Al-Quds Al-Arabi

في الذكرى الخامسة والأربعين لحرب 1973: كيف أضحت سيناء شبه جزيرة منعزلة؟

- د.محمد عبدالرحمن عريف ٭ كاتب وباحث في تاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية

في كتــاب مذكرات حــرب تشــرين الأول/ أكتوبر، يبدأ الفريق الشــاذلى -رئيس اركان الجيش حينهامذكرا­تــه قائلا )لم نكف عن التفكيــر في الهجوم على العــدو الذي يحتــل أراضينا حتى في أحلك ســاعات الهزيمة في حزيران/ يونيــو 1967، لقد كان الموضوع ينحصر فقط فــي متى يتم مثل هــذا الهجوم؟، وربط هــذا التوقيت بإمكانيــا­ت القوات المســلحة لتنفيذه. وفي خريف 1968 بدأت القيادة العامة للقوات المسلحة تســتطلع إمكان القيــام بمثل هذا الهجوم على شــكل مشاريع اســتراتيج­ية، تنفذ بمعدل مرة واحدة في كل عام، وقد كان الهدف من هذه المشاريع تدريب القيـادة العامة للقوات المســلحة، بما في ذلــك قيادات القوات الجوية والقوات البحريــة وقوات الدفاع الجوي، وقد استمرت هذه المشــاريع خلال عامي 1971 و1972. أما المشــروع الذي كان مقررًا عقده عــام 1973 فلم يكن إلا خطة حــرب أكتوبر الحقيقية التي قمنــا بتنفيذها في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973.

كارثة اتفاقية السلام

ووقعــت الحــرب وتحقق النصــر.. وجــاء طرق المفاوضات، لنصل إلى ما هو شــبه جزيــرة منعزلة.. هي سيناء شــبه الجزيرة المنعزلة بثلاثة حدود مائية والحد الرابع محتل، في الشطر الآسيوي من الأراضي المصريــة، تبلــغ مســاحتها نحــو )60.088 كيلو متر مربع(، ويســكنها )380.000 نسمة(، وبخلاف أهميتها العســكرية، فســيناء تضم أكبر مخــزون على أرض مصر من الثــروات المعدنية، مثــل المنغنيز والنحاس، خاصة نوع «الملاكيت» الذي يتركز في منطقة سرابيط الخادم وفيران وســمرة. أما البترول فمنذ أول عملية تنقيب في 1910، وسيناء تعتبر منجم البترول والغاز المصــري، ففيها حقول )أبو رديــس، وبلاعيم بحري، وسدر وعسل مطارما وفيران(، وتوجد بمحاذاة خليج السويس.

منــذ أربعين عامًا كانت شــبه الجزيــرة على موعد جديد، ففي محاولة تحليل ما تم الاتفاق والتوقيع عليه في )17 أيلول/ ســبتمبر 1978(، بين الســادات وبيغن بعد 12 يومًا مــن المفاوضات،حيث كانــت المفاوضات والتوقيــع على الاتفاقية تحت إشــراف كارتر. وحيث توجد مطالــب لم يتم الإفصاح عــن تفاصيلها، وعليه تبقى ســرية حتــى اليوم، كمــا أنّها لــم تُعرض على البرلمان المصري. نعم هي الكارثة التي بدأت في 1978، وصولًا لــ)20 آذار/مارس 1979(، حيث وقع السادات وبيغــن على اتفاقية الســام المصرية الإســرائي­لية، التي بدأت باعتراف القاهرة بوجود دولة إســرائيل، وانسحاب الجيش الإســرائي­لي من سيناء، مع التأكيد على حق الســفن والشحنات الإســرائي­لية المرور في قناة السويس وخليج العقبة ومضـــيق تيـران دون عـوائق.

جاءت «كامب ديفيد» ومن بعدها «اتفاقية الســام» لتأتي بموجــة اســتياء عربي واســعة، رحــل فيها الســادات قتيلًا، فيما ظلت ســيناء مقسمة إلى مناطق أمنية ثلاث بحكم اتفاقية الســام، تلزم مصر بتسليح محدد ومعروف مسبقاً في تلك المناطق ولا يجوز رفعه إلا باتفــاق الطرفين. فبالأحرف الأشــهر في الأبجدية )العربيــة والعبريــة والإنكليزي­ة(، جــاءت خريطة ســيناء بعد أربعين عامًا، بها ثــاث مناطق تأخذ هذه الأحــرف، مع تحديد عدد أفراد الجيــش المصري فيها، فجــاءت بالمنطقة «أ» في غرب ســيناء، ليســمح فيها بقوات مصرية لا تزيد علــى )22 ألف( مقاتل، ومنطقة «ب» في الوســط ليس بها إلا )أربعة آلاف( جندي من حرس الحدود بأسلحة خفيفة، ثم منطقة «ج» في شرق ســيناء على الحدود مع إســرائيل وهذه ليست بها إلا )قوات شرطة( فقط منزوعة من قوات الجيش.

نعم قد يكون عقب أحداث «25 كانون الثاني/ يناير» المصرية، حدثــت حزمة مــن التفاهمــا­ت الأمنية بين القاهرة- تل أبيــب، على إثرها أدخل المزيد من القوات والمعدات العسكرية التي لم تكن «كامب ديفيد» تسمح بها. فســبق وأعلنت إســرائيل في 14 آب/ أغســطس 2011، أنهــا توصلــت لتفاهمــات أمنية مــع الجانب المصري، بموجبها تم إدخال قوات مسلحة إلى سيناء، فقد تم الســماح بدخول )2000 جندي(، بالإضافة إلى عتاد من الدبابات ومعدات ثقيلة إلى شــمال ســيناء، وإن جاءت هــذه الخطــوة بمثابة اتفــاق ثنائي بين البلدين على تخطي حاجز بنود «كامب ديفيد.»

تنسيق أمني

الحقيقة أنه نظرًا للمصالح المشــتركة، وفي الخفاء وبعد عام، في 16 آب/ أغســطس 2012، ســبق وكتب محلــل الشــؤون العســكرية بصحيفــة «هاآرتس» الإســرائي­لية، آفي يســخروف، أن الجيــش المصري قام بإدخال عدد كبير من القوات المصرية إلى ســيناء بالتنسيق مع إســرائيل، لكن إسرائيل اكتشفت أنه تم إدخال أعــداد أخرى، ومعدات عســكرية منها دبابات ومقاتلات دون التنســيق معها، لكنها رفضت التعليق على هذه المعلومــا­ت، واكتفت بالقول «إن التنســيق الأمني مع مصر متواصل على أســاس «كامب ديفيد.» وحفاظًا علــى ماء الوجه، نقلت «هاآرتس» عن مصادر أمنية إســرائيلي­ة قولها «إن هناك أماكن في ســيناء، ممنوع دخول الدبابــات إليها، لا ســيما إذا كان مدى نيران هذه الدبابات يهدد أمن إسرائيل.»

منــذ 2013 بدأ مسلســل اختطاف العســكريي­ن في ســيناء، هنا جاء التنســيق المصري مــرة أخرى مع الجانب الإســرائي­لي من أجل إدخال عــدد من القوات إلى ســيناء. ذكر بعدها المحلل الإســرائي­لي في مجلة «يسرائيل ديفنس » المتخصصة في الشؤون العسكرية، عامي روحكس دومبا، أن إسرائيل من جانبها سمحت لمصر بإدخال قوات كبيرة من الجيش إلى سيناء بشكل يكفي للقضاء على الإرهاب، وعلى الرغم من ذلك، فإن حجم القوات المصرية في سيناء غير واضح.

قد يكون وفقًــا لرؤية عدد مــن المراقبين للأحداث، تعتبــر إســرائيل أمــن الحدود مــع مصــر مصلحة إستراتيجية لأنها تمنع تسلل الأفارقة وتجار المخدرات والرقيق الأبيض. وسبق وعلقت صحيفة «كلكليست» الإســرائي­لية الاقتصادية على الجــدوى الاقتصادية للأمن في سيناء والتنسيق الأمني بين مصر وإسرائيل، بالقول «إن الهدوء على الجبهة الجنوبية يعتبر بشرة خير للاقتصاد الإســرائي­لي، واضطلاع مصر بمواجهة الإوضاع في ســيناء سيخفف عن إســرائيل من تكلفة وضــع المزيد من القــوات على الحدود مــع مصر، وما يترتب عليه، كما أن استقرار الجبهة الجنوبية سيتيح لإســرائيل التركيز على جبهات أخرى مشــتعلة مثل الجبهة الســورية والجبهــة اللبنانيــ­ة، وجبهة قطاع غزة .»

التعاون المشترك

هكذا انتهى انتصــار تشــرين الأول/ أكتوبر 1973 بشــبه الجزيرة مكتوفة الســاح. وإن كانت المصالح تتحدث ورغــم المخاوف الإســرائي­لية الســابقة، إلا أن المصلحــة الإســرائي­لية تحتم عليهــا الموافقة على الخطوات نحــو التعاون، نظرًا للفوائد التي ســتعود على الجانب الإســرائي­لي أيضًا من وراء القضاء على التنظيمات في ســيناء. لذلك قامت ببناء سياج عازل على الحدود مع مصر بطــول )227 كيلومترا(، مزودة بأحدث أجهزة المراقبة والاستشعار عن بعد، موصولة بقاعدة لتحليل الصور والبيانــا­ت التي ترصدها تلك الأجهــزة، وبلغت تكلفة هذا الجدار نحــو )1.4 مليار( دولار. فيما رأت صحيفة «معاريف» الإســرائي­لية، أن إقامة هذا الجدار من شــأنه أن يقلل إلــى حد كبير من استخدام الصواريخ والقذائف المضادة للدبابات ضد الدوريات الإســرائي­لية ومعداتها إذا ما فكر أي تنظيم من داخل سيناء في استهدافها.

وســط كل ما ســبق من تفاهم مصري- إسرائيلي، يرقــى لدرجة التعاون المشــترك.. يبقى الســؤال عما سيحدث بعد انتهاء هذا الأحداث في سيناء، فلا تعرف له إجابة، فهل ســتظل القوات المصرية في سيناء تمثل أداة تأمينه في مواجهة إســرائيل، في حالة إذا فكر أي شخص بتل أبيب في أي تطلعات إقليمية؟. على الرغم من كل ما ســلف.. تبقى ســيناء في الذكــرى الأربعين معزولــة يرتع فيها إرهاب لا يعرف مصدره.. وقد باتت أشبه ببيت يسكنه الجان، يعبث فيه متى شاء وكيفما شاء..

فإلى متى تبقى «كامب ديفيد» تعزل مصر الآسيوية عن مصر الإفريقية أيضًا؟. حيــث لم يعرف المصريون شــبه الجزيرة طيلة عقود إلا عبر الحمــات الأمنية، والحديث عن الســاح والتهريب وقطــاع غزة ودولة الاحتلال الإسرائيلي التي ملأ مواطنوها فنادق سيناء الفاخرة، بينما كانت داخلية مصر تتحدث عن «خيانة البدو» وتحاول عبثًا عقد صفقات أمنية الطابع والغاية في كل شبر من شبه الجزيرة المليء بالفرص والفراغ، والهواجس الأمنيــة. وإلى متى تبقى إســرائيل تنعم بســيناء مصر؟.. وقد يأتي الأيام بمــا هو أصعب على المصريين، ومعهم القطاع المحاصــر، بصفقة وصفعة.. هي سابقة في هذا القرن.

تبقى مذكرات الفريق الشــاذلي شــاهدة على أنه أبى إلا أن يكشف للتاريخ حقيقة ما جرى، وأن يعرض تفاصيل حرب تشــرين الأول/أكتوبر من داخل مطبخ العمليات بصفته أحد المخططين لها. ويبقى أن المذكرات كشفت النقاب عن أخطاء الســادات القاتلة من وجهة نظر الشــاذلي مثل تســببه في ثغرة الدفرسوار التي غيــرت مجرى الحرب من نصر ســاحق علــى الكيان الصهيوني إلى نصر هزيــل. فكان الحصاد عبر «كامب ديفيد» و«اتفاقية السلام».

٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom