Trending Events

ما الذي يدفع شركة تجارية إلى دعم منظمة إرهابية؟

د. كريستيان ألكسندر

- د. كريستيان ألكسندر

لم توجه الدراسات الأمنية اهتماماً كافياً لبحث العلاقة التي تنشأ في بعض الأحيان بين الشركات متعددة الجنسيات والتنظيمات الإرهابية. وتلقي واقعة محاكمة القضاء الفرنسي لشركة لافارج الضوء من جديد على هذه العلاقة الملتبسة.

مبررات البقاء

تعد مجموعة لافارج، وهي شركة فرنسية متعددة الجنسيات، من أكبر مُنتجي الأسمنت في العالم. واستثمرت ما يزيد على 680 مليون دولار أمريكي في شراء وتجديد مصنع في مدينة جابيا، الواقعة في شمال شرق سوريا، وشرعت الشركة في تشغيله في عام 2010 مستهدفة تحقيق أرباح من وراء العمل في قطاع البناء السوري، الذي كان يشهد حينها نمواً مضطرداً، بالإضافة إلى المشاركة في جهود إعادة الإعمار العراقية بعد الحرب، والتي ستتطلب حتماً الكثير من الأسمنت.

وتعرضت استثمارات الشركة لتحدٍ كبير في ربيع عام 2011، عندما اندلعت احتجاجات شعبية في سوريا، سرعان ما تطورت إلى حرب أهلية، الأمر الذي وضع شركة لافارج أمام خيارين، وهما البقاء في سوريا، أو مغادرة الباد وخسارة الأموال التي أنفقتها. وقررت الشركة في النهاية البقاء.

وياحظ أنه عند اتخاذ مثل هذه القرارات، تسعى الشركات متعددة الجنسيات إلى الموازنة بين عدة أهداف، وهي زيادة الأرباح، وتحقيق التفوق الاستراتيج­ي على منافسيها، مع تجنب المخاطر المرتبطة بممارسة أنشطتها، وغالباً ما تعجز الشركات عن تحقيق هذه الأهداف معاً، وهو ما يجبرها في النهاية على المفاضلة بين الأرباح والمخاطر، خاصة مع وجود عاقة مباشرة بين المخاطر والأرباح، فكلما زادت المخاطر، زادت الأرباح، والعكس.

وتُقبِل شركة مثل لافارج على المجازفة، حيث مارست أنشطتها التجارية في بيئة مليئة بالصراعات، مثل سوريا، وذلك لتعزيز أرباحها من خال الاستفادة من الفرص التجارية التي تجنبتها الشركات الأخرى.

واستمرت لافارج في العمل في سوريا حتى عام 2016. ووفقاً لتحقيقات الحكومة الفرنسية، فإنه خال الفترة الزمنية الممتدة من عام 2011 وحتى 2015، تورطت الشركة في دفع مبالغ مالية غير رسمية بلغت حوالي 5 مايين دولار أمريكي لعدد من التنظيمات الإرهابية، مثل جبهة النصرة، الموالية لتنظيم القاعدة، وكذلك تنظيم "داعش"، لكي تتمكن من مواصلة أنشطتها في سوريا.

وطبقاً لرواية الشركة، كانت هذه المدفوعات ضرورية لضمان سامة المصنع، بالإضافة إلى تأمين المرور بنقاط التفتيش من المصنع وإليه، والتي كانت تخضع لسيطرة التنظيمات الإرهابية في بعض الحالات. ويبدو أن تعقيدات الوضع السوري أجبرت لافارج على التعامل مع "شر لابد منه" للحفاظ على أنشطة المصنع.

ومن جهة ثانية، تبرر الشركة ممارستها لأنشطتها تحت سيطرة التنظيمات الإرهابية بحقيقة فقدان الحكومة السورية سيطرتها على مساحات واسعة من الباد بعد اندلاع الحرب الأهلية، فأصبح الفضاء غير الخاضع للحكومة

السورية، والذي تعمل فيه الشركة، منطقة اضطرابات تحكمها جماعات مسلحة أو تنظيمات إرهابية، والتي بدورها تقوم بفرض إتاوات على الشركة من أجل السماح لها بممارسة أنشطتها.

وقائعمماثل­ة

لا يمثل تعاون لافارج مع التنظيمات الإرهابية في سوريا استثناءً، فهناك أمثلة مشابهة في دول أخرى. فقد استفادت جماعات الجريمة المنظمة في المكسيك من الاضطرابات الداخلية، وقامت بابتزاز الشركات، لاسيما في المناطق النائية الخارجة عن سيطرة الدولة، وقامت بفرض إتاوات عليهم مقابل السماح لهم بالعمل في مناطق سيطرتهم.

ومن الأمور المعروفة كذلك– ولكن نادراً ما يتم الحديث عنها– حقيقة أن الجيش الأمريكي في أفغانستان يدفع بشكل غير مباشر )عبر وسطاء( أموالاً للعدو نفسه الذي يحاربه، ممثاً في طالبان وغيرها من الجماعات الإرهابية والإجرامية، وذلك للسماح بمرور معدات الجيش وذخائره بأمان من باكستان إلى أفغانستان.

فوفقاً لمقال كتبه أرام روستون، ونشره عام 2009 في "ذا نيشن" The( Nation،) قدرت هذه المدفوعات بحوالي 10% من إجمالي عقود البنتاجون اللوجستية في أفغانستان، أي بقيمة وصلت حينها إلى مئات المايين من الدولارات سنوياً، أي أن طالبان اعتمدت على المتعاقدين مع الجيش الأمريكي لتمويل عملياتها العسكرية ضدهم، إلى جانب ما هو معروف من اعتمادهم على تجارة المخدرات، وفي المقابل امتنعت طالبان عن استهداف قوافل الإمدادات الأمريكية القادمة من المحيط الهندي والمارة بباكستان، وصولاً إلى جنوب أفغانستان.

وتعيد هذه الأمثلة الجدل من جديد حول شرعية التعاون بين الشركات متعددة الجنسيات والتنظيمات الإرهابية، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن لافارج أُجبرت على التعاون مع التنظيمات الإرهابية لتجنب استهداف موظفيها، ولضمان استمرار أنشطتها في سوريا.

ويتمثل أحد الأنماط المثيرة للجدل كذلك، في أموال الفدية، التي تطالب التنظيمات الإرهابية الدول أو الشركات بدفعها، نظير إطاق سراح رعاياها المختطفين. وبخاف أغلب الدول الغربية المعروفة بتمسكها الشديد بسياسة عدم التفاوض مع الإرهابيين، اشتهرت فرنسا بدفع ما تطلبه الجماعات الإرهابية من فدية، وهو المسلك الذي يراه العديد من المتخصصين في الإرهاب أمراً مشجعاً للإرهابيين على زيادة عمليات الاختطاف لرعايا الدول.

وعلى الرغم من إنكار الإدارات الأمريكية علناً دفع أموال للخاطفين، فإنها تفعل ذلك في الواقع العملي، ففي أثناء ولاية رونالد ريجان في الثمانينيا­ت من القرن العشرين، على سبيل المثال، وقعت فضيحة "إيران – كونترا"، والتي تمثلت، في أحد جوانبها، في قيام واشنطن ببيع قطع غيار عسكرية لطهران كانت تحتاجها بشدة لصيانة أسلحتها الأمريكية في معركتها ضد العراق، ووعدت إيران الولايات المتحدة، في المقابل، أن تضغط على حلفائها من الميليشيات الشيعية في لبنان لإطاق سراح عدد من الرهائن الأمريكيين المحتجزين لديهم.

تداعيات �صلبية

ساهمت الموارد المالية التي دفعتها الشركات، أو المتعاقدين مع الحكومات للتنظيمات الإرهابية إلى زيادة الاضطرابات الأمنية، حتى وإن لم يسعوا لذلك، وبالتالي فإن سلوك الشركات والدول يمكن أن يؤدي إلى تفاقم العنف، أو تقويض الاستقرار في مناطق الصراعات، بما يرتبه ذلك من تداعيات سلبية أمنياً وسياسياً.

فقد مثلت الأموال التي حصل تنظيم "داعش" عليها من شركة لافارج، بالإضافة إلى الموارد التي كان يولدها من عدد من الأنشطة غير المشروعة، مثل بيع النفط في السوق السوداء، والاتجار بالبشر المصادر الأساسية التي استند إليها التنظيم لتمويل رواتب مقاتليه وموظفيه، بالإضافة إلى مواصلة أنشطته الإرهابية داخل سوريا والعراق وخارجهما. كما ساهمت الأموال التي دفعتها الشركات المتعاقدة مع القوات الأمريكية في أفغانستان إلى إطالة أمد الحرب هناك ضد طالبان، والتي دعمتها واشنطن بشكل غير مباشر.

ومن جهة ثانية، تخضع الشركات المتورطة في دفع موارد مالية للتنظيمات الإرهابية لماحقات قضائية، إذ إن القضاء الفرنسي اتهم مديري شركة لافارج بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وتمويل أنشطة إرهابية في سوريا، بالإضافة إلى "تعريض حياة موظفيها للخطر"، والتحايل على "حظر الاتحاد الأوروبي المفروض على النفط السوري" أو تجاهله، وذلك أثناء فترة عملها في سوريا.

ومن المرجح أن تطول الإجراءات القضائية ضد شركة لافارج الفرنسية، وتستغرق سنوات عديدة، وذلك بسبب استعانة الشركة بمحامين رفيعي المستوى للدفاع عنها، فضاً عن الطبيعة السياسية لهذه القضية، بالإضافة إلى إلقاء الشركة باللوم على مجموعة من الموظفين، الذين زعمت الشركة أنهم أخفوا الأمر عن كبار المسؤولين التنفيذيين.

وسعت الحكومة الفرنسية، حتى قبل انتهاء المحاكمات، إلى اعتماد قانون ملزم عرف باسم "قانون واجب الرعاية للشركات متعددة الجنسيات" ‪Multinatio­nals Duty of Care(‬ Law) تحظر بموجبه على الشركات الفرنسية متعددة الجنسيات، وكذلك على جميع فروعها والمتعاقدي­ن معها في الباطن من التورط في أنشطة تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان. كما بدأت الشركة التي أعيد تأسيسها مؤخراً تحت اسم جديد هو "لافارج هولسيم" )Lafarge-Holcim( في إعداد خطاب جديد حول المسؤولية الاجتماعية للشركات، يركز على أهمية الشفافية والمشاركة في تنمية المجتمع في محاولة لتبييض صورتها بعد سابق تورطها في دعم الإرهاب.

وفي الختام، يمكن القول إنه على الرغم من إدراك الشركات والدول جيداً لتبعات الخضوع لابتزاز الجماعات الإرهابية، خاصة فيما يتعلق بتوظيفها هذه الأموال في زيادة مستويات العنف، فإن الممارسة العملية تكشف أن هذا الاعتبار، لم يكن رادعاً بدرجة كافية للشركات والدول، لامتناع عن انتهاج هذا السلوك.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates