Trending Events

القاتل الصامت:

انتشار "مخلفات الحرب" على ساحات القتال داخل الإقليم

- نوار الصمد

توصف مخلفات الحرب القابلة لانفجار بأنها “استمرار للحرب في زمن السلم” على حد تعبير الباحثة الفرنسية “مارتين دو بيكير”، إذ إن مراحل ما بعد الصراعات عادة ما تواجه معضلة الألغام والذخائر المتفجرة والأسلحة والمدرعات المحطمة، مما يزيد من تحديات إنهاء العنف وتحييد التهديدات التي يواجهها المدنيون في بؤر الصراعات)1.)

اأولً: ملامح التهديدات ال�صاعدة

شهد عام 2015 تسجيل أول ارتداد عن الاتجاه العام لتراجع أعداد ضحايا المخلفات المتفجرة في العالم، إذ زاد عدد الضحايا بنسبة 75% عن العام السابق، ثم ارتفعت هذه النسبة بصورة غير مسبوقة لتصل إلى 150% في عام 2016 مقارنة بالعام السابق عليه، وهو ما ارتبط باحتدام الصراعات في سوريا والعراق واليمن وليبيا. وتتمثل أهم مؤشرات تصاعد تهديدات الألغام في الإقليم في الآتي: 1- ارتفاع أعداد الضحايا: سجل مرصد الألغام الأرضية ‪Land Mine Monitor(‬ ) في عام 2018 تصاعداً في أعداد ضحايا الألغام بالدول العربية، حيث وصلت أعدادهم إلى 1906 في سوريا و304 أفراد بالعراق و184 في ليبيا، و160 في اليمن)2(، وتعد هذه الإحصاءات غير معبرة عن واقع مناطق الصراعات نظراً لصعوبات رصد الحوادث الناجمة عن المخلفات المتفجرة وهو ما أكده الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش” في تقريره عن تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2365 حول الإجراءات المتعلقة بالألغام)3.) 2- توسع حقول الألغام: تزايدت مساحات حقول المخلفات المتفجرة في دول الصراعات، حيث زادت الدول العربية التي تتجاوز رقعة حقول الألغام والمواد المتفجرة بها الحد عالي الكثافة المقدر بحوالي 100 كم2، وباتت هذه الفئة تشمل كاً من اليمن وسوريا في عام 2018، بالإضافة إلى العراق والصحراء المغربية في تقارير عام 2014.

ولقد أكد تقرير هيومن رايتس ووتش في أبريل 2019 تعمد الحوثيين نشر الألغام في المناطق التي انسحبوا منها في اليمن)4(، فيما اعتبر تقرير صادر في مارس 2019 عن مؤسسة رصد للحقوق والحريات تحت عنوان “حقول الموت” أن اليمن أكبر دولة ملغومة

منذ الحرب العالمية الثانية، إذ قام الحوثيون بزراعة أكثر من مليون لغم بين عامي 2014 و2018 ويقدر عدد حقول الألغام التي زرعها الحوثيون في اليمن بحوالي 37 حقاً في 16 مديرية من أصل 5( 26.)

وفي سوريا، أطلق المنسق الإقليمي للشؤون الإنسانية في الأزمة السورية في الأمم المتحدة بانوس مومتزيس في فبراير 2019 تحذيراً إلى سكان الرقة من العودة إليها “لأن الألغام الأرضية التي تركها مقاتلو “داعش” تغطي كل شبر من الأرض”)6.) 3- انتشار المتفجرات بدائية الصنع: سجل تقرير مرصد الألغام الأرضية الصادر في 2018 وقوع أكثر من 1805 إصابات في العالم بسبب اعتماد الميليشيات المسلحة على المتفجرات بدائية الصنع، ومن بين الدول التي وقعت بها هذه الحوادث العراق وليبيا ومالي وسوريا واليمن، وهو أكبر معدل سنوي للإصابات منذ عام 7( 1999.) 4- تزايد استهداف المدنيين: لم تعد الألغام تستخدم في خضم الصراعات المسلحة فحسب وبات الهدف منها إحداث خسائر في صفوف المدنيين، ووفقاً لتقرير مؤسسة رصد للحقوق والحريات باليمن في مارس 2019 فإن الألغام الأرضية قتلت منذ مطلع 2018 ما مجموعه 140 مدنياً من بينهم 19 طفاً في محافظي تعز والحديدة فقط، بينما شهدت سوريا مقتل 157 طفاً في الرقة نتيجة للألغام)8.)

ثانياً: تف�صيرات انت�صار “المخلفات المتفجرة”

يرجع تصاعد تهديدات المواد المتفجرة إلى عدة عوامل يتمثل أهمها فيما يلي: 1- احتدام الصراعات الداخلية: تلجأ الميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية للألغام ضمن تكتيكات الحروب غير المتماثلة، وعادة ما يتم نشرها بصورة عشوائية ومن دون خرائط، بالإضافة لانخفاض تكلفة تصنيع المتفجرات بدائية الصنع وتمويهها على شكل صخور، وانتقال الحروب إلى المدن والمناطق الحضرية التي يقطنها المدنيون بكثافة، ووفقاً لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة في مايو 2019 فإن حوالي 8 مايين سوري معرضون للخطر بسبب انتشار مخلفات متفجرة في العديد من المناطق)9.) 2- تكتيكات تغطية الانسحاب: يرى الكاتب “بيار دوفور”، أن الألغام هي ساح الطرف الأضعف في المواجهة العسكرية فهي تقوم فقط بتأخير تقدم الجيوش، وهو ما يفسر لجوء تنظيم “داعش” لتلغيم المناطق التي انسحب منها في مدينتي الرقة والموصل، حيث قدرت الأمم المتحدة في فبراير 2019 أن عمليات تطهير الألغام تتطلب حوالي 8 سنوات)10(، وأكدت بعض التقارير أيضاً قيام الحوثيين بتكثيف عمليات زراعة الألغام قبيل الانسحاب من بعض المناطق في الحديدة)11.) 3- انتقال تقنيات التصنيع: انتشرت تقنيات تصنيع المتفجرات بدائية الصنع وأصبحت الجماعات الإرهابية والميليشيا­ت المسلحة تمتلك مرافق لتصنيعها وتطويرها، وتمكنت تنظيمات مثل “داعش” وبوكو حرام والحوثيين من نقل خبرات تطوير هذه المتفجرات، كما أسهمت عمليات التهريب من بعض الدول مثل إيران في زيادة عمليات إنتاج الألغام، وتشير بعض التقارير كذلك إلى امتاك الحوثيين تقنية تعديل الألغام المضادة للمدرعات وتحويلها لألغام مضادة للأفراد)12.) 4- محدودية إجراءات التطهير: لا تمتلك دول الصراعات قدرات كبيرة في مجال رفع المخلفات المتفجرة نظراً لانتشارها في مناطق جغرافية واسعة وصعوبة اكتشافها نتيجة عشوائية نشرها وعدم وجود خرائط لأماكنها، مما يزيد من حدة تهديداتها للمدنيين في مناطق الصراعات. 5- تجنب القيود الدولية: ترفض بعض الدول الانضمام لاتفاقية “حظر استعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدمير تلك الألغام” لمبررات متعددة من بينها اتساع خطوط الحدود واستخدام الألغام في تأمينها، ومواجهة التهديدات الأمنية من جانب دول الجوار مثل إسرائيل، وهو ما يؤدي لانتقال مخزونات الألغام للميليشيات المسلحة عبر عمليات التهريب أو سرقة مستودعات الجيوش مثل استياء الحوثيين على الألغام بمخازن الجيش اليمني)13.)

ثالثاً: النعكا�صات على ال�صراعات الداخلية

لا تقتصر تداعيات تفشي المخلفات المتفجرة على وقوع الإصابات بين المدنيين وانتشار عمليات بتر الأعضاء المصابة وارتفاع تكلفة الرعاية الصحية والاجتماعي­ة، وإنما تشمل أيضاً ما يلي:

-1 إطالة أمد الصراعات: تؤدي المخلفات المتفجرة لاستمرار الصراعات الداخلية لعقود طويلة نتيجة لانتشار “الحدود الوهمية” الناتجة عن تحول خطوط نشر الألغام بين الأطراف المتصارعة إلى حدود داخلية، مما يزيد من تعقيد الصراع بسبب تحصن الميليشيات بحقول الألغام لفترات ممتدة ومماطلتها في قبول اتفاقات تسوية الصراع)14.) 2- تعقيد المراحل الانتقالية: تواجه مراحل ما بعد الصراعات تحديات معقدة حول كيفية مواجهة انتشار المخلفات المتفجرة في مساحات واسعة من الأراضي، مما يعوق عودة الحياة إلى طبيعتها وبدء عمليات الزراعة وإعادة الإعمار، كما تتسبب العواصف والعوامل الطبيعية في نقل وتحريك المخلفات المتفجرة وجرفها إلى أماكن أخرى غير تلك التي زرعت فيها كما حدث في العام 2014 في البوسنة التي مازالت تعاني من وجود ما يقدر بنحو 120 ألف جسم متفجر بعد أكثر من 20 عاماً على توقيع اتفاق دايتون، بالإضافة للتكلفة الضخمة لعمليات التطهير ورفع المخلفات المتفجرة) 15 .) 3- عرقلة عودة اللاجئين: لن يتمكن الاجئون من العودة إلى دولهم رغم وجود ضغوط بالدول المستضيفة لإعادتهم في أسرع وقت بسبب انتشار المخلفات المتفجرة في مناطق واسعة وعدم قدرة المنظمات الدولية على توفير ضمانات العودة الآمنة لاجئين، مما يزيد من تعقيد أوضاع الاجئين بدول الجوار)16.) 4- إعاقة أنشطة حفظ السلام: تتسبب المخلفات المتفجرة بمناطق الصراعات في تزايد حدة التهديدات للعاملين في قوات حفظ السام والمنظمات الإغاثية. وعلى سبيل المثال، سجلت مالي أعلى معدلات الإصابة ضمن بعثات حفظ السام خال الفترات الماضية بسبب المتفجرات بدائية الصنع وفقاً لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة)17(، كما تسببت هذه المتفجرات في مقتل عشرات الجنود الفرنسيين ضمن “مهمة برخان” في الساحل الأفريقي في مايو 18( 2019.)

ويعوق انتشار الألغام القدرة على تسيير دوريات قوات حفظ السام وتوصيل المساعدات الإنسانية، إذ تكشف الإحصاءات باليمن أن نصف حوادث انفجار الألغام المسجلة في الحديدة خال عام 2018 وقعت على الطرقات الممهدة، مما يعوق عمليات نقل الإغاثة الإنسانية)19.)

رابعاً: تعدد اأ�صاليب المواجهة

تتمثل أهم الأساليب التي يتم استخدامها في مواجهة تهديدات المخلفات المتفجرة في دول الصراعات فيما يلي: 1- عمليات إزالة المخلفات: تشكل أنشطة إزالة المخلفات المتفجرة شرطاً ضرورياً لمواجهة تزايد تهديداتها ولتسهيل عملية عودة النازحين داخلياً والاجئين خارج الدولة بأمان، فعلى سبيل المثال، بقي أكثر من 95% من مساحة مدينة الرمادي غير مأهولة منذ تحريرها من تنظيم “داعش” بسبب انتشار المخلفات المتفجرة)20.)

وينبغي في هذا الصدد تحديد الأولويات في عملية نزع الألغام والتركيز على توعية وتدريب السكان المحليين حول مخاطر الألغام، حيث قامت منظمة اليونيسيف ببرامج تدريبية شملت 1.3 مليون سوري يقطنون في مناطق تهديدات الألغام، أما المناطق التي انتهت فيها العمليات القتالية فتكون الأولوية لعمليات المسح والتطهير. وعلى سبيل المثال، دربت الأمم المتحدة موظفين محليين في هيئاتها المختصة للعمل في عمليات تطهير الألغام، كما طورت قدرات الشرطة في الصومال على استخدام الروبوتات في إزالة الألغام والمتفجرات.

وفي السياق ذاته، يمكن الاستفادة من تجارب الدول التي أنجزت برامج ضخمة في عملية تطهير تلوث أراضيها كالكويت وموزمبيق ومحاولة تطبيق الآليات نفسها التي تؤدي لتخفيض تكلفة تطهير مساحات انتشار المخلفات المتفجرة، خاصة أن هذه البرامج تتطلب تموياً ضخماً من الجهات الدولية المانحة.

وعلى سبيل المثال، بلغ تمويل البرامج الدولية لتطهير حقول الألغام حوالي 637 مليون دولار في عام 2017 تحملتها جهات مانحة منها الولايات المتحدة، ألمانيا، والاتحاد الأوروبي، والنروج واليابان. وتم تخصيص 65% من هذا المبلغ )حوالي 435 مليون دولار( لأعمال إزالة الألغام في خمس دول هي: العراق، وسوريا، وكولومبيا، وأفغانستان، ولاوس، وهو ما يكشف مدى محدودية تمويل عمليات رفع المخلفات المتفجرة على المستوى العالمي)21.)

وكان لافتاً في هذا السياق، تأسيس “مشروع مسام” الممول من قبل الحكومة السعودية بقيمة حوالي 40 مليون دولار لإزالة الألغام في اليمن منذ يونيو 2018 والذي يضم حوالي 400 خبير، حيث تمكنت عمليات المشروع من إزالة أكثر من 77 ألف لغم وفقاً للبيانات التي تم إعانها في 25 يوليو 22( 2019.)

وأشار تقرير “السير على الأرض بأمان” الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية في أبريل 2019 عن عمل 11 فريقاً تمولها واشنطن لإزالة الألغام من سنجار في سوريا)23.) 2- تحجيم الجماعات المسلحة: لا تزال الجهود الدولية لتحجيم أنشطة الجماعات المسلحة وتجريم توظيفها للألغام محدودة، مما يزيد من تعقيدات الصراعات ويعرقل توصيل المساعدات الإنسانية وعودة الاجئين، وهو ما دفع بعض المنظمات الحقوقية إلى التواصل مع الميليشيات المسلحة لوقف استخدام الألغام، حيث كشفت منظمة هيومان رايتس ووتش عن عدة مراسات أجرتها مع ميليشيات الحوثيين في اليمن للمطالبة بوقف استخدام الألغام إلا أنها لم تتلق أي رد) 24 .)

ويتصل ذلك بتحذير الجماعات المسلحة من التعرض للمحاكمة أمام القضاء الدولي بسبب ارتكاب جرائم حرب وإدراج بند إزالة المخلفات المتفجرة ضمن اتفاقات السام، على غرار تضمين الاتفاق بين الحكومة الكولومبية والقوات

المسلحة الثورية الكولومبية التي تم التوصل إليه في عام 2016 بدعم من الأمم المتحدة بنوداً حول إزالة المخلفات المتفجرة ودمج المقاتلين السابقين)25.) 3- منع تداول المواد المتفجرة: يقصد بذلك تكثيف الجهود الدولية لمنع تداول المواد المتفجرة التي تستخدم في صنع المتفجرات البدائية عبر تفعيل المبادرات الدولية في هذا الصدد ومراقبة المعامات التجارية في المواد مزدوجة الاستخدام والتي يمكن توظيفها في صنع المتفجرات، وتسجيل عمليات الشراء للمواد الكيميائية.

ويقوم برنامج “الدرع العالمي” الذي تتولى إدارته منظمة الجمارك العالمية بالشراكة مع الإنتربول ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات على رصد علميات نقل عدد من المواد الكيميائية التي يمكن استخدامها في صناعة المتفجرات، كما يراقب البرنامج حركة نقل صمامات التفجير وأجهزة الأشعال والمتفجرات عبر الحدود، ولا يشارك حاليا في هذا البرنامج سوى 90 دولة، مما دفع الأمين العام للأمم المتحدة للمطالبة بمشاركة أعداد أكبر من الدول في البرنامج)26.) 4- تحصين مستودعات الأسلحة: يرتبط ذلك بمنع وصول الميليشيات والجماعات المسلحة للذخائر المخزنة في مستودعات القوات النظامية عبر الإدارة الفعالة للمخزونات من المواد المتفجرة من خال التخلص من الفوائض بدلاً من تكديسها، خاصةً الكميات التي لا تحتاجها الدولة والذخائر المتقادمة التي تتصاعد مخاطر تعرضها لانفجار.

وتعمل المنظمات الدولية التي تعني بمكافحة المخلفات المتفجرة والألغام على رصد عمليات تصدير الذخائر والرقابة على تأمين مخزونات المواد المتفجرة لدى الدول المستوردة، والتصدي لعمليات تداول الألغام، وتمكنت هذه الجهات من خفض عدد الألغام المخزنة في العالم من 160 مليون لغم في عام 1999 إلى أقل من 50 مليون لغم في عام 2018، بالإضافة للتطلعات بالوصول لعالم خالٍ من الألغام بحلول عام 27( 2025.)

ختاماً، على الرغم من الجهود الدولية لمواجهة مخلفات الحروب المتفجرة، فإن تهديداتها للمدنيين قد تزايدت بكثافة في الآونة الأخيرة خاصة في بؤر الصراعات بمنطقة الشرق الأوسط، مما يزيد من تعقيدات عمليات التسوية وإعادة الإعمار وعودة الاجئين.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates