Al-Quds Al-Arabi

الجزائر... تفاصيل الخوف من المنحوتات

- سعيد خطيبي٭ ٭ كاتب من الجزائر

■ الجزائري يرتبط بعلاقة متأزّمة مع جسد المرأة، لا تســتهويه مفاتنها، بل تستفزّه، لا يسعى إلى مُغازلتها، بل إلى تعنيفها، لا ينظر للجمال باعتباره مكملا للهوية، بل باعتباره نقيضا لها، لا يُمارس حقّه في الرّومانسية، ويكتفي بإشباع ذكوريته المجروحة في خدش الأنوثة، التي تُحيط به، فالجزائري تعوّد، من عقود، على إخفاء المرأة، أن تكون مــن الممتلكات الخاصّة، لا أن تخرج إلى الفضاءات العامّــة، وما حصل لمنحوتة عــن الفوّارة، قبل أيّام، يُشــير إلــى تعمّق حقد البعض على جســد المرأة، فللمرّة الثّانية، في أقلّ من عام، يتعرّض التّمثال نفسه لمحاولة هدم، والسّبب ليس التّمثال في حدّ ذاته، بل نهدا المرأة، اللذان عُجنــا من حجر، كما لو أنّهما هما سبب كلّ المشاكل، التي تسقط من السّماء، وأن هدمهما ســيحوّل البلد، إلى بقعة آمنة، لا يقربها الشّيطان، ولا تُخالطها المنكرات.

إن مــا حصل ليــس موضوعا يُختصــر في الخلاف حول وجود منحوتات، من عدمها، وليست قضية دينية كما يُحاول البعض تقزيمها، بــل القضية أكبر من ذلك، إنّها تُحيلنا إلى العلاقة المضطربــة للجزائري بصورة المرأة، وتســتوجب العودة ـ قليلا ـ إلى فرويد، تقليب نظرياته الجنســاني­ة لنجــد أنّها قابلــة للتّطبيق، في الوقت الحالي، فالجزائري لم يحدّد شكل حياة جنسية له، هو يعيش في النّور متظاهرا بالعفةّ، والوقار، وحبّ الخير، والاحترام، بينما في الســّر يجد نفســه مشتتا بين تخيّلات، ورغبات مكبوتة، تســتفزه منحوتة امرأة عارية، لأنه يشــعر أنها ليست ملكه، بل هي ملك مشاع، تقاسمه فيها أعين الآخرين، ورغباتهم فيها.

هناك خطاب سائد وشائع يقول أن الجزائري مُخلص في علاقاته العاطفية، ولا يخون، وهو كلام صائب، إلى حدّ ما، فالجزائري نادرا ما يعدّد في علاقاته العاطفية، والسّــبب ليس ـ فعلا ـ الوفــاء، ولا الرّغبة في الحفاظ على المحبوبــة، بل هو عدم تخلّصه مــن عقدة أوديب، يختصر النّساء كلّهن في وجه أمّه، وهنا ليس يُقصد من الأم كوالدة، وككائن بشري، بل الأمّ هي التّنشئة، التي جاء منها، وفــيّ لما تربى عليه من محو لوجوه نســاء أخريات، وفي أحيان شيطنتهن، وإزاحتهن من الفضاء العام، كي لا تشوّش عليه أي امرأة أخرى التّفرغ للمرأة الوحيدة، التي تســكن عقله، والتي يرسم لها حدودا، ويمنع عنهــا أن تطل من كوّة، إلى الخــارج، لا يُريد أن يشاركه فيها شخص آخر، حتى في الأوهام.

لقد حاول رشــيد بوجدرة، في أكثر مــن رواية، أن يشــرح علاقة الجزائري الُمعقّدة بجســد المــرأة، لكن سرعان ما تمّ وصمه بالإباحية، لتنفير القراء، وإثنائهم عن العودة إلى رواياته، فقد قدّم لنا هذا الرّوائي بعض المفاتيح في فهم القلق الذي يعيشــه مواطنوه، والفراغ الذي يطوّقهم، وإحساســهم المزمن باللا استقرار، مما يجعلهم يلجؤون لجســد المــرأة، حبســه، والحدّ من تصرفاته، إشباعا لعجزهم في إثبات ذواتهم، لقد نبّهنا بوجدرة، منــذ باكورته «التّطليق»(1969(، أن جســد المرأة لم يعد يمثّل للجزائريين بديلا، ولا مُرادفا لكتلة من الأحاسيس أو من الرّغبات فقط، بل رداء يستر فشلهم، ومســكنا يتعاطونه كي لا يتضاعف إحساسهم بالقهر، الذي يعيشون فيه.

قد يهمّنا، في هذه الحالة، اقتراح حلول للتخلّص من هذا الوضع، أكثر من أي شــيء آخر، لكن العلاج لا يأتي ســوى بعد أن يقرّ الجزائري بما آل إليــه، وأن علاقته بجســد المرأة صارت «إدمانا»، يصرّ على تشــويهه، أو السّطو عليه، بدل التّعامل معه كنظير له، على أنّه يمتلك من الحقوق ما يمتلكه هو نفسه، فحين يهجم أحد ما على منحوتة امرأة عارية، تنتصب في مكانها ذلك، منذ أكثر من قرن من الزّمن، فهو فقط يستأجر جسدها الحجري ليعبّر عما يرغب في فعله مع نســاء حقيقيات؛ بفعلته تلك هو يفرج عن ميوله في السّــيطرة على جسد المرأة، وحجزه لشخصه، كي لا تُقاسمه فيه نظرات الآخرين، ولا همساتهم. ففي مواجهة جسد المرأة، يفقد الجزائري السّيطرة على نفسه، يفيض بســلوكيات باثولوجية، وحين يُقابلــه الُمحيط الــذي يعيش فيــه بالرّفض أو الاستهجان فإنه يغلف تلك الممارسات بكلمات مُستعارة من الدّين أو من الأخلاق، باســتحضار آيّات وأحاديث تمنع التّبرج، أو الاســتنجا­د بالعــادات والتّقاليد، وما ورثه عن أمّه/ تربيتــه الأوديبية. وبالعودة مرّة أخرى إلى فرويد، فــإن عملية هــدم منحوتة امــرأة عارية، والبدء خصوصا من نهديها، هي أشــبه بنشوة في عقل الُمعتدي، تلك النّشوة التي لا يبلغها، في الواقع، سيصل إليها بخدش جمال الأنثى، وبعد تلك النّشــوة، التي لن تدوم ســوى ثوانٍ، ســيتخلّص من عبء ومن حمولة من هواجس ومن تراكمات، يعتقد أنّه بلغ أخيرا جســد المــرأة المحرّم عليه، ونــال منه، هكذا يرتخي ويشــعر باطمئنان، بأنه أنجز ما يحســده عليه آخرون، أي أنّه امتلك جســد المرأة، التي ينظر إليها الكثيرون دون أن يجرؤا على الانفراد بها. ولكن بعد الارتخاء، سيشــرع في التّفكير، من جديد، في بلوغ نشــوة أخرى، وامتلاك جســد أنثوي آخر، هكذا هو الإدمان على جســد المرأة، والتّســابق عليه، ليــس لخلق علاقة متزّنــة، بل فقط إرضــاء لذكورية مســلوبة، وتلبية لرغبــات تراكمت بسبب تنشئة تفصل بين الجنسين، وخصوصا تشيطن النّســاء. يُطوّر الجزائري، منذ سنوات، علاقة جديدة مع الفنّ، ولا ســيّما منحوتات الأجســاد العاريّة، التي نجدها في أكثــر من مكان، في البلد، ويكتســب عادات جديــدة كي يعبّر عــن حرمان عميق، يتســع في عقله وفي قلبــه، وهــذا الحرمان هــو دينامو الممارســا­ت العنيفة، سواء كانت لفظا أو ســلوكيات بدنية، والتي ظهرت مثلا في الاعتداء علــى منحوتة «عين الفوّارة،» الحرمان هو الذي يولّد الكآبة في نفســيته، ويزيد من شــعوره بالغبن، وكلّ تحرّش بجســد أنثوي يجد فيه بديلا علاجيا من الحرمان، الــذي بداخله. وما حصل ـ مؤخرا ـ في عين الفوّارة، لم يُقابله اســتهجان، كما كان متوقّعا، بل هناك من أيّد الفاعل وتعاطف معه، وفي حال كهذه، تتصاعد المخاوف، أكثر، من فوات الأوان، وأن ما حصل لتلك المرأة المنحوتة من حجر قد يتكررّ مع غيرها، ويصير الفنّ جريمة!

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom