Al-Quds Al-Arabi

ملف خاشقجي: مزيج من «شرارة البوعزيزي» و«لوكربي» للعلاقات الخارجية للسعودية

- د. حسين مجدوبي

في ظرف أيــام معدودة تحولــت العربية الســعودية، مــن دولــة يخطب جــزء كبيــر من المنتظــم الدولــي ودها وصداقتهــا إلى دولة مارقة في أعين الــرأي العام العالمي والقانون الدولي، وذلك بسبب اغتيالها البشع للصحافي جمال خاشــقجي. هــذا الحادث يأخذ أبعــادا لا أحد كان يتصورها حتى الأمس القريب، مما يجعل ملف خاشقجي نســخة مــن البوعزيــز­ي مفجر الربيــع العربــي وقضية لوكربي ولكن في طابع دولي بالنسبة للسعودية.

وهكذا، يوم 2 تشــرين الأول/أكتوبــر الجاري يعد من الأيام التي بدأت فيها مشــكلة الســعودية مع العالم، فقد أقــدم مســؤولون أمنيــون ســعوديون على تنفيــذ عملية تغييب بشــعة فــي حق الصحافي جمال خاشــقجي، في القنصلية الســعودية في اســطنبول، وتفيد الرواية التي أصبحت شبه رســمية في انتظار تأكيدها قتل الصحافي وتقطيع جثته بمنشــار في قلــب التمثيلية الدبلوماسـ­ـية بأوامر من ولي العهد محمد بن سلمان.

وســاد الاعتقاد في البدء في بقاء هذا الملف محصورا فــي نزاع ثنائي بــن العربية الســعودية وتركيا، مع دور ضاغط ومنــدد للجمعيــات الحقوقيــة الدوليــة من أجل الوصــول إلــى الحقيقــة، وكان هــذا علــى الأقــل اعتقاد القيادة السعودية، لكنه تطور وأخذ بعدا دوليا حقيقيا مع انعكاسات اســتراتيج­ية أبرز عناوينها تحول السعودية فــي أعــن العالم إلــى دولة مارقــة لا تحافــظ ولا تحترم الأعــراف الدولية. ملف خاشــقجي، يحمــل تطورات في اتجاهين، الأول داخلي ويتبلور بطريقة صامتة، والثاني، خارجي دولي ويحاصر السعودية بشكل مذهل.

الاتجاه الخارجي

على ضــوء الوضــع المقلق للعربيــة الســعودية حاليا ومــا قد يتطور إليــه، يمكن اعتبار ملف خاشــقجي بمثابة بوعزيــزي” جديد، الذي فجر الربيــع العربي ولكن هذه المرة على مســتوى العلاقات الخارجية وما ســتحمله من انعكاســات خطيرة على الوضع الاعتباري للسعودية في الخريطة الدولية، وهي انعكاسات من الصعب احتواءها في ظرف وجيز باستثناء في حالة حدوث تغيير دال في القيادة الســعودية، وهذا يترجم عمليــا بإعفاء محمد بن سلمان من ولاية العهد.

لقد اعتقدت السعودية في تمتعها بحصانة خاصة في المنتظــم الدولي، ولم تتردد في مهاجمة كل الدول الغربية التي انتقــدت تعاطيها مع حقوق الإنســان مثل الســويد وألمانيا وأساســا أزمتها الأخيرة مع كنــدا. واعتقدت في غلبــة المصالح بــن الدول علــى حقوق الأشــخاص، ولم تــدرك أن ملفــات شــخصية تتحــول أحيانا إلــى مصدر إضعاف الدول.

لقــد فجــرت عمليــة التغييب البشــع والوحشــي لجمال خاشــقجي، في القنصلية السعودية في اســطنبول غضبا عالميا وأساســا في الغرب ولاسيما الولايات المتحدة، حيث يصاب الســعوديو­ن بالذهول من ردة الفعل الأمريكية تجاه ملــف يفترض أنــه لا يمــس مصالحهم )الأمريكيــ­ن(. ومن الجهــات التي أعربت عن قلق كبيــر ما يصطلح عليه بالدولة العميقــة في الولايات المتحدة إستبلشــمن­ت” التي ترى في مغامــرات ولي العهــد محمد بن ســلمان، مســا بمخططات الولايــات المتحــدة فــي الشــرق الأوســط، وبالتالي مســا بالأمــن القومــي الأمريكــي. وكانــت النتيجة، وفــق مصدر عليم بسياسة واشنطن في الشــرق الأوسط في حديث مع القدس العربي” هي: محمد بن ســلمان أصبح خطرا على مصالح الولايات المتحدة”. وهذا يجر إلى تســاؤل مقلق: إذا كان ولي العهد محمد بن سلمان، يقوم بهذه التصرفات وهو ولي العهد فقط، كيف سيكون الوضع إذا تولى العرش؟”.

لقــد بــدأ مســؤولون فــي الدولــة العميقة في واشــنطن يقولــون لا يمكــن لدولــة ذات اقتصــاد محــدود لا يتجاوز اقتصاد مدينة واحدة مثل لوس أنجليس وتبادلها التجاري مع الولايات المتحدة لا يرقى إلى دولة متوسطة تبدو وكأنها تتحكم أو تعيق سياسة واشنطن في الشرق الأوسط”.

وفي ظرف أيام معدودة، تناسلت تصريحات المسؤولين الأمريكيــ­ن مــن الرئيــس دونالد ترامــب إلى وزيــر الدفاع ماتيس ووزيــر الخارجية بومبيو ومستشــار الأمن القومي بولتــون، لكن التصريح الأبرز يبقى للســيناتو­ر الديمقراطي بيرنــي ســاندرز، بقولــه ملــف خاشــقجي أهم مــن أرباح شــركات الأســلحة”. وهناك توجه لفرض عقوبات أمريكية وغربية على السعودية ومسؤولين فيها من تجميد صفقات الأســلحة إلــى عقوبــات مالية ضــد أمــراء تطبيقــا لقانون ماجنتســكي الذي يســمح للإدارة الأمريكية فرض عقوبات على أجانب متهمين في جرائم قتل وخرق حقوق الإنسان.

الموقف الأمريكي من ملف خاشقجي، هو موقف مزدوج، فئة تنطلق للدفاع عن حقوق الإنســان وهي موجودة وسط الإدارة الأمريكيــ­ة ووســائل الإعــام والــرأي العــام، وفئة أخرى تنتهز الفرصة التاريخية لتأديب الســعودية وتحديد مســاحة تحركها مســتقبلا في القضايا الدوليــة وترى في الكونغــرس أحســن أداة لمواجهة أي تنــازل للبيت الأبيض مســتقبلا في هذا الملــف. وكل المعطيات تشــير إلى تصعيد أمريكي ضد العربية السعودية في ملف خاشقجي لسببين وهما:

- انفــات الملــف مــن دائــرة السياســة المحصــورة في المخابرات والدبلوماس­ــية والبيت الأبيــض إلى دائرة الرأي العــام الأمريكي والغربــي عموما. وتاريخيــا، عندما تصبح قضية ما تشــغل الرأي العام ينصاع السياسي بحكم توفر الــرأي العام على ســلطة صناديق الاقتــراع خاصة إذا كان الحــدث قريبا زمنيا من موعد انتخابي، كما هو الشــأن الآن فــي الولايــات المتحدة مــع الانتخابات التشــريعي­ة الشــهر المقبل.

- هشاشــة اللوبــي الموالــي للســعودية فــي الولايــات المتحدة، لقد اســتثمرت الرياض أموالا باهظة خلال العقود الأخيرة لكسب التعاطف والمدافعين عنها، وها هي اللوبيات تتراجع أمام قوة الرأي العام. والمثير أنه حتى إسرائيل التي تعهدت بالدفاع عن قضايا الســعودية بسبب دعمها لصفقة القرن تتراجع وتتحفظ الآن.

الاتجاه الداخلي

وهنــاك توجه آخر لملف خاشــقجي داخليا ولم يتبلور حتــى الآن بالشــكل الكافــي بســبب تركيز الإعــام على الشــق الدولي للقضية. وهكذا، فعلاقة بالداخلي: تواجه الســعودية أخطر حادث منــذ مقتل الملك فيصــل بن عبد العزيز سنة 1975، لكن مع فارق شاسع بين الحالتين. لقد أدى مقتــل الملك فيصل إلى تعاطف دولي كبير ولاســيما في العالم الإســامي الذي كان يــرى في الجريمة مؤامرة علــى مصالح العرب والمســلمي­ن. واكتســبت الســعودية احترامــا ومكانــة أكبر ومنذ ذلــك الوقت نافســت مصر علــى زعامــة العالم العربــي خاصة بعد وفــاة جمال عبد الناصــر ثم توقيــع القاهــرة علــى اتفاقيات الســام مع إسرائيل. والآن يحدث العكس في حالة مقتل خاشقجي، بــدأ الســعوديو­ن والأمــراء يرون فــي محمد بن ســلمان الشــخص الذي يتســبب في إذلال العالم للســعودية في المنتظم الدولي بشكل لم يسبق نهائيا حدوثه.

بدأ أمــراء كبار وبحــذر كبير يطلبون من الملك ســلمان تولي الإشراف الشخصي على حل هذه الأزمة رفقة أمراء لهم تجربة مثل تركي الفيصل، مع ضرورة أحداث انفراج وسط العائلة الملكية بإطلاق سراح جميع الأمراء المعتقلين وحريــة الحركة للآخرين علاوة على الإفراج عن نشــطاء المجتمع المدني. وفي هذا الصدد، يأتي ترؤس الأمير خالد الفيصل، الوفد الســعودي لتركيا للتباحث مع مســؤولي أنقرة، وخالد من جيل الأمراء المخضرمين وليس من جيل الأمراء الجدد الذي يعتمد عليهم ولي العهد.

ووفق معلومات لصاحب المقال، بدأ محمد بن ســلمان يــدق باب الأمــراء مثل تركــي الفيصل والوليــد بن طلال لتوظيــف علاقاتهم الخارجية لتخفيف الضغط الخارجي علــى البــاد. وتبقــى الخلاصة التــي لــدى مجموعة من الأمراء أن المحافظة على السعودية وتفادي عقوبات يمر بالضرورة عبر التغيير في هرم الســلطة، أي ولاية العهد، حيث سترفض الدول الكبرى مستقبلا استقبال ملك يداه ملوثة بالدم”.

في الوقــت ذاته، يحمل هــذا الملف انعكاســات أخرى ومنها تعزيز المعارضة السعودية في الداخل وفي الغرب التي ســتصبح رقما فــي أي معادلة سياســية في البلاد خاصة إذا أدركت كيف تستغل هذا الملف.

في غضون ذلك، ملف خاشقجي بكل تفاعلاته خاصة الاســترات­يجية داخليــا وخارجيــا هو بالنســبة لحاضر ومســتقبل الســعودية مزيج من تركيبة بــن البوعزيزي مفجر الربيع العربي وبين قضيــة لوكربي التي حاصرت ليبيا لسنوات طويلة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom