Al-Quds Al-Arabi

دستويفسكي فيلسوف فنان خبر مصائر الحياة وأقدارها المتقلبة

- ٭ كاتب عراقي

■ من منّا لم تسكنه روح دستويفسكي المتمردة والضاجــة بالشــكوك، أو المرهقــة فــي أســئلتها الوجودية الكبرى، من منّا لــم يتوقف أثناء قراءته لروايات دستويفســك­ي ليغوص في أعماق نفســه وذاكرته، وكأنه عاش تلك الأحداث والشخصيات فــي زمن مضــى، أو شــعر أن دستويفســك­ي يقدم تحليــا باطنيا لهواجســه ومخاوفــه المتصارعة. كانــت ذاكــرة دستويفســك­ي مليئــة بالحكايــا والأحــداث التــي عاشــها فــي طفولتــه وشــبابه. الذاكــرة ومــا تحويــه مــن خزيــن هائل مــن الألم والمعانــا­ة، كفيلة بأن تخرج لنا هــذا الألم على هيئة رموز وصور وشخصيات متحركة في دائرة الزمن البشــري، وكيف ترى العالم من منظورها الداخلي ورؤيتها الخاصة.

ولد دستويفسكي في 11 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1821 في موســكو وهو الابن الثانــي لوالديه، وهو مــن عائلــة ليتوانيــة نبيلــة متعــددة الأعراق والمذاهب الدينية، انقســمت بين الكنيسة الروسية الأرثوذكسـ­ـية والكنيســة الكاثوليكي­ــة الرومانيــ­ة والشــرقية وكان أجداد والده ميخائيل رجال دين، أما من جهــة أمه فكانوا تجارا. قرأ دستويفســك­ي الآداب العالمية والأساطير والملاحم في سن مبكرة من عمره إضافة لدراســته تعاليــم الكتاب المقدس، وكان الفضــل الأول يعــود لوالديــه، ثــم لمربيتــه ألينــا فرولوفنا التي أثرت عليه كثيــرا في طفولته. كان الطفــل النحيل ذو الوجه الشــاحب انطوائيا، ومعزولا عــن أقرانه الارســتقر­اطيين في مدرســة موســكو، وقد علقت في ذهن هذا الطفل حتى كبره حوادث ومشــاهد مؤلمة تجلت في رواياته «الأخوة كرامــازوف »، «المراهق» و«الجريمة والعقاب ». فقد ترعرع في منزل العائلة قرب مستشفى ماريانسكي للفقــراء، الــذي يعتبــر مــن الأحيــاء الفقيــرة فــي موســكو، وكان يرى خلال لعبه في حديقة المشفى معانــاة المرضــى المتألمــن مــن الفقــراء والطبقات المســحوقة. وعندمــا كان فــي التاســعة من عمره تعرضت فتاة للاغتصــاب أمام عينيــه من قبل

رجــل مخمــور، وظلــت هــذه الحادثــة تؤرقــه طويلا في حياته، وقد ظهرت شــخصية هــذا الرجل في عدد من رواياته وأعماله الأدبية.

ظهرت أولى علامات الصرع على دستويفســك­ي أول مرة وهو في الثامنة عشرة من عمره عندما علم بوفاة والده عام 1839 ورافقه هذا المرض في سجنه وفــي مراحل حياته المختلفة. عرف دستويفســك­ي المــرض والفقــر والمنفــى والســجن، وواجه لحظة الإعــدام المرعبــة فــي ســيبيريا عندمــا كان منتميا إلى رابطة «بيتراشيفيس­ــكي» المعارضة للاستبداد القيصــري فــي روســيا، وكان يصــف اللحظــات المصيرية في حياة البشــر، ويرصــد التحولات في عمــر الإنســان والوجود بكل مــا أوتي مــن دموع ومن صدق إنســاني، وبخبرة المتأمل العميق الذي شــهد مصائر الحياة وأقدارها المتقلبة، فكان بحق مؤرشفا للذاكرة الإنســاني­ة في عالم مجنون يطفو على سطح من الغرائب والتناقضات.

الأب الروحي للرواية النفسية

العــودة لقــراءة مؤلفــات دستويفســك­ي فــي فتــرات متباعدة مــن عمرنــا، هي اســتعادة لجزء كبير من براءتنا المفقودة ولزمن لم يعد ملكنا. عالم دستويفســك­ي رحلة طويلة وشــاقة إلــى البواطن المجهولــة والخفيــة، وانعتــاق ســاحر للذاكرة من كوابيسها وأوجاعها المضنية.

تتميــز روايــات دستويفســك­ي بالحضــور والتجــدد فــي كل زمان ومــكان، فهــي بالإضافة لطابعهــا الفلســفي والتأملــي، تقــدم للإنســان معرفة مقرونة بالعمــل والتطبيق، وعلاجا روحيا يساعد على تطهير النفس مما علق بها من شوائب وأمراض اجتماعية ونفســية، وتســاعد على هدم الذات القديمة وبنــاء ذات جديدة متحررة من الأنا ego(

) وأوهامها. إن النفس البشــرية بكامل تقلباتها وصراعاتها وتناقضاتهـ­ـا، تجدهــا حاضــرة فــي روايــات دستويفسكي، فهو مشرّح عميق للنفس الإنسانية ومصيرها في عالم متناقض ومرعب. كما أنه يقــدم لنا تحليــا ثاقبا للحالة السياســية والاقتصادي­ــة والدينيــة لروســيا في القرن التاســع عشــر، من خــال تفكيكــه لبنية المجتمع الروســي وتســليط الضــوء علــى نماذج مهمشــة ومســحوقة داخل هــذا المجتمــع، فكان أغلــب أبطال رواياتــه من المجرمــن والفقراء والمنبوذيـ­ـن. فهــؤلاء علــى الرغــم مــن شــرورهم وعتمات نفوســهم إلا أننا نســتطيع أن نرى وهجا يضيء هــذه العتمــة، وخيــرا دفينا فــي الأعماق، غيبتــه الأعــراف والتقاليــ­د والكبت اليومــي الذي يمارســه المجتمــع علــى رغبــات الإنســان. يقــول الناقد والأديب الروســي فلاديميــر دنبيروف: «إن قراءة روايات دستويفســك­ي تعتبر حدثا في حياة الإنســان. فعندما نقرأ كتبه نلج عالما شــعريا على درجــة عالية من التكثيــف والتركيز، بحيث يضيء أفق الحياة الفعلية بوهج المعاناة الفنية الهائلة، ولا نعود نرى العالم كما كنا نراه سابقا».

أمــا الشــاعر المكســيكي أوكتافيو بــاث فيقول: «حتى بعد وفاته بمئة عام يظل تأثير دستويفسكي ينمــو ويتســع، بــدءا بــأرض وطنه، حيــث حظي بالاعتــرا­ف بــه وهو علــى قيــد الحيــاة ، وامتدادا إلى بلــدان أوروبا وأمريكا وآســيا. وهذا التأثير لا يقتصر على الأدب وحده بل يمس نمط الحياة فكرا ويتصور مئات آلاف القراء في شــتى أنحاء العالم أبطاله وكأنهم معارف قدامى.»

عبقرية مضيئة على مر الأزمان

تكمــن عبقرية دستويفســك­ي وهو يســبر أغوار النفــس البشــرية، فــي أنــه يحــاول الإجابــة عن الأسئلة الفلسفية الأزلية التي أرقت الإنسان وأزمة وجوده على هــذه الأرض، فمن خــال معاناته مع مــرض الصرع كانت تــزداد رهافة دستويفســك­ي وإحساســه بآلام النــاس وعذاباتهــ­م، فعدم كمال هذا العالم دفع به للولوج إلى جوهر الشــر والخير عند الإنسان، من خلال رسم شخصيات مشحونة بجو من صــراع التناقضات والثنائيــ­ات: كالمثالية والماديــة، الأخــاق الثوريــة والمســيحي­ة، الإيمان والإلحاد، العقل والعاطفة، وما يرافق هذا الصراع من أقدار ومصائر.

دستويفسكي الذي فاق ســيغموند فرويد عمقا وتحليلا في نظرياته النفســية، والذي علم نيتشــه أن يكــون ســايكولوج­يا، يعلمنــا أن المحبــة في كل ذرة مــن ذرات الكون وفي كل حركة دؤوبة في هذا العالم. المحبة عنده هي أن تنتقم بقوة التسامح، أن يكــون قلبك ينبوعــا طاهرا يغســل صليب الخطايا التي تناســلت فــي أوهام عــدوك، أن تبلــغ روحك ذروة الكمــال والخلود، لكي تتحرر من وطأة الزمن ويتمثل فيك الإله على هذه الأرض.

فــي 26 يناير/كانون الثانــي 1881 عانى فيدور من تمزق رئــوي حاد ولم يســتطع الأطباء علاجه. فــارق فيدور دستويفســك­ي الحياة فــي 9 فبراير/ شــباط1881 بعد صراعــه مع المرض، وقد نقشــت على شــاهدة قبره عبارة من إنجيــل يوحنا: «الحق الحــق أقول لكم إن لم تقــع حبة الحنطة في الأرض وتمــت.. فهي تبقــى وحدها، ولكــن إن ماتت تأتي بثمر كثير .»

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom