Trending Events

تنافس محتدم:

أبعاد الصراع الأمريكي - الصيني على أمريكا اللاتينية

- ميجيل مورينو

كانت واشنطن تتمتع بنفوذ شبه مطلق في أمريكا اللاتينية، منذ إعلان واشنطن "مبدأ مونرو"، والذي نظر إلى الأمريكيتي­ن كمجال محجوز للنفوذ الأمريكي، غير أنه مع تصاعد النفوذ الصيني في العالم عبر "مبادرة الحزام والطريق"، بات نفوذ واشنطن مهدداً جراء سياسات بكين الرامية إلى التمدد في أمريكا اللاتينية عبر الاستثمارا­ت والتبادل التجاري والقروض. يسعى هذا التحليل إلى إلقاء الضوء على أبعاد النفوذ الأمريكي والصيني في أمريكا الاتينية، وكذلك الأهداف الاستراتيج­ية التي تسعى بكين لتحقيقها عبر التمدد في الجوار الحيوي للولايات المتحدة، وأخيراً، بيان التحديات التي قد تواجه دول المنطقة، إذا ما سعت واشنطن وبكين لإجبارهم على الاختيار بينهما.

اأولً: تراجع النفوذ الأمريكي

صارت الولايات المتحدة الأمريكية هي المهيمن الرئيسي على دول أمريكا الاتينية بعد إعانها "مبدأ مونرو"، والذي هو عبارة عن بيان أطلقه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو )1817 – 1825( أمام الكونجرس في عام 1823، والذي بموجبه أرسى قاعدة عدم مد الدول الأوروبية نفوذها الاستعماري نحو أمريكا في مقابل التزام واشنطن من جانبها بعدم التدخل في المشكات أو العاقات الأوروبية)1(، ومنذ ذلك الوقت، فإن كل قوة أجنبية سعت لإيجاد موطئ قدم في أمريكا الاتينية، وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع القوات الأمريكية.

وتمكنت واشنطن من ترسيخ نفوذها في أمريكا الاتينية بسبب عجز الأخيرة عن حماية نفسها لعدم امتاكها قدرات عسكرية مائمة، أو قطاع صناعي متطور. وبعد ثمانية عقود من إعان المبدأ، وتحديداً في عام 1904، اتبع الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت )1901 – 1909( سياسية جديدة لحماية المصالح الأمريكية داخل القارة، والتي عرفت باسم سياسة "العصا الغليظة"، والتي سمحت لواشنطن بالتدخل عسكرياً في دول القارة، تحت ذرائع شتى، أبرزها الدفاع عن نصف الكرة الغربي من التهديدات الخارجية أو الداخلية. ونتيجة لهذه السياسة، تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً في أمريكا الاتينية حوالي خمسين مرة في الفترة الممتدة من عام 1890 وحتى الحرب الباردة.

وتراجعت التدخات الأمريكية على مدى العقود القليلة الماضية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والذي كان يدعم عدداً من الأنظمة اليسارية في أمريكا الاتينية، غير أن إرث التدخل الأمريكي السلبي في بعض دول القارة، ترتب عليه تصاعد العداء تجاه واشنطن بين شعوب المنطقة، وهو الأمر الذي سهل كثيراً المحاولات الصينية للتمدد فيها.

وسعت بكين لتوطيد نفوذها من خال الاستثمار الأجنبي، حيث أقامت الحكومة الصينية مشروعات كبرى في جميع أنحاء أمريكا الاتينية. وفي بادئ الأمر، نظرت إدارتا جورج دبليو بوش الابن )2001 – 2009(، وباراك أوباما )2009 – 2017( للنفوذ الصيني في المنطقة باعتباره أمراً إيجابياً. فقد أجريت سبع مشاورات ثنائية بين الولايات المتحدة والصين

في الفترة من عام 2006، وحتى 2015 للتباحث حول قضايا أمريكا الاتينية.

وسرعان، ما بدأت واشنطن تتحسب لمخاطر التمدد الصيني في فنائها الخلفي على نفوذها هناك، خاصة في ضوء تنامي التعاون بين الصين وبعض دول أمريكا الاتينية، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الأمريكي السابق، ريكس تيلرسون، الذي أكد أن "الصين ضمنت اليوم لنفسها موطئ قدم في أمريكا الاتينية، وهي تستغل الأدوات الاقتصادية لجذب المنطقة لتدور في فلكها. والسؤال هنا هو: ما هو المقابل؟".

ثانياً: ت�صاعد النفوذ ال�صيني

بدأت بعض دول القارة تتطلع إلى التعاون مع الصين، وهو ما وضح في عدد كبير من المؤشرات، والتي يمكن تفصيلها على النحو التالي: 1- تصاعد استثمارات بكين: وقعت كل من بنما والصين حوالي 19 اتفاقية تعاون في التجارة والبنية التحتية والخدمات المصرفية والسياحة وغيرها، لتصبح بنما أول دولة في أمريكا الاتينية تشارك في "مبادرة الحزام والطريق".

وتعد المبادرة استراتيجية صينية تهدف إلى تعزيز التجارة عبر تقديم استثمارات بمئات المليارات من الدولار في البنية التحتية لحوالي 152 دولة ومنظمة دولية حول العالم. وبطبيعة الحالة، فإن أهداف بكين من هذه المبادرة تتجاوز الأهداف الاقتصادية، إذ تسعى لتحقيق هدف استراتيجي يتمثل في تعزيز النفوذ الصيني حول العالم.

وتأتي ضمن الاستثمارا­ت الصينية الاستراتيج­ية في المنطقة، ما أعلنه رجل الأعمال الصيني وانغ جينغ عن نيته تمويل مشروع قناة نيكاراجوا الكبرى باستثمار قيمته 50 مليار دولار، والتي تهدف إلى الربط بين المحيطين الأطلنطي والهادي، كما أنها ستكون نسخة أوسع وأعمق من قناة بنما، والتي تبعد عنها بمقدار بضع مئات من الأميال جنوباً.

وعلى الرغم من إعان قناة بنما منطقة دولية محايدة منذ عام 1999، فإن القوات البحرية البنمية والأمريكية تحرسها، ومن ثم ترغب بكين في إقامة قناة بديلة، لا تخضع للنفوذ الأمريكي) 2 .) 2- رفع التبادل التجاري: حلت الصين محل الولايات المتحدة باعتبارها أكبر شريك تجاري للأرجنتين والبرازيل وشيلي وبيرو. فقد كانت واشنطن، على مدار عقود هي أكبر دولة مصدرة للبضائع لدول أمريكا الاتينية، نظراً لقربها الجغرافي، غير أنه نتيجة للمعاهدات واتفاقيات تحرير التجارة الدولية، بدأت الصادرات الصينية لأسواق أمريكا الاتينية تزداد زيادة ملحوظة.

وذكر مركز أبحاث الكونجرس الأمريكي أن معدلات التجارة بين الصين وأمريكا الاتينية قد ارتفعت من 17 مليار دولار في عام 2002 إلى ما يقرب من 306 مليارات دولار في عام 2018، بل وأعلن رئيس جمهورية الصين الشعبية شي جين بينغ عن نيته رفع هذا الرقم إلى 500 مليار دولار في السنوات العشر التالية. 3- التوسع في الإقراض: تمكنت الحكومة الصينية، خال العقد الماضي، من تعزيز نفوذها من خال التوسع في إقراض دول أمريكا الاتينية، خاصة مع معاناة أغلب دولها من تخلف بنيتها التحتية. وقدم بنك التنمية الصيني، وبنك التصدير والاستيراد الصيني ‪China Export-Import Bank(‬ ) منذ عام 2005 ما يزيد على 141 مليار دولار كقروض لدول أمريكا الاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، فتلقت فنزويا قروضاً تقدر بنحو 67.2 مليار دولار، وتلقت البرازيل 28.9 مليار دولار من القروض، بينما تلقت الإكوادور 18.4 مليار دولار، والأرجنتين حوالي 16.9 مليار دولار. واستُثمرت أغلب هذه المبالغ في قطاعي التعدين والطاقة)3.) -4 المشاركة في المنتديات متعددة الأطراف: انضمت الصين في يناير 2015 إلى منتدى لوزراء خارجية "مجموعة دول أمريكا الاتينية ومنطقة البحر الكاريبي" ،)CELAC( والتي رفضت الولايات المتحدة وكندا المشاركة فيه. واتفقت الصين ودول المجموعة على التعاون في المجالات السياسية والأمنية والتجارية وتعزيز الاستثمارا­ت الصينية في دول المجموعة، بالإضافة إلى التعاون في مجال التمويل والبنية التحتية والطاقة والموارد والصناعة والزراعة والعلوم.

ثالثاً: اأهداف بكين تجاه المنطقة

تتمثل أهداف بكين من تعزيز نفوذها في أمريكا الاتينية في تحقيق عدد من الأهداف، أبرزها الحد من نفوذ واشنطن على دول المنطقة، بالإضافة إلى تعزيز نفوذ بكين السياسي في أمريكا الاتينية وتوظيف دعمها دبلوماسياً في المؤسسات الدولية، خاصة تجاه الخاف الصيني – التايواني، فضاً عن تأمين حصولها على المواد الخام والسلع الزراعية، وأخيراً، إقامة أسواق جديدة لتصريف المنتجات والسلع الصينية.

وتمكنت بكين من تحقيق جانب من هذه الأهداف بنجاح، والتي تتمثل في التالي: 1- اعتماد فنزويلا على اليوان: قررت فنزويا في عام 2017 بيع نفطها باليوان الصيني، بدلاً من الدولار الأمريكي) .) ونظراً لأن الولايات المتحدة هي أكبر مستورد للنفط من فنزويا، فإن هذا القرار تسبب في تصعيد التوتر بين البلدين. 2- التراجع عن الاعتراف بتايوان: قامت ثاث دول في أمريكا الاتينية في الفترة من 2017 إلى 2018 بتغيير موقفها

من الخاف الدبلوماسي الصيني – التايواني، فلقد تراجعت بنما وجمهورية الدومينيكا­ن والسلفادور عن اعترافها بتايوان، وهو ما يمثل خروجاً عن السياسة الأمريكية تجاه الأخيرة. 3- توطيد العلاقات مع بكين: سعت العديد من دول المنطقة إلى توطيد عاقاتها مع الصين، فقد صرح الرئيس الأرجنتيني موريسيو ماكري أن دولته ستمضي قدماً في تعزيز عاقاتها مع الصين، كما دعا الرئيس الكولومبي إيفان دوكي الوزير الصيني لي شياو بنغ إلى الباد كضيف فخري، بينما يفكر الرئيس المكسيكي أندريس لوبيز أوبرادور في الانضمام إلى "مبادرة الحزام والطريق".

رابعاً: مع�صلة الختيار

تعد من ضمن التطورات التي قد تنعكس سلباً على دول أمريكا الاتينية في الصراع الأمريكي – الصيني، وإمكانية اتجاه إحدى القوتين إلى الضغط على دول المنطقة، من أجل التحالف معها على حساب الأخرى، فالصدام بين الصين والولايات المتحدة، والذي يتجلى في الحرب التجارية الدائرة بينهما، لا يؤثر على كيفية إدارتهما لأعمالهما ومشروعاتهم­ا فحسب، بل وسينعكس على الدول التي يمتد إليها نفوذهما.

ويعد أحد أهم ما يثير قلق الولايات المتحدة في الوقت الحالي هو تطوير الصين تقنيات جديدة قد تمثل تهديداً للأمن القومي الأمريكي، فقد اتهم ترامب شركة الاتصالات الصينية العماقة هواوي باستخدام شبكاتها الداخلية للتجسس على الولايات المتحدة.

ووفقاً لما ذكره مسؤولون أمريكيون، قد يؤدي إدخال تقنيات جديدة مثل شبكة الجيل الخامس إلى زيادة خطر الهجمات والتجسس السيبراني)5(. ونتيجة لذلك، وجدت بعض الدول والشركات الكبرى متعددة الجنسيات نفسها مضطرة إلى الانحياز لأحد الجانبين، وهو ما بدأت بعض الدول بالفعل في تنفيذه، فقد اعتقلت كندا، على سبيل المثال، ابنة مؤسس شركة هواوي ومديرها التنفيذي مينغ وانزهو، بناء على طلب الولايات المتحدة في الأول من ديسمبر 2018.

وتعتبر أمريكا الاتينية سوقاً جاذبة للتكنولوجي­ا الحديثة، ولا يبدو أن دول المنطقة سوف تستجيب للضغوط الأمريكية، فقد وقعت المكسيك مؤخراً على استثمارات بقيمة 1.5 مليار دولار على مدار 5 سنوات مع شركة هواوي لإنشاء 4 مراكز تكنولوجية في ولاية كويريتارو)6(. وبالإضافة إلى ذلك، تموّل الشركة دورات تكنولوجية وتتعاون مع الجامعات المحلية لتعزيز المواهب المستقبلية في الباد.

ومن جهة ثانية، يحاول العماق الصيني هواوي اختراق سوق الهواتف الذكية البرازيلي، وهو رابع أكبر سوق في العالم)7(. ويزداد ارتباط الصين بأمريكا الاتينية، حتى أصبح كقطار لن تتمكن الولايات المتحدة من إيقافه بسهولة.

وتخطط كل من هواوي و"زد تيه إيه" و"ساتل" Subtel() لاتصالات في شيلي لربط أمريكا الاتينية وآسيا بكابل من الألياف الضوئية بطول 24 ألف كم)8(. ومن المتوقع أن يبدأ تنفيذ هذا المشروع في عام 2019. وتجدر الإشارة إلى أن شيلي كانت من ضمن حلفاء واشنطن المقربين في المنطقة، وسيترتب على اشتراكها في مثل هذا المشروع المهم إلى الإضرار سلباً بعاقاتها بالولايات المتحدة.

ومن المتوقع قيام شركات صينية بالمزيد من الاستثمارا­ت التكنولوجي­ة في المنطقة. وستغطي الأرباح الكبيرة المتوقعة، التي ستعود على المنطقة، على جميع التحذيرات الأمريكية تجاه الصين، وستعزلها عن المنطقة. وتشعر الحكومة الأمريكية بالقلق إزاء الصادرات الصينية الأخرى في المنطقة، مثل تكنولوجيا المراقبة التي تعزز من القدرات الأمنية لدول المنطقة) 9 .)

وفي الختام، يمكن القول إنه إذا كانت الهيمنة على أمريكا الاتينية حكراً في الماضي على الولايات المتحدة، فإن الصين تلعب دوراً مؤثراً وتنازع أمريكا في هيمنتها على دول القارة. ولم يعد الخيار العسكري قائماً لاستعادة نفوذ واشنطن في دول القارة، فاستخدام القوة الغاشمة لم يعد خياراً قاباً للتطبيق، كما لا يمكن للولايات المتحدة منافسة بكين في منح القروض، الأمر الذي سيتطلب من واشنطن البحث عن وسائل وأساليب أخرى للحفاظ على نفوذها في دول القارة، كما سيتعين على الولايات المتحدة تحديد التداعيات المترتبة على تصاعد النفوذ الصيني في المنطقة على مصالحها، غير أنه بات من المؤكد أن عقيدة مونرو لم يعد معترفاً بها في أمريكا الاتينية.

 ??  ??
 ?? باحث متخصص في الاقتصاد السياسي، ودراسات أمريكا اللاتتينية ??
باحث متخصص في الاقتصاد السياسي، ودراسات أمريكا اللاتتينية

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates