Trending Events

‪Cascading Crises‬

اختلالات هيكلية متصاعدة في "عالم كورونا"

- كارن أبوالخير

سلطت أزمة كورونا الضوء على العديد من الحلقات الضعيفة في عالمنا المعاصر، سواء فيما يتعلق بالنمط الاقتصادي السائد، أو توازن القوى الدولية، أو التماسك والثقة على المستوى المجتمعي.

اأولً: ترابط الأزمات العالمية

يلجأ المحللون في العادة عند تحليل الأزمات الكبرى للمقارنة مع السوابق التاريخية، فعندما اندلعت أزمة وباء الكورونا، بحثوا عن أوجه الاختاف والتشابه مع أزمة وباء الإنفلونزا، الذي اجتاح العالم في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتسبب في وفاة المايين.

وعندما ظهرت التداعيات الاقتصادية لتدابير الإغاق وتوقف مختلف أنواع الأنشطة، حاول المحللون تحديد أبعاد هذه التداعيات بالمقارنة بالكساد العظيم في ثاثينيات القرن الماضي، وأخيراً، عندما اندلعت الاحتجاجات الواسعة ضد التمييز العرقي في الولايات المتحدة، لجؤا للمقارنة بالاضطرابا­ت المماثلة في أواخر الستينيات من القرن الماضي.

لكن في إطار تعدد وتشابك وتصاعد الأزمات، تصبح جدوى المقارنات التاريخية أمراً مشكوكاً فيه، ويبدأ البحث في الاختافات الجوهرية بين الحاضر والتاريخ، والتي لا تتعلق فقط باختاف التكنولوجي­ا، ولا بدرجة انتشار العولمة، بل بطبيعة اللحظة التاريخية نفسها.

ربما أول مرة في التاريخ المعاصر يتعرض فيها المجتمع الدولي، على مختلف المستويات، لعدة أزمات متزامنة وشديدة

وممتدة الأثر في آن واحد، في غير حالات الحروب العالمية، ما يؤشر على أن ذلك مرتبط باختالات هيكلية عميقة.

وإذا كانت قوة السلسلة تقاس، حسب المثل الشائع، بقوة أضعف حلقاتها، فقد سلطت أزمة كورونا الضوء على العديد من الحلقات الضعيفة في عالمنا المعاصر، سواء فيما يتعلق بالنمط الاقتصادي السائد، أو توازن القوى الدولية، أو التماسك والثقة على المستوى المجتمعي.

كما بدا واضحاً أن كاً من هذه الأزمات يؤثر في الأزمات الأخرى ويتأثر بها، بشكل مباشر أو غير مباشر، وأن مواجهتها تتطلب مقاربة واسعة، شاملة، تأخذ في الاعتبار هذا التأثير المتبادل، وتبحث أيضاً عن جذورها المشتركة.

ويمكن في هذا الإطار، إلقاء الضوء على بعض "الحلقات الضعيفة" التي سلطت أزمة وباء كورونا عليها الضوء، وما ارتبط بها من أزمات، وما يمكن أن يفيد ذلك عن شكل العالم في مرحلة "ما بعد كورونا".

ثانياً: ثغرات ت�صلل الأوبئة

يرى العديد من المحللين أن الثغرة الأساسية التي تتسلل منها الفيروسات المسببة للأوبئة إلى البيئة البشرية هي الأسواق التي تبيع الحيوانات الحية، خاصة غير المستأنسة منها التي يتم جلبها من الغابات أو البرية. وفي المقابل يوجد اتجاه متصاعد لاعتماد نظرة أشمل، تتناول النمط التنموي والنتاجي الذي ساد العالم في العقود الأخيرة، وتأثيره على البيئة الطبيعية.

وفيما يتعلق بتفشي الأوبئة تحديداً، يحذر العلماء من خطورة جور النشاط الإنساني على البيئة الطبيعية التي تستوطن فيها

الحيوانات المختلفة، ما عرض العديد منها لخطر الانقراض. ولا يحدث ذلك فقط جراء عمليات الصيد، أو لفقدان موارد الماء والغذاء، لكن أيضاً لأنها أصبحت بسبب الضغط على بيئتها الطبيعية عرضة لانتشار الأمراض الفيروسية) .)

وبسبب التقارب الجغرافي المتزايد بين بيئة معيشتها والتجمعات البشرية، سرعان ما تتحور هذه الأمراض الفيروسية لتصيب البشر. وتبدأ رحلة انطاق الأوبئة عندما تتسلل هذه الفيروسات إلى إحدى المدن الكبرى، التي يتكدس فيها البشر بالمايين، في منازل متاصقة يتنقلون من خال وسائل مواصات مزدحمة، ويعملون في مصانع ومكاتب تضم أعداداً كبيرة تتجمع في أماكن مغلقة ما يمثل البيئة المثالية لانتشار الأمراض الوبائية.

وبسبب انتشار هذه المراكز الحضرية الكبرى في مختلف أنحاء العالم، والتشابك بينها الناتج عن امتداد الأنشطة التجارية والصناعية، وسهولة وسرعة حركة الانتقال بينها الذي أصبح متاحاً لأعداد كبيرة من البشر، يفتح ذلك الباب أمام الفيروس لينتشر في مختلف أنحاء العالم بسرعة غير مسبوقة.

وتمثل بعض المامح الأساسية للنظام الاقتصادي العالمي، من ضغط متزايد على البيئة الطبيعية، ومراكز حضرية ضخمة، وتشابك عالمي مع حركة سريعة وواسعة للبشر، نقطة ضعف تولد الأمراض الوبائية وتساعد على انتشارها.

ويتوقع العلماء أن تكون الأوبئة العالمية ملمحاً أساسياً للحياة في الفترة القادمة، ما لم يضع المجتمع العالمي بكل مستوياته القضايا البيئية في الاعتبار، وتتم مراجعة السياسات والأنشطة التي تهدد سامة البيئة وتوازنها الطبيعي، وتأثيرها على سامة وصحة المجتمعات البشرية. والملحوظ أن الوعي المجتمعي، خاصة بين القطاعات الشابة، قد تصاعد بمحورية هذه القضية، وأن الضغط على الحكومات والشركات لمراجعة سياساتها وممارساتها يتصاعد في هذا الإطار) .)

وقد تمثل خيارات المجتمع مدخاً للتغيير المطلوب، خاصة أن التكيف مع أزمة كورونا قد كرس لبعض الممارسات التي تدعم أسلوب حياة أقل ضغطاً على البيئة، حيث يوجد تحول عن المدن الكبرى بسبب الوباء، والميل نحو الاستقرار في مناطق أقل ازدحاماً، من قبل الأفراد والشركات، لأنها تمثل بيئة أكثر أماناً من حيث فرص الإصابة بالفيروس، وإذا لمست الشركات مثل هذا الميل من موظفيها، فقد تلجأ إلى تقليص حجم مقراتها الرئيسية في المدن الكبرى، أو نقلها خارجها.

يعزز من ذلك التوجه بشكل واسع اتجاه القطاعات التي تسمح طبيعة نشاطها بذلك، للسماح للموظفين بالعمل عن بعد، أثناء أزمة كورونا. وقد وجد كل من الموظفين والشركات مزايا متعددة في ذلك، ما قد يرسخ هذا النمط من العمل بعد انتهاء الأزمة.

وعلى الرغم من أنه من غير المتوقع أن يلجأ جميع الموظفين للعمل من المنزل طوال الوقت بعد انتهاء الأزمة، فإن هناك توجهاً ملموساً لذلك، خاصة من بين المهتمين بقضية البيئة واعتماد أسلوب حياة أقل ضغطاً عليها. وبالتالي،

فقد تشهد مرحلة ما بعد كورونا إرهاصات التحول عن نمط التكدس في المراكز الحضرية الكبرى.

ويمكن أن تشهد الفترة القادمة أيضاً تراجعاً في حجم حركة المسافرين بالطائرات، خاصةً مع اضطرار الأفراد والشركات للتأقلم مع ذلك خال فترة الإغاق. واضطرت الشركات العالمية للتواصل مع فروعها حول العالم إلكترونياً، ومع تواصل أمد الأزمة، وتعقيدات السفر، في ظل استمرار خطر الإصابة بالفيروس، قد ترسخ الشركات من هذا التوجه) .)

فقد تلجأ الشركات إلى تطوير آليات الاتصال عن بعد، بحيث تقلص الحاجة إلى السفر بالطائرات إلى أقل حد ممكن. وقد يؤدي ذلك إلى تخفيض حجم حركة الطيران، ما قد يقلل من الانبعاثات الحرارية من ناحية، ومن فرص الانتشار السريع للأمراض الفيروسية حول العالم من ناحية أخرى. لكن يظل تأثير كل ذلك محدوداً، حيث يتطلب إيجاد مقاربات جذرية لهذه المعضلة المحورية تغييرات جوهرية في السياسات الحكومية، وتنسيقاً كبيراً على المستوى الدولي.

ثالثاً: اأهمية البنى التحتية

أثار الأداء المتخبط للولايات المتحدة في مواجهة جائحة كورونا التساؤلات حول ما إذا كانت هذه الأزمة سوف تمثل نقطة التحول التي تزيحها من على قمة الهرم العالمي، حيث وضح للعيان العديد من "الحلقات الضعيفة" على المستوى المجتمعي والمؤسسي، التي تحولت بشكل سريع ومتاحق إلى أزمات متصاعدة تحت ضغط الوباء) .)

وقد كان النظام الصحي أول نقاط الاشتعال، وارتبط أداؤه الضعيف في مواجهة الوباء بالتوجهات السياسية التي اعتمدتها النخبة السياسية الأمريكية، منذ أن أرسى الرئيس الأمريكي رونالد ريجان مبدأ "الدور المحدود للدولة" في تنظيم الاقتصاد والمجتمع في ثمانينيات القرن الماضي، بالتوازي مع حكومة مارجريت ثاتشر في بريطانيا في ذلك الوقت.

وعلى أساس هذه المقاربة حدث التحول من نظام صحي تلتزم فيه الدولة بتقديم "خدمة" صحية، إلى نظام صحي قائم على نشاط القطاع الخاص، تصبح فيه الرعاية الطبية "سلعة"، تخضع لمنطق السوق، وحسابات الربح والخسارة.

وقد أدى ذلك إلى ارتفاع تكلفة الرعاية الصحية بشكل مبالغ فيه، بحيث أصبحت الطريقة الوحيدة للحصول عليها هي الانخراط في نظام تأمين صحي خاص، ما ترتب عليه حرمان قطاعات مجتمعية كبيرة من الحصول على خدمات طبية ضرورية، لأن الوظائف قليلة الدخل التي تشغلها لا تتيح لها الحصول على مثل هذا التأمين.

من جانب آخر، أعاق النظام الصحي الأمريكي كفاءة في تقديم الخدمات المطلوبة لمواجهة وباء كورونا) فبدون تنسيق ودعم من الدولة، لم تتمكن المستشفيات والمعامل الخاصة من توفير العدد الكبير من الاختبارات الازمة للكشف عن المرض بشكل واسع وسريع، لتحديد وعزل المرضى والمخالطين بهم، ومن ثم احتواء انتشار الوباء، كما أن غياب التنسيق المركزي

في القطاع الصحي، أيضاً لتراجع دور الدولة، أدى إلى إرباك عملية الحصول على مستلزمات حيوية، مثل أدوات الوقاية الشخصية وأجهزة التنفس الصناعي.

وقد اشتكى المسؤولون في الولايات الأمريكية من اضطرارهم للتنافس فيما بينهم في السوق المفتوحة للحصول على ما يحتاجون، ما أدى إلى رفع الأسعار وإهدار وقت ومجهود الطواقم الإدارية والطبية. وقد انعكس كل ذلك في تصدر الولايات المتحدة قائمة الدول ذات الوفيات المرتفعة.

وستتجلى التداعيات السلبية لغياب منظومة صحية "قومية" تديرها الدولة بشكل أكثر إلحاحاً حال التوصل إلى لقاح، فا يمكن لمستشفيات هادفة للربح أن تتولى تنظيم حملة تطعيم على طول الباد وعرضها، كما أن سامة المجتمع ككل، والقدرة على إعادة كل الأنشطة الاقتصادية بشكل آمن، تتطلبان أن يصل التطعيم للجميع، وليس فقط لمن يستطيعون تحمل تكلفته أو من لديهم اشتراك في نظام تأمين صحي خاص.

ولأن شركات الأدوية لن تقدم هذا اللقاح مجاناً، فمن المفترض أن تتحمل الدولة تكلفة اللقاح، ومسؤولية تنظيم وتنفيذ حملة التطعيمات القومية، وهو ما سيصطدم بغياب البنية الإدارية الازمة وضعف التمويل الحكومي للقطاع الصحي.

ولن تمثل أزمة المنظومة الصحية "الحلقة الضعيفة" الوحيدة التي سيتعين على الولايات المتحدة تدعيمها في إطار أزمة كورونا، حيث توجد أيضاً مشكلة تنظيم الانتخابات القادمة، في ظل الحاجة لاتخاذ إجراءات احترازية، من تباعد بين الناخبين، وإجراءات التعقيم وغيرها، مع قلة عدد مراكز الاقتراع، وتردي مستوى الأجهزة، وهو ما اتضح في الانتخابات التمهيدية التي أجريت في عدد من الولايات.

ويحذر المراقبون من أن هذا الوضع قد يفجر أزمة تهدد النظام السياسي والدستوري، حيث إن وجود أي خلل في العملية الانتخابية قد يفتح الباب أمام الطعن في النتائج وسلسلة جديدة من الأزمات السياسية. وعلى هذا، بات مستقبل الولايات المتحدة كنظام واقتصاد وشعب مرتهناً بقدرة بنيتها التحتية، في الصحة أو الانتخابات أو غيرها، على التصدي لهذه التحديات. ومن المنتظر أن تكون قوة البنية التحتية، خاصة في المجالات الخدمية المدنية، من محددات قياس قوة الدول في "عالم ما بعد كورونا".

رابعاً: مركزية الثقة المجتمعية

يربط الخبراء قدرة المجتمعات على تجاوز الأزمات بدرجة تماسكها، وثقة قطاعاتها المختلفة ببعضها بعضاً، وثقتها في حكوماتها، وفي أن السياسات التي تتبعها تصب بشكل حقيقي في مصلحتها. وقد ألقى الباحث جارود دايموند الضوء على ذلك في دراسته التاريخية المقارنة عن تعامل الدول مع الأزمات، كما تردد صدى هذه الفكرة في التحليات التي تناولت إدارة الدول المختلفة لأزمة كورونا) .)

فقد نوهت التحليات بتجربة كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، حيث كانت ثقة المواطنين في أن الحكومة لن تستخدم المعلومات الشخصية التي تجمعها في إطار حملة تحديد المصابين بالفيروس وتتبع المخالطين لهم لأي أغراض أخرى، سبباً في تعاونهم الكبير مع هذا البرنامج، والتي كانت من أولى الدول التي اعتمدته. كما كانت ثقتهم في كفاءة النظام الصحي سبباً في تقدمهم للحصول على فحوصات الكورونا، والتي وفرتها الحكومة بشكل واسع، بسرعة وانتظام، ما جعل التجربة الكورية مثالاً يحتذى.

من جانب آخر، سلطت التحليات الضوء على دور القيادات السياسية في تحقيق تماسك المجتمع أثناء الأزمة، خاصة القيادات النسائية) فقد حازت رئيسة وزراء نيوزيلندا؛ جاسيندا آردرن، على إعجاب دولي واسع لتواصلها المستمر والمباشر مع المجتمع، وخطابها إليهم بوصفهم "فريقاً واحداً يتكون من خمسة مايين"، وتطبيقها السريع لإجراءات قوية من العزل والغلق، التي تجاوب معها المجتمع لثقتهم فيها، والتي مكنت نيوزيلندا من أن تكون من أولى الدول التي انتصرت على الوباء وأعادت الحياة الطبيعية.

كما حازت أنجيا ميركل، المستشارة الألمانية، أيضاً، على إعجاب دولي وقومي، فبعد أن كانت مستويات الرضا الشعبي عنها وعن حزبها قد تراجعت بشدة في السنوات الأخيرة، ارتفعت مرة أخرى بسبب أسلوب إدارتها هذه الأزمة، لدرجة شجعت البعض على اقتراح ترشحها لفترة جديدة، لكنها صرحت بوضوح أن لا نية لديها في ذلك.

وبالإضافة طبعاً إلى قوة أداء النظام الصحي في ألمانيا، فقد ارتبط نجاح ميركل إلى حد كبير بأسلوب تواصلها المباشر مع شعبها، واستخدامها خطاباً مختلفاً في لهجته وأسلوبه، حيث شرحت ميركل كل أبعاد الأزمة، وعبرت عن تقديرها لشدة وطأة إجراءات العزل والغلق التي تم فرضها، وأنها لم تأخذها اعتباطاً، بل إن فرضها واستمرارها أو رفعها مرتبط أولاً وأخيراً بمشورة العلماء ومتابعتهم للتطورات على الأرض.

طلبت ميركل من مواطنيها عدم التكالب على شراء المواد الغذائية، وأن يثقوا بأنها متوفرة، وقابلة لتعويض النقص فيها، وأن يتكاتف المواطنون كمجتمع واحد، وأن يدعموا بعضهم، خاصة الفئات الأكثر عرضة للخطر، مثل كبار السن.

كما أصدرت العديد من القرارات التي تقلل من قلقهم، ومنها منع إجاء المستأجرين الذين لن يستطيعوا دفع الإيجار أثناء فترة توقف الاقتصاد. وبالإضافة إلى الإعانات الخاصة بالبطالة، قدمت الحكومة منحة لمرة واحدة للأسر التي لديها أطفال.

وقد رسخت هذه الإجراءات من الإحساس بأن الحكومة تدعمهم كمواطنين، وأن الدعم لا يصل بشكل تمييزي للشركات أو لقطاعات معينة، كما كانت ثقتهم كبيرة في أن القيود المفروضة تستند إلى أسس علمية سليمة، ولذلك التزموا بالتدابير، وتراجعت مظاهر التكالب على شراء المواد الغذائية.

وبدورها، أعربت ميركل عن شكرها للشعب الألماني على التزامهم، ما ساهم في إنجاح جهود محاصرة الوباء وتقليل الوفيات، مذكرة إياهم بأن الأزمة ما زالت مستمرة ولم تصل إلى نهايتها بعد، فتعاونهم والتزامهم ما زال مطلوباً.

أما ترامب، فقد أدى أسلوبه في إدارة الأزمة إلى تقويض الثقة المجتمعية، وتأجيج الاستقطاب على جميع المستويات. شكك ترامب بشكل متكرر في تقييم العلماء والمختصين للأزمة، وعارض النصائح التي تقدموا بها عن الإجراءات المطلوبة لمواجهة الوباء، سواء فيما يتعلق بالغلق أو التباعد أو ارتداء الكمامات، مشجعاً من خرجوا في احتجاجات عليها، بوصفها تقييداً لحرياتهم.

وكان الانقسام بين من يعارضون الإجراءات الاحترازية ومن يؤيدونها موازياً بشكل يكاد يكون كاماً لانقسام السياسي. الجمهوريون ضد إجراءات الغلق والديمقراط­يون يؤيدونها، ولذلك تباينت السياسات على مستوى المدن والولايات، حسب الانتماء السياسي لمسؤوليها، وغاب التنسيق على مستوى هذه السياسات كما غاب على مستوى المنظومة الطبية.

وعلى الرغم من أن الصاحيات التي تتمتع بها الولايات تعقد في العادة من التنسيق على مستوى البلد ككل، فقد نجحت دولة فيدرالية أخرى، هي ألمانيا، في ذلك. وعلى الرغم من أن أنجيا ميركل لا تملك صاحية تحديد الإجراءات التي تتخذها كل ولاية، فإنها نجحت في التنسيق بينهم، وفي إرساء مبدأ الاحتكام إلى رأي العلماء في ذلك، بحيث لم تكن هناك تفاوتات كبيرة بين المدن والولايات المختلفة.

وكان من أخطر الانقسامات التي فجرتها أزمة كورونا، قضية التمييز العنصري ضد السود. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات الواسعة التي اجتاحت الولايات المتحدة حول هذه القضية اندلعت بسبب مقتل جورج فلويد الأسود على يد شرطي أبيض، فإن توقيت انفجارها ليس منفك الصلة عن تداعيات الوباء، وعن ضعف المنظومة الصحية.

فلقد كانت معدلات الإصابة والوفيات من الفيروس مرتفعة بشكل كبير في مجتمعات السود، نظراً لتردي الخدمات الصحية في الأماكن الفقيرة التي يسكنونها، ولتراجع الحالة الصحية بينهم بشكل عام أصاً، لعدم حصولهم على رعاية طبية مناسبة، وعدم قدرة معظمهم على الاشتراك في برامج التأمين الصحي الخاص، ولأن العديد منهم يقومون بأعمال تعرضهم بشكل كبير للوباء، مثل أعمال التنظيف في المستشفيات) .)

وعلى جانب آخر، فقد كانوا أيضاً الأكثر تأثراً اقتصادياً، حيث كانت معدلات البطالة بينهم من جراء توقف حركة الاقتصاد عالية بشكل كبير. وفي هذه الحالة من المعاناة النفسية والجسدية والاقتصادي­ة، والإحساس بالعجز عن حماية الأسر والأطفال من المرض، وعن توفير الرعاية الصحية المطلوبة إذا مرضوا، وعدم اليقين بشأن عودة الوظائف وتدبير الطعام، فقد جاء مقتل جورج فلويد بمنزلة الشرارة التي أشعلت النار في الهشيم، وأطلقت العنان للغضب من سياسات التمييز المنهجي التي صنعت هذا الواقع المتردي.

وعوضاً عن التعاطف وتهدئة الخواطر، فقد صعد رد فعل ترامب من مستوى التأزم داخل المجتمع الأمريكي بشكل كبير. وكانت توجيهاته للقيادات المحلية باستخدام القوة في مواجهة الاحتجاجات، والتركيز على بعض أعمال الشغب والنهب التي وقعت أثناءها، سبباً في تصاعد الغضب ضد النظام الشرطي، وضد سياسة "عسكرة" الشرطة من خال تزويدها بمعدات شبه عسكرية، لا يصح استخدامها ضد المدنيين أصاً.

وجاءت الأزمة الأكبر بإقحامه الجيش في المعادلة، وتوريط بعض قياداته في موقف بدا وكأنهم يدعمون من خاله استخدام القوة ضد مواطنيهم. وخوفاً من أن تفقد مؤسسة الجيش أيضاً ثقة المجتمع، فقد خرجت القيادات العسكرية، السابقة والحالية، لاعتراض على توجه ترامب لاستخدام قوات من الجيش في مواجهة المتظاهرين، ولتأكيد أن الدستور الأمريكي يحمي حق الأمريكيين في التظاهر، وأن الجيش وظيفته حماية الباد من أعداء الخارج، ولا يستخدم في الداخل إلا في حالات الضرورة القصوى. ولا شك أن هذه الأزمات المتاحقة تضعف الولايات المتحدة على المستوى الداخلي، وسوف تلقي بظالها على موقعها في موازين القوة دولياً أيضاً.

وفي المقابل، ليست الولايات المتحدة هي الوحيدة التي تعاني أزمات متعددة، متصاعدة ومتشابكة، في ظل أزمة كورونا، فهناك بوادر تصعيد في عدة صراعات على الساحة الدولية، وهناك تفاقم لمشكات نقص الغذاء والماء، كما تتعرض العديد من الدول لأعاصير وفيضانات مدمرة، ومختلف أشكال الأزمات الاقتصادية والسياسية الداخلية، تزامناً مع جهود التصدي للوباء.

ومع أنه من الواضح أن النظام العالمي سيظل في حالة من عدم الاستقرار، على أقل تقدير، لفترة ليست بالقصيرة، فمن الصعب التنبؤ بما إذا كانت هذه اللحظة التاريخية سوف تمثل بالفعل نقطة تحول، يتجه فيها إلى مواجهة اختالاته الهيكلية بشكل جذري، أم أن الأمور ستعود بشكل أو آخر إلى ما كانت عليه، كما تشير تجارب تاريخية عديدة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates