Trending Events

ماذا حدث للتحالفات؟

- ناثان دبليو تورونتو

كشف عدد من الأمثلة عن وجود توجه لإعادة النظر في جدوى التحالفات، خاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانسحاب القوات الأمريكية من شمال سوريا، وهو ما يكشف أن التحالفات باتت تشكل عبئاً أكر من كونها مورداً لتعزيز أمن الدولة.

ويتطلب الإلمام بهذا التحوّل في النظر إلى التحالفات معرفة ماهيتها. فالتحالف هو اتفاق دفاعي يربط بين دولتين أو أكثر، والذي بموجبه يتعهد كل طرف بتقديم الدعم والإسناد العسكري للأطراف الأخرى، إذ ما تعرض أحد الأطراف لتهديد بصورة من الصور. وهناك أشكال أخرى من الاتفاقيات الدفاعية، والتي تتراوح بين وقف إطلاق النار ومذكرات التفاهم إلى اتفاقيات عدم الاعتداء المتبادل، واتفاقيات الحد من التسلح، والاتفاقات المتعلقة بمبيعات الأسلحة، وإن كان يلاحظ على الأشكال الأخرى أنها ليست ملزمة بدرجة إلزام التحالفات الدفاعية نفسها.

ومن جهة ثانية، فإن التحالفات الدفاعية تقترن بتكلفة تقع على عاتق بعض أطرافها، سواء أكانت هذه التكلفة تتمثل في تقديم إحدى الدول معاملات تجارية تفضيلية، نظير الحصول على ضمانات أمنية من دولة أقوى منها، أم تكاليف معنوية، مثل خسارة الدعم الشعبي نتاج التقاعس عن دعم دولة من الحلفاء، الأمر الذي يفرض على قادة الدولة احترام هذه التعهدات الدفاعية، وعدم التفريط فيها.

وكانت الحكمة السائدة أن التحالفات تجعل عملية الدفاع عن الدولة أمراً أكثر سهولة، إذ تستطيع دولتان في تحالف تعبئة مواردهما، وتقديم دعم متبادل لبعضهما البعض في حالة حدوث أزمة. وفي بعض الحالات، يصبح التحالف جزءاً لا يتجزأ من هوية المجتمع وسياسته، مثل دعم الولايات المتحدة لدولة إسرائيل. وباختصار، فإن هناك أسباباً وجيهة للتحالفات.

الطبيعة الزائلة للتحالفات

تتمثل المشكلة الأساسية التي تواجه التحالفات، في كونها دائماً سريعة الزوال بصورة أو بأخرى، وليس أدل على ذلك من الموجة الأخيرة من تفكك التحالف. ولعل ما يفسر ذلك كلمة لورد بالميرستون، رئيس وزراء بريطانيا 1859) – 1865(، التي ألقاها في مجلس العموم عام 1848، حينما قال "المملكة المتحدة .. بريطانيا .. ليس لها حلفاء أبديّون ولا أعداء دائمين. لها فقط مصالح أبدية ودائمة، وتلك المصالح من واجبنا أن نتبعها".

وتدرك جميع الدول هذه المقولة تماماً، وأن العلاقات يجب أن ترتكز على المصالح لا الصداقة، ولكن على الرغم من ذلك فإن عدم اليقين المفاجئ وتفكك التحالفات التاريخية في الأشهر الأخيرة يثير القلق، وهو ما يتطلب أن يكون هناك تفسير لسرعة تفكك هذه التحالفات في الآونة الأخيرة.

وخلال الحرب الباردة، أدى تنافس القوى العظمى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إلى تحالفات متماسكة، وثابتة نسبياً. غير أنه مع انهيار الأخير، وسيادة "لحظة أحادية القطب" للولايات المتحدة في التسعينيات من القرن العشرين، بدا أن التحالفات الرئيسية للنظام الليبرالي بقيادة واشنطن

تتسم بالثبات والقدرة على الاستمرار، إذ إن حلف شمال الأطلسي لم يتلاش، بل وضم إلى عضويته دولاً جديدة، كما أن سلسلة المعاهدات الدفاعية الثنائية حافظت على الاستقرار في القارة الآسيوية. ثم بدأت الأحادية القطبية في الانهيار، الأمر الذي مهد الطريق لانهيار التحالفات كذلك. ولعبت ثلاثة عوامل دوراً في اهتزاز التحالفات الدولية، وهو ما يمكن تفصيله في الأقسام التالية.

تحدي الإرهاب غير التقليدي

من العوامل التي ساهمت في اهتزاز التحالفات أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وإعلان واشنطن الحرب على الإرهاب. وعلى الرغم من أن الإرهاب كان يمثل تحدياً قبل هذا التاريخ، فإن هذا الحدث أيقظ أمريكا والعالم على نوع جديد من التهديد لم يكن العالم مستعداً له.

فقد كانت التحالفات الأمنية مصممة تقليدياً لردع أي هجوم تقليدي، أو نووي من قبل قوة عظمى مناوئة، غير أن هذه التدابير أثبتت عجزها عن مواجهة الإرهاب. وقد أوضحت واشنطن هذه المعضلة بصورة واضحة بعد قيامها بغزو العراق في عام 2003، تحت ذريعة واهية، تتمثل في دعم صدام حسين للإرهاب. وأدرك حلفاء واشنطن هذه الحقيقة تماماً، وهو ما ساهم في تآكل شرعية الولايات المتحدة في نظرهم، كما أنها باحتلالها العراق ساهمت في تقوية التنظيمات الإرهابية، حتى وإن تمكنت من القضاء عليهم لفترة من الزمن، وهو الأمر الذي شكك في النهاية من جدوى التحالف لمواجهة هذا التهديد غير التقليدي.

تلا�شي الأحادية القطبية

بعد فترة قصيرة من غزو العراق، ظهر اتجاه ثانٍ، ساهم في تراجع التحالفات، فقد تراجعت الزعامة الأمريكية، وانحسر نظام القطبية الأحادية. فقد بدأت كل من الصين وروسيا، تحديداً، في لعب دور مؤثر ومتزايد في الشؤون الدولية.

وتحركت موسكو لترسيخ نفوذها في جوارها المباشر، بدءاً من عام 2008، حينما أوقفت إمكانية توسع حلف شمال الأطلسي لكي يضم إلى عضويته جورجيا، ثم عن طريق ضمها لشبه جزيرة القرم في 2014، وتدخلها لدعم الانفصاليي­ن في أوكرانيا الشرقية، فضلاً عن دعمها في 2015 للنظام السوري عسكرياً في مواجهة المعارضة المسلحة.

واستغلت الصين نهوضها الاقتصادي غير المسبوق للتمدد عسكرياً في جميع أنحاء بحر الصين الجنوبي، ثم أطلقت مبادرة الحزام والطريق لإقامة روابط اقتصادية وتعزيز نفوذها في أنحاء القارة الآسيوية وخارجها.

ومن ثم تلاشت اللحظة القطبية الأمريكية في جميع أنحاء العالم، مما قوّض من قيمة التحالفات، خاصة مع تعدد القوى الدولية التي يمكن التحالف معها، ووجود حوافز أقل للالتزام بمتطلبات أي التحالف بصورة كاملة.

توظيف ع�شر للمعلومات

إلى جانب الحرب على الإرهاب والتعددية القطبية، برز اتجاه ثالث ساهم أيضاً في إحداث تغيير جذري في سياسات التحالف، وهو عصر المعلومات، إذ إنه قبل بدء عصر المعلومات، كانت الدول تتمتع بميزة هائلة، وهي السيطرة على المعلومات. أما مع عصر المعلومات فقد تراجعت التكاليف المترتبة على التنصل من التحالفات عما كان عليه الوضع قبل عصر المعلومات، إذ بات بإمكانية القادة التواصل المباشر مع قاعدتهم الانتخابية عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتبرير قراراتهم السياسية، بما في ذلك الانسحاب من التحالفات، خاصة مع إدراك قطاعات شعبية للتكلفة المترتبة على البقاء في هذه التحالفات.

ولذلك بدأت بعض الدول في توظيف العضوية في التحالف باعتباره ورقة تفاوضية يمكن المساومة بها على نحو ما وضح، على سبيل المثال، في تهديد إدارة ترامب بالتخلي عن حلف شمال الأطلسي، حيث أصبح هذا التهديد، في الواقع، يمتلك مصداقية بسبب دعم مناصريه عبر مواقع التواصل الاجتماعي لهذا الخيار. وحتى لو كانت التهديدات التي يطلقها ترامب جوفاء، فإنه نظراً لوجود دعم شعبي لها على

مواقع التواصل، مثلت عامل ضغط على حلفاء أمريكا الأوروبيين، بصورة قد تدفعهم للمساهمة بشكل أكبر في نفقات التحالف، وهذا الأمر لم يكن قائماً قبل ظهور تقنيات عصر المعلومات.

محددات بناء التحالفات

باتت التحالفات تعاني الآن تحديات واضحة، الأمر الذي دفع العديد من الدول إلى إعادة تقييم جدواها، وإذا ما كانت تعد عبئاً، أم عاملاً داعماً لقوة الدولة. وفي ضوء هذا التطور، ينبغي أن تتجه الدول لبناء تحالفاتها، كما كان الأمر دائماً، على حسابات المصلحة، وليس علاقات الصداقة المتصورة، إذ تتطلب حالة عدم اليقين التي تشوب التحالفات عالمياً تقييم دقيق لقيمة أي شراكة، لكن يجب أن تتبع الدول الصغيرة، في هذا الإطار، نهجاً يغاير حسابات الدول الكبرى.

ويتعين على القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة توظيف التحالفات لجذب الدول التي تشاطرها التوجهات نفسها، وأن تبتعد عن تنفير الحلفاء من دون سبب وجيه للقيام بذلك. وبالمقابل، يجب على الدول الصغيرة فهم التكاليف والفوائد طويلة الأجل للانضمام إلى أي تحالف. فقد يكون الدخول في تحالف، أو التخلي عنه منطقياً على المدى القصير، ولكن على المدى الطويل، فإن هذه الحسابات تبدو خاطئة، ولذلك يجب ألا تربط هذه القرارات بالخلافات السياسية البسيطة، والتي ستتراجع قيمتها مع مرور الوقت. ومن جهة ثانية، يجب على الدول الصغيرة أن توظف التحالف لإقناع الشريك الأقوى بأنهم يشتركون معاً في مصالح محددة.

وفي نهاية المطاف، من المحتمل أن تعود قيمة التحالفات مرة أخرى، مع تكيف الدول مع الحقائق الجديدة لعالم متعدد الأقطاب، فضلاً عن إيجاد الدول لآليات جديدة لمواجهة خطر الإرهاب، واستيعاب التحديات التي تفرضها تقنيات عصر المعلومات. وحتى يحدث ذلك، يجب على جميع الدول من دون استثناء تذكر نصيحة لورد بالميرستون بضرورة ارتكاز التحالفات على المصلحة، والمصلحة وحدها.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates