض عليها واستغلها لكي يصل إلى البيت الأبيض، وحتى عندما سخر منه الخبراء والمتخصصون، كان هو من يضحك أخيراً.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates