Trending Events

معضلة البديل:

تراجع فاعلية المعارضة السياسية في الشرق الأوسط

- أ. د. فتحي بولعراس

كشفت التحولات السياسية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط عن إشكاليات الضعف الهيكلي في تيارات المعارضة السياسية وعدم قدرتها على طرح نفسها على الناخبين كبديل يمكنه تولي السلطة وتحقيق تطلعات الناخبين.

كانت التحولات الداخلية الهيكلية بمنطقة الشرق الأوسط عنواناً لعام 2019، حيث تجددت موجات الحراك الاحتجاجي في الجزائر والسودان وتسببت في سقوط كل من نظام عبدالعزيز بوتفليقة والرئيس السوداني عمر البشير، بينما شهدت دول أخرى مثل جزر القمر وإسرائيل وموريتانيا وتركيا استحقاقات انتخابية محورية، كما ينتظر أن تشهد دول أخرى جولات انتخابية فارقة مثل تونس.

وبدت المعارضة السياسية في خضم هذه التحولات الطرف الأضعف والأقل تأثيراً في ظل معاناتها التفكك والانقسام وفقدانها الكوادر السياسية والقيادات الشعبية والبرامج الحزبية القادرة على تغيير مامح المشهد السياسي، بحيث باتت متهماً رئيسياً من جانب نظم الحكم والجماهير بالمشاركة في المسؤولية عن جمود الأوضاع السياسية.

اأولً: خريطة التحولت الداخلية

ثمة العديد من التحولات التي شهدتها خريطة منطقة الشرق الأوسط خال الفترة المنقضية من عام 2019، بعيداً عن احتدام الصراعات الخارجية التقليدية التي تمتلئ بها رقعة الإقليم الجغرافية، والتي تمثل بؤرة اهتمامات القوى الكبرى لما لها من تأثيرات على خريطة التحالفات وتوازن القوى وسباق التسلح في الشرق الأوسط.

وفي هذا الإطار، تبرز ثاثة عناوين جامعة لتلك التحولات الداخلية التي عايشها الإقليم خال شهور العام الجاري، وتلك المنتظر أن يشهدها في الفترة القادمة، وتتمثل أهم معالم هذه التحولات فيما يلي:

1- صعود الحراك الاحتجاجي: تسببت الحركات الاحتجاجية في كل من السودان والجزائر في سقوط الرئيسين؛ عمر البشير في السودان وعبد العزيز بوتفليقة في الجزائر، بعد ثاثة عقود في الحكم للأول وعقدين للثاني، ومازال الحراك جارياً على الرغم من الإطاحة برأسي النظام في كا البلدين بسبب المطالبة بالتخلص من إرث

النظم القديمة وطرح مطالب متعددة تتعلق ببناء مؤسسات الدول والتنمية الاقتصادية، وهو ما يثير جدلاً حول مآلات الاتجاهات الاحتجاجية ومدى تأثيرها على الاستقرار السياسي في دول الشرق الأوسط.

2- فعاليات انتخابية مؤثرة: شهدت منطقة الشرق الأوسط عدة فعاليات انتخابية محورية من بينها الانتخابات البلدية في تركيا التي شهدت تقدماً للمعارضة السياسية بالمخالفة لاتجاه السائد إقليمياً، وتمكن مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو من الإطاحة بقطب حزب العدالة والتنمية الحاكم رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم، والفوز بمقعد رئيس بلدية اسطنبول، في يونيو 2019، حيث هزم منافسه مرتين خال ثاثة أشهر بعد طعون انتخابية من مرشح الحزب الحاكم، وهو ما يُعد هزيمة رمزية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي بدأت مسيرته السياسية رئيساً لبلدية اسطنبول في عام ‪.) 1( 1994‬

وفي يونيو 2019، أيضاً، تمكن مرشح الحزب الحاكم في موريتانيا؛ الجنرال محمد ولد الشيخ الغزواني من الوصول لسدة الحكم، بعد فوزه في الانتخابات بأكثر من 52% من أصوات الناخبين، متقدماً على 5 مرشحين آخرين؛ على رأسهم مرشح المعارضة ورئيس الوزراء الأسبق سيدي محمد ولد بوبكر)2.)

وفي جزر القمر، فاز الرئيس غزالي عثماني بولاية رئاسية رابعة بعد فوزه في انتخابات مارس 2019، بنحو 60.77% من أصوات الناخبين، متقدماً على محمود أحمد؛ أبرز مرشحي المعارضة، الذي حصل على 14.62%، وهو ما أثار جدلاً حول قدرة المعارضة السياسية على طرح ذاتها كبديل سياسي في جزر القمر)3.)

وعلى مستوى آخر، شهدت الانتخابات الإسرائيلي­ة التي أجريت في أبريل 2019 حصول حزب الليكود بقيادة بنيامين نتنياهو على 35 مقعداً بالتساوي مع حزب كاحول لافان بقيادة كل من بيني جانتس ويائير لبيد. ولم يتمكن نتنياهو من تشكيل الائتاف الوزاري الخامس منذ دخوله المجال السياسي الإسرائيلي نتيجة لضغوط الأحزاب اليمينية والدينية، مما دفع للإعان عن انتخابات تشريعية مبكرة يتم إجراؤها في سبتمبر 4( 2019.)

3- استحقاقات انتخابية مرتقبة: مع تحديد الهيئة العليا المستقلة لانتخابات في تونس، شهري أكتوبر ونوفمبر من العام 2019، ليكونا موعداً لانتخابات؛ البرلمانية ثم الرئاسية، في الباد)5(، فإنه يبدو أن الساحة التونسية ستكون مقبلة على معركة انتخابية مرتقبة، تلقي نتائجها بظال على سياقات المشهد الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصة في ظل وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي في 25 يوليو 2019 والانقساما­ت التي شهدها حزب نداء تونس، مع انشقاق رئيس الوزراء يوسف الشاهد وقيامه بتكوين حزب جديد، وسعي حركة النهضة للوصول لرئاسة الدولة.

ثانياً: ملامح �صعف المعار�صة ال�صيا�صية

تؤشر التحولات الداخلية؛ سالفة البيان، التي شهدها الإقليم خال الشهور القليلة الماضية، إلى عدد من نقاط الضعف البنيوية في هياكل التيارات المعارضة، على الرغم من بعض النجاحات الجزئية التي حققتها خال هذه الفترة، ويمكن إلقاء الضوء على أبرز تلك النقاط على النحو التالي:

1- ضعف القيادات والكوادر: ففي الحالة الجزائرية، تعاني الأحزاب السياسية مشكات عديدة جعلت منها كيانات با روح، كافتقادها القيادات والكوادر السياسية المؤهلة، وضعف امتدادها الشعبي، إضافة إلى غياب الديمقراطي­ة داخل هذه الأحزاب، الأمر الذي جعل قيادات هذه الأحزاب غير منسجمة مع قناعاتها الفكرية، حيث تطالب بتداول السلطة وهي لا تمارسه، كما تعاني التيارات السياسية الجزائرية

تدني مستويات الديمقراطي­ة الداخلية مما يؤثر على شعبيتها)6.)

وفي جزر القمر، أخفقت المعارضة السياسية في منافسة الرئيس عثمان غزالي في انتخابات مارس 2019، حيث انفرط عقدها ما بين 12 مترشحاً، ولم يشفع لها تشكيكها في هذه النتيجة، واتهامها النظام بتزوير النتائج ومنع ممثلي المرشحين من حضور عملية الاقتراع في مراكز التصويت، إذ لم تقدم ما يكفي من الأدلة حول مزاعمها)7،) واكتفت المعارضة باللجوء إلى تأسيس كيان هش يحمل اسم "المجلس الوطني الانتقالي" برئاسة قائد الجيش السابق العقيد محمد صويلحي، بهدف الإطاحة بالرئيس عثماني، وهددوا باللجوء الى اضراب عام وعصيان مدني في حالة ما اذا بقي عثماني في الحكم)8.)

2- الخلافات البينية والانقساما­ت: بعد فشلها في انتخابات المجلس التأسيسي التي جرت في 2012، استطاعت أحزاب اليسار في تونس تجميع قواها ضمن ما أُطلق عليه "الجبهة الشعبية". وقد انضم إلى الجبهة كل من أحزاب "العمال"، و"الوطنيين الديمقراطي­ين"، و"حركة البعث")9(. ولم يمض وقت طويل حتى تعرضت الجبهة الشعبية لأزمة داخلية عنيفة بسبب الصراع على الزعامة، وما زاد من تفاقم تلك الأزمة عدم قدرة الأحزاب المنضوية تحت "الجبهة الشعبية" على تجاوز خافاتها الداخلية، الأمر الذي أدى إلى تراجع أدائها السياسي والانعزال عن الشارع التونسي)10(، لا سيما أن تونس تتأهب لانتخابات تشريعية ورئاسية حاسمة.

ويعد غياب الرئيس السبسي عن المشهد الانتخابي بمنزلة النهاية السياسية لحركة نداء تونس الموحدة التي ضربت الانشقاقات والتصدعات في عمق بنيتها التنظيمية، في ظل الافتقاد للرمز السياسي الذي كان يمكن أن يوحد الفرقاء ويدفعهم للتفاوض لاستعادة تماسك الحزب. وتسبب الخاف حول موقع نجل الرئيس حافظ قائد السبسي ضمن الحركة لانشطار الحزب إلى جبهتين: جبهة المنستير بقيادة نجل السبسي، وجبهة الحمامات بقيادة رئيس الكتلة البرلمانية للحزب سفيان طوبال، وهو ما أدى لخسارة الحزب لأغلبيته البرلمانية) 11 .)

3- إهدار الفرص السياسية: فشل المعارضة الموريتاني­ة في الإجماع على مرشح لمنافسة مرشح الحزب الحاكم في انتخابات 2019 ليس خطيئتها الوحيدة، ولكنها أخفقت كذلك في اقتناص فرصة التناقضات الداخلية التي يشهدها النظام الموريتاني خال السنوات القليلة الماضية، فقد أثار قرار الرئيس الموريتاني المنتهية ولايته؛ محمد ولد عبد العزيز، إلغاء مجلس الشيوخ دون التشاور مع أعضائه، حالة من الاحتقان داخل الائتاف الوطني الحاكم في موريتانيا، حيث تصاعدت حدة صراع الأجنحة داخل الحزب الحاكم بين رئيس الحزب محمد ولد محمد ورئيس مجلس الشيوخ محسن ولد الحاج، لا سيما بعد معارضة أعضاء مجلس الشيوخ لاستفتاء حول إلغاء هذه المؤسسة. وقد برّر ولد عبد العزيز هذا القرار بالتكلفة المالية الضخمة للمجلس، وعرقلته التشريع. ويكشف رد فعل أعضاء مجلس الشيوخ إزاء هذا القرار عن غياب الإجماع داخل الائتاف الحاكم حول التوجهات السياسية للباد)12.)

وقد وجد الرئيس الموريتاني نفسه في مواجهة صراعات داخل أغلبيته، بين رئيس الحزب الحاكم سيدي محمد ولد محمد، في مواجهة رئيس مجلس الشيوخ محسن ولد الحاج. وبالتوازي مع هذا الصراع المحتدم بين هذين الجناحين، اندلع صراع آخر لا يقل حدة، بين رئيس الوزراء السابق يحيا ولد حدامين وسلفه في رئاسة الحكومة مولاي ولد محمد الأغظف. وكشف ذلك عن أن الانتماءات العشائرية أقوى من القناعة والانتماء للمشروع السياسي) 13 .)

4- هشاشة التحالفات السياسية: تبدو تونس التي تترقب انعقاد انتخابات تشريعية ورئاسية مرتقبة خال شهري أكتوبر ونوفمبر من العام 2019، با تحالفات مؤثرة بين تيارات المعارضة بما يمكنها من المنافسة الجادة في تلك الانتخابات، حيث تميزت التحالفات الحزبية والسياسية التي ظهرت في تونس ما بعد الثورة بالهشاشة والضعف، وهو ما ينسحب على "ائتاف قادرون" و"اتحاد المستقلين التونسيين". والافت للنظر أن السمة المشتركة بين هذه التحالفات هي رغبتها في إنهاء حالة الاستقطاب الحزبي بين النهضة وحزب نداء تونس الذي يعاني انشقاقات كبيرة)14(، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع تجاوز خافاتها البينية لصالح تحالف صلب يستطيع إزاحة القوى السياسية المسيطرة على خريطة المشهد السياسي في تونس ما بعد الثورة.

ثالثاً: النعكا�صات على النظم ال�صيا�صية

لا شك أن نقاط الضعف المتجذرة في بنية تيارات وأحزاب المعارضة في المنطقة وثيقة الصلة بطبيعة الأنساق السياسية القائمة في الإقليم نظراً لعدم ترسخ خبرات الأحزاب السياسية وافتقادها معايير المؤسسية والقدرة على المنافسة.

وقد أكدت الخبرة التاريخية في منطقة الشرق الأوسط

عموماً ضرورة إعادة النظر، معرفياً ومنهاجياً، في كيفية التعاطي مع الظاهرة الحزبية في دول الجنوب. ومرد ذلك ما كشفته تجربة التعددية الحزبية من اختالات وإخفاق في أداء وظائف التمثيل السياسي والتعبير عن مطالب الناخبين، وهو ما يُحتم على تيارات المعارضة في المنطقة إعادة النظر في برامجها وثقافتها وأطرها التنظيمية وأنشطتها وممارسة النقد الذاتي وعدم تعليق إخفاقاتها المتوالية على النظم الحاكمة والسياقات المحيطة)15.)

ولا يتوقع أن تنحسر التحولات الداخلية التي تشهدها بعض دول الشرق الأوسط في المستقبل القريب نتيجة للتغير في العاقة بين الدولة والمجتمع وصعود تيارات سياسية من خارج المشهد السياسي لا تجد في الأحزاب السياسية الموجودة في الساحة السياسية ما يعبر عن مطالبها وتطلعاتها، وهو ما يفسر صعود الحركات الاحتجاجية في الجزائر والسودان)16.)

ولعل الاحتجاجات التي شهدتها إسرائيل مؤخراً من جانب يهود الفاشا والإسرائيل­يين من أصول أفريقية تعد تعبيراً عن مدى نخبوية المشهد السياسي وعدم وجود قنوات مؤسسية للتعبير عن مطالب بعض الجماعات المحلية التي تتعرض للتهميش والاستبعاد والتمييز ضدها سياسياً واجتماعياً، وهو ما يؤدي لعدم الاستقرار السياسي والتفجر المتتالي لموجات الاحتجاج السياسي)17.)

وتكشف حالة الحراك السياسي والاحتجاجا­ت السياسية في بعض دول الشرق الأوسط عن تواصل اتجاهات التغيير والتحولات السياسية الداخلية في الإقليم في الأمد القريب، خاصةً مع خوض عددٍ من الدول مراحل انتقالية معقدة مثل الجزائر والسودان واستمرار الصراعات الداخلية في دولٍ أخرى مثل سوريا وليبيا واليمن فضاً عن تواصل تدخات القوى الإقليمية والدولية وتأثيراتها على الاستقرار السياسي والأمني) 18 .)

وفي هذا السياق، تسببت التدخات الخارجية في بعض دول الإقليم في إضعاف قدرة القوى السياسية على التوافق بسبب أدوار وكاء القوى الإقليمية والدولية وتنفيذهم أجندة الأطراف الخارجية خال عمليات تشكيل الائتافات السياسية والتوازنات بين القوى الداخلية على غرار حالات لبنان والعراق، بالإضافة لتأجيج الصراعات الداخلية كما في الصراع الدائر في اليمن. وتعد إيران في صدارة القوى الإقليمية الأكثر تدخاً في الشؤون الداخلية لدول الجوار، إذ تستغل الانقسامات الطائفية والمذهبية في بعض الدول العربية لاختراقها من الداخل ومحاولة التأثير في تشكيل الائتافات الحاكمة والدفع بالعناصر التابعة لها ووكائها الداخليين لضمان هيمنتها على عملية صنع القرار بهذه الدول)19.)

ختاماً، يتوقع أن تشهد الأحزاب السياسية في منطقة الشرق الأوسط تغيرات هيكلية في بنيتها ووظائفها كي تتمكن من التكيف مع ضغوط الحراك السياسي والتحولات الداخلية الكثيفة التي تشهدها بعض دول الإقليم، وهو ما يتصل بصعود قيادات وكوادر سياسية خال الاستحقاقا­ت الانتخابية التي تشهدها بعض الدول وقد تدفع باتجاه تغيير الأحزاب السياسية المعارضة من الداخل على غرار الحالة التركية التي شهدت صعوداً لافتاً للمعارضة السياسية، وقد تسفر أيضاً التجاذبات السياسية في تونس عن تشكل تكتات سياسية جديدة تحقق التوازن في المشهد السياسي الداخلي.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates