Trending Events

هل يمكن تصور "عالم بلا صين"؟

د. عبد الفتاح العموص

- د. عبد الفتاح العموص

”هناك في أقصى الشرق عملاق نائم .. اتركوه لأنه عندما يستيقظ سيهز العالم“.. هكذا وصف القائد الفرنسي نابليون بونابرات الصين في القرن الثامنعشر.

في ظل أزمة كورونا، التي اعتبرها العديد من الخبراء الاقتصاديي­ن أسوأ من أزمة الكساد العظيم، فضاً عن تجدد الصراع بين الولايات المتحدة والصين بسبب كورونا، يثار التساؤل حول "هل يمكن تصور عالم با صين؟"، أم أن العماق الاقتصادي الصيني سيواصل دوره المركزي في الاقتصاد العالمي.

وتتطلب الإجابة على التساؤل السابق معالجة قضيتين، أولاهما تأثير الأزمة على نمو الاقتصاد الصيني، وكذلك مدى وجود أسواق بديلة يمكن أن تحل محل الصين في الاقتصاد العالمي، خاصة في ضوء إعان واشنطن نيتها نقل مصانعها خارج بكين.

مكانة ال�صين القت�صادية

تتبوأ الصين مكانة عالمية كثاني قطب اقتصادي عالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية بمقياس الناتج المحلي الاسمي،

وكأكبر اقتصاد عالمي بمؤشر القدرة الشرائية، حيث سجلت في الفترات الزمنية الأخيرة نسباً تنموية اقتصادية عالية جداً. وتمكنت، خال فترة زمنية قصيرة من زيادة الدخل القومي الإجمالي لكل فرد من 5,940 دولاراً في عام 2012 إلى أكثر من 9,7 ألف دولار في عام 2018، حسب الأرقام الرسمية، بما يجعلها تقترب من فئة الدول مرتفعة الدخل، والمقدر بعشرة آلاف دولار.

ويتسم الاقتصاد الصيني باستحواذه على موارد طبيعية هائلة وصناعة تحويلة متطورة جعلت منه أكبر مصدر صناعي في العالم، إذ لقب "بمصنع العالم"، وتقوم المنتجات الصينية بإغراق الأسواق العالمية بالسلع والخدمات.

وانضمت الصين إلى عدد من التنظيمات الاقتصادية في آسيا وأفريقيا وأمريكا الاتينية لتعزيز نفاذ منتجاتها إلى الدول الأعضاء، كما استفادت من إبرامها كثيراً من اتفاقيات التعاون الثنائية، والمتعددة الأطراف.

تداعيات عالمية عميقة

انتشر فيروس كورونا داخل الصين

وخارجها، في الوقت الذي لم تنجح فيه الجهود المبذولة، حتى الآن، في إيجاد أي دواء أو لقاحات لتفادي خطورته، الأمر الذي دفع العديد من الدول إلى تطبيق سياسات الإغاق، بما رتبه ذلك من تداعيات سلبية على اقتصادات دول العالم قاطبة، بما في ذلك الاقتصاد الصيني، وتتمثل أبرز هذه التداعيات في التالي: 1- دخول مرحلة الركود الاقتصادي: أدى فيروس كورونا إلى غلق الحدود بين البلدان، وتعطيل حركة الإنتاج بها، الأمر الذي انعكس على آفاق النمو الاقتصادي فيها، ويتوقع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تقلص النمو الاقتصادي لجميع البلدان بحوالي 5% حسب أوضاعها الداخلية ومدى تمادي انتشار الوباء داخلها، ومن ثم قدرتها على إعادة استئناف النشاط الاقتصادي.

وتشير توقعات البنك الدولي إلى أن النمو الاقتصادي العالمي قد يتباطأ إلى 2.1% في العام 2020، مقارنة بالنمو المقدر ب 5.8% في عام 2019، وتدور التوقعات حول تحقيق الاقتصاد الصيني معدل نمو يبلغ 2.5% هذا العام، بسبب فيروس كورونا، وهو أدنى معدل نمو منذ 44 عاماً.

2- تراجع أداء أسواق المال: تأثرت الأسواق المالية الدولية بقوة، فقد تراجع أداء الأسهم الآسيوية والأوروبية، حيث انحدرت مؤشرات كل من داو جونز، وإس آند بي 500، وناسداك الأمريكية بنسبة أكثر من 10%، مسجلة أدنى مستوياتها منذ العام 1987، كما سجلت بورصة هونج كونج تراجعاً ب 13.5.% 3- ارتفاع معدلات البطالة: وصل معدل البطالة في العالم إلى أكثر من 10% لأول مرة منذ الكساد الكبير، بينما وصل معدل البطالة في الصين إلى 6% ليقترب من المعدلات المرتفعة تاريخياً، بينما تقدر مؤسسة كابيتال إيكونوميكس، المعنية بالبحوث المستقبلية، أن "المستوى الحقيقي للبطالة هو على الأرجح ضعف هذا الرقم، بالنظر إلى أن حوالي خمس العمال المهاجرين لم يعودوا إلى المدن.

البحث عن بدائل لل�صين

أدى تفشي فيروس كورونا في الولايات المتحدة إلى تصاعد التوتر بينها وبين الصين، بسبب اقتناع واشنطن بعدم شفافية الصين، وإخفائها معلومات مهمة عن كورونا، على نحو تسبب في انتشاره داخل الولايات المتحدة، وتأثيره سلباً على نموها الاقتصادي.

وسبق وأن دعا الرئيس دونالد ترامب لإعادة التصنيع من أنحاء العالم إلى الولايات المتحدة، غير أن انتشار فيروس كورونا في الآونة الأخيرة، وما يرتبط بذلك من مخاوف حيال اعتماد ساسل الإمداد الطبية والغذائية الأمريكية على الصين دفعته للمضي قدماً لتطبيق الفكرة عبر تقديم حوافز للشركات الأمريكية لسحب استثماراته­ا من الصين.

ويعكف الكونجرس ومسؤولو الإدارة الأمريكية حالياً على صياغة مقترحات لدفع الشركات الأمريكية لنقل العمليات أو الموردين الرئيسيين من الصين، والتي من بينها تخفيضات ضريبية وقواعد جديدة وأوجه دعم منظمة بعناية، وصولاً إلى التفكير في إنشاء "صندوق لإعادة توطين العمليات" بميزانية تبلغ 25 مليار دولار، لتشجيع الشركات الأمريكية على إعادة تشكيل عاقاتها مع الصين بشكل جذري.

ومن جانب آخر، بدأت بعض الشركات تفكر في نقل جانب من مصانعها إلى خارج الصين، وعلى سبيل المثال، تدرس شركة "آبل" الأمريكية أن تجعل الهند قاعدة تصنيع جديدة لها، وأن تنقل إليها حوالي 20% من إنتاج هواتفها هناك، مستفيدة من الأيدي العاملة الرخيصة والماهرة الموجودة في الهند، وإذا ما اتجهت العديد من الشركات الغربية لمحاكاة شركة آبل، فإن الاقتصاد الصيني سوف يتكبد خسائر فادحة حينها.

هل �صت�صتمر ال�صين كقطب اقت�صادي؟

يتوقع على الرغم من التداعيات السلبية السابقة أن تتمكن بكين من احتواء التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا، وهو ما يمكن إرجاعه إلى العوامل التالية:

-1 استيعاب الأزمات الاقتصادية والصحية السابقة: استطاعت الصين احتواء الأزمة الاقتصادية العالمية، التي اندلعت في عام 2008، وحافظت على معدلات نموها الاقتصادي السنوي، وذلك في الوقت الذي لم تتمكن فيه بعض الاقتصادات الكبرى من التعافي من التداعيات السلبية لهذه الأزمة حتى الآن.

وزد على ما سبق، نجاح الصين خال عامي 2002 و2003 في التغلب على وباء "متازمة الالتهاب التنفسي الحاد"، أو ما عرف اختصاراً باسم "سارس"، والذي تسبب كذلك في تراجع العديد من الأنشطة الاقتصادية، وأدى إلى انخفاض معدل الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 1.5%، لكن سرعان ما استرجعت الصين نموها الاقتصادي، وسجلت نمواً بلغ حوالي 8% في أشهر قليلة. وعلى الرغم من أن التداعيات الاقتصادية لسارس كانت محدودة مقارنة بكوفيد 19، فإن الصين تمتعت

بخبرة كافية في مواجهة سارس، ويمكن أن تستخدمها في مواجهة الوباء الأخير، كما يتوقع أن تكون من أولى الدول التي تخرج من الأزمة الاقتصادية الحالية.

2- سيادة ثقافة الالتزام والانضباط: يمكن إرجاع نجاح الصين في التعامل مع الأزمات المتتالية إلى البعد الثقافي، والسلوكيات الشعبية الإيجابية المبنية على التحلي بالانضباط في العمل، وسرعة التنفيذ والاتقان وحب المسؤولية والمثابرة، وهي سمات لا تتمتع بها كثير من المجتمعات الأخرى. 3- ارتباط اقتصادها بالعديد من الدول النامية: وجهت الصين جانباً كبيراً من استثماراته­ا الخارجية إلى العديد من الدول النامية، خاصة عبر مشروع الحزام والطريق، حيث ركزت على تمويل مشاريع البنية التحتية، وكذلك مشاريع زراعية وصناعية، في تلك الدول، وهي أسواق واعدة، وستمثل منفذاً لتسويق المنتجات الصينية. ويجب الأخذ في الاعتبار أن الصين بدأت، في الوقت الحالي، في فتح أسواق جديدة لتصدير الوسائل الصحية الوقائية من فيروس كورونا للبلدان كافة، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، منافسها الاقتصادي الرئيسي.

4- محدودية التزاماتها الدفاعية مقارنة بالولايات المتحدة: لا تتحمل الصين كالولايات المتحدة الأمريكية أعباء نفقات عسكرية ضخمة نتيجة لالتزاماته­ا الخارجية، إذ تؤكد دائماً على حيادها في كل الصراعات الدولية، ولا تتدخل في أي قضية سوى للدفاع عن مصالحها الاقتصادية، وهو عامل يساعد على استعادة قدرتها على النمو الاقتصادي بسرعة.

وفي الختام، يمكن القول إن الصين لاتزال قطباً اقتصادياً ضخماً لا يمكن تجاوزه، كما أن المحاولات الغربية لسحب استثماراته­ا من الصين، لم تتبلور بعد، ولم تثبت جدواها من المنظور الاقتصادي، وهو ما يجعل من الصعب تصور أن يتمكن الاقتصاد العالمي من تقليص اعتماده على الصين.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates