Trending Events

كيف يفكر بوتين في الشرق الأوسط؟

- ليونيد إسايف

لا تمتلك موسكو استراتيجية واضحة المعالم للشرق الأوسط، حتى بعد أن تدخلت في سوريا عسكرياً، إذ تتسم سياسة بوتين الشرق أوسطية بالظرفية، وسعيها للاستفادة من الفرص السانحة لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة.

تاريخياً، اتسمت عاقات روسيا بالدول المحورية في الشرق الأوسط بالتعقيد والغموض، فلقد تذبذبت عاقة روسيا بالقوى الإقليمية في الشرق الأوسط بين المتانة والضعف، ما بين صراعات حادة وعاقات قوية متينة، وهو ما يمكن إرجاعه بدرجة كبيرة إلى تغير سياسة روسيا بعد الحرب الباردة مقارنة بما قبلها، خاصة تجاه الشرق الأوسط.

علاقات مازومة مع تركيا واإيران

نظرت موسكو لتركيا باعتبارها عدواً تاريخياً خال الحقبة السوفييتية، وهو ما يُعزى إلى عضويتها في حلف شمال الأطلسي ومجابهتها لدول الكتلة الاشتراكية. ومع ذلك، تحسنت العاقات بين روسيا وتركيا تحسناً هائاً في جميع المجالات في العقد الأول، وأوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وذلك على الرغم من أن الاختافات لم تختف بين الدولتين، فلقد زاد التفاهم المتبادل، حتى بشأن بعض القضايا السياسية والعسكرية الحساسة، كما أصبحت تركيا الشريك التجاري والاقتصادي الرئيسي لروسيا في المنطقة.

ولكن هذا لم يحل دون فتور العاقات بين الدولتين بعد تورط أنقرة في إسقاط قاذفة روسية في خريف عام 2015. ولكن من ناحية أخرى، يشير تجاوز هذا الوضع سريعاً إلى تمسك كل من موسكو وأنقرة بالبرجماتي­ة، وتنحية أي اعتبارات أيديولوجية جانباً، على الرغم من الخافات العديدة بينهما.

ولا تختلف العاقات الروسية – الإيرانية كثيراً عن عاقة موسكو بأنقرة، فهي تتسم بالتناقض، وهو ما يتضح من تحليل رؤية كل من الطرفين لسياسات الطرف الآخر، فعلى مدار ما يزيد على ثاثين عاماً من العاقات بين البلدين، كانت هناك ملفات تحظى بتقارب بين الجانبين، مثل إدانة الغزو الأمريكي للعراق، ودعم النظام السوري في مواجهة المعارضة المسلحة. ومع ذلك، كانت هناك خافات واضحة بين الجانبين.

ففي عام 1995، وقّع نائب الرئيس الأمريكي آل جور اتفاقاً سرياً مع رئيس الوزراء الروسي آنذاك، فيكتور تشيرنوميرد­ين، والذي هدف إلى وقف بيع روسيا أسلحتها التقليدية إلى إيران، كما اتفقت إداراتا دميتري ميدفيديف وباراك أوباما في عام 2009 على "إعادة ضبط" العاقات الروسية – الأمريكية، وتهدئة التوتر بينهما، وهو ما تطلب من روسيا تقليص تعاونها مع إيران.

وبعد التوقيع على "خطة العمل الشاملة المشتركة"، أو ما يعرف باسم "اتفاق البرنامج النووي" في عام 2015، اعتبرت موسكو تفضيل الحكومة الإيرانية إبرام عقود واتفاقات تجارية مع الدول الأوروبية، بدلاً من روسيا، خيانة. وعلى الرغم من تجاهل كل طرف لمصلحة الطرف الآخر، فإنهما استمرتا في "زواج المصلحة"، بسبب حاجتهما إلى التعاون في عدد من القضايا التي تهم كا الجانبين: من بحر قزوين والقوقاز إلى آسيا الوسطى وأفغانستان.

�صيا�صات متقلبة تجاه ال�صعودية

تُعد العاقات بين روسيا والمملكة العربية السعودية أوضح مثال على تحوّل العاقة من الصداقة إلى العداء، ثم الصداقة من جديد، فلقد كان الاتحاد السوفييتي أول دولة تعترف

باستقال الدولة السعودية التي أنشأها الملك عبدالعزيز في عام 1926. ومع ذلك، لم يمنع هذا القيادة السعودية من قطع العاقات الدبلوماسي­ة مع الاتحاد السوفييتي بعد 12 عاماً بعد استدعاء ستالين للسفير السوفييتي كريم حكيموف إلى موسكو وإعدامه رمياً بالرصاص بتهمة التجسس، حيث اتخذ الملك عبدالعزيز قراراً بقطع العاقات احتجاجاً على إعدام صديقه حكيموف.

ولم تُستأنف العاقات بين روسيا والسعودية إلا في عام 1991. وأكد البيان الروسي – السعودي المشترك سعي البلدين إلى "تسوية النزاعات الإقليمية، وتعزيز السام والأمن الدوليين". وعلى الرغم من ذلك، استمرت الخافات بين روسيا والمملكة العربية السعودية طوال عقد التسعينيات، خاصة بسبب التدخل العسكري الروسي في شمال القوقاز. ولم يزد التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015 العاقات بين الرياض وموسكو سوى تعقيداً.

ومع ذلك، كان لتعزيز محمد بن سلمان سلطته تدريجياً، وتبنيه رؤية برجماتية للسياسة الخارجية عاماً في الارتقاء بالعاقات الثنائية، ونقلها إلى مستوى جديد، فالسنوات الأخيرة في العاقات الروسية – السعودية أظهرت دور المصالح البرجماتية في التغلب على الاختافات الإيديولوج­ية.

محددات �صيا�صة الكرملين

توضح الأمثلة السابقة ثاثة محددات أساسية لسياسة بوتين الشرق أوسطية، وهي كالتالي: 1- إقامة علاقات مع الجميع: تسعى روسيا لإقامة عاقات مع جميع الجهات الإقليمية الفاعلة، غير أنها في المقابل تبدي استعداداً للتضحية ببعضها، لبعض الوقت، إذا ما كان ذلك ضرورياً لتحقيق مصالحها، ولذلك فإن احتفاظ روسيا بعاقات متقلبة مع دول الشرق الأوسط تعد من السمات الرئيسية لسياسة فاديمير بوتين في الشرق الأوسط. 2- غلبة الاعتبارات البرجماتية المصلحية: تُعد المصلحة البرجماتية العامل الحاسم في قرار تعاون روسيا مع أي دولة في المنطقة، وتخلو سياستها من أي ألوان الولاء، بصورة تجعل من الصعب اعتبار روسيا شريكاً، أو طرفاً رئيسياً في أي من التحالفات الرئيسية في الشرق الأوسط.

وفي ضوء ما سبق، تركز روسيا على العاقات الثنائية في سياستها الخارجية، وتولي اهتماماً كبيراً للأبعاد الاقتصادية، وتعرض روسيا على دول المنطقة التعاون في مجالات مثل إنشاء محطات للطاقة النووية، وإبرام اتفاقات تعاون في مجال الطاقة والمجال التقني العسكري، وإطاق الأقمار الصناعية.

ونتيجة لأولوية البعد الاقتصادي، غلب على سياسة موسكو الحياد إزاء أكثر الملفات المهمة في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، عدا الصراعين السوري والليبي، واللذين شهدا تدخاً عسكرياً من جانب روسيا، إذ ياحظ أن موسكو تبنت الحياد تجاه المحاولات الانفصالية لإقليم كردستان العراق والصراع اليمني والأزمة القطرية، بل إن القصف الإسرائيلي الجوي المستمر على سوريا لم يستفز أي رد فعل من جانب الكرملين. 3- انتهاز الفرص السانحة: يرى فاديمير بوتين أن الوجود الروسي في الشرق الأوسط هو إجراء ضروري لتعويض تضرر عاقاته بأوروبا بفعل العقوبات الأمريكية. ولولا ضم شبه جزيرة القرم، والصراع في دونباس في شرق أوكرانيا، وأخيراً العقوبات المفروضة على روسيا، لما تدخلت روسيا عسكرياً في سوريا، أو تورطت الشركات العسكرية الخاصة الروسية في جميع صراعات المنطقة، أو دعمت موسكو موقف إيران وحزب اله ونظام الأسد في مواجهة دول العالم. فكل هذه السياسات ما هي إلا محاولة من فاديمير بوتين لاستغال الفرص المتاحة لتعزيز وضعه التفاوضي مع الغرب.

فهم مبادئ بوتين ال�صرق اأو�صطية

هناك أربعة أسباب أساسية تدفع القيادة الروسية لتبني المبادئ السابقة في سياستها الخارجية، ويمكن تفصيلها فيما يلي: 1- قيد الموارد: يعي الكرملين تماماً القيود المفروضة على موارده، ويسعى لاستغال الفرص المتاحة له لكي يلعب دوراً قيادياً في المنطقة على المدى الطويل. ويمكن في الواقع اعتبار أن تدخل روسيا في الصراع السوري هو أحد أشكال انتهاز موسكو للفرص المتاحة، كما يفسر ذلك أيضاً أسباب تراجع قدرة القيادة الروسية على الانخراط في باقي مشكات المنطقة بسبب قيد الموارد. ولكن حتى في سوريا، بات الوجود الروسي

هناك مرهقاً بالفعل لموسكو، مما أجبرها على البحث عن سبل لتقليل تكلفة التدخل عبر الضغط على النظام لإدخال إصاحات دستورية لرفع العزلة الدولية عنه. 2- غياب التهديد الوجودي: لا يوجد صراع في الشرق الأوسط يمثل لروسيا أهمية حيوية، وهو ما ساعد على مرونة سياستها الخارجية، ولذلك نجد أن موسكو على أتم الاستعداد لبيع "أصولها السائلة"، كما يتضح من خال ما حدث في عاقتها مع دول الخليج العربية، على سبيل المثال، عندما أدت تنازلات موسكو في عدد من القضايا الإقليمية إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثمار­ي معها، والذي يشغل أهمية كبيرة للكرملين.

ومن جانب آخر، يسمح غياب التهديد الوجودي لروسيا أن تقوم بالمغامرة في بعض القضايا، كما كانت الحال في الآونة الأخيرة في العاقات مع تركيا في إدلب، أو المملكة العربية السعودية فيما يتعلق بمستويات إنتاج النفط. ومع ذلك، وليس من المستغرب حتى في هذه الحالة أن يتراجع بوتين، إذ يحاول أن يضع لنفسه خطوطاً حمراء لكي لا يصبح في وضع تطيح فيه مقامرته تلك، بما اكتسبه سابقاً من فوائد. 3- أولوية أوروبا: يتسم الوجود الروسي في منطقة الشرق الأوسط بأنه ذو طبيعة مؤقتة، فلقد ركزت موسكو على تعزيز عاقاتها مع دول المنطقة، لتعويض فتور عاقاتها بالغرب. وبالتبعية، فإنه يتوقع أن يتراجع الاهتمام الروسي بالشرق الأوسط إذا ما نجحت في استعادة عاقاتها مع الاتحاد الأوروبي من جديد.

4- الارتياب من الجميع: تمتلك القيادة الروسية نظرة شك في جميع الجهات الإقليمية الفاعلة. فخال زيارة فاديمير بوتين لإسرائيل عام 2005، قال بوتين لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون: "أنا حديث العهد بالشرق الأوسط، ما هي أول نصيحة يمكنك أن تسديها لي؟" فكان الجواب: "لا تصدق أي شخص".

وتفسر العوامل السابقة أسباب الغموض الذي يكتنف أحياناً فهم السياسات الروسية في الشرق الأوسط، فقد باتت الأولوية الاقتصادية هي المحرك الرئيسي لسياسة بوتين الشرق أوسطية، ولا يستثنى من هذه القاعدة، سوى الصراعين السوري والليبي.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates