Al-Quds Al-Arabi

خارج الموضوع

- ٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كنّــا نخشــى ونحن تلامــذة فــي المــدارس والمعاهــد وطلبة في الجامعة أن يكتب لنا المدرســون على ورقة الامتحــان عبارة «خارج الموضــوع»؛ عبارة تعني قبل كلّ شــيء الحطّ من العدد المســند إلى أدنــى المســتويا­ت، وأنّ الممتحــن كان في وادٍ غيــر ذي زرع، ولكنّها تعنــي مــن قبل ومــن بعــد أنّ للموضوع الــذي اختبرنا فيــه داخلا وخارجا، وأنّ الوقوع في الخارج ســقوط مُخْزٍ ونفيٌ خارج أســوار الموضوع وأنّ الخروج عن الموضوع هو أشـّـد خطرا من الخروج على الإجماع عند الفقهاء أو النّحاة.

ليست عبارة «خارج الموضوع» عربية الرّوح ولا قديمة الثياب هي عبارة غريبة نشــأت طفيلية وترعرعت في خصب تربتنا المدرســية؛ الثقافــة العربية القديمة كانت في أغلبها ثقافة موســوعية ولم يكن للموســوعي­ة حــدود تلتزم بها فمــن الممكن أن يحدّثــك النحوي عن الفقه والفقيــه عن النحو والبلاغي عن العروض؛ وكان الاســتطرا­د القليــل أو الكثيــر مباحا ولم يســمّه أحد خروجا عــن الموضوع. أمّا الأدب فكان يســتملح «الأخذ من كل شيء بطرف» ولولا الاستطراد فيــه ما وجدت آثــار بأكملهــا، فعلى ســبيل المثال كتب أبــو العلاء «رسالة الغفران» بقســميها الرحلة والردّ، وكان يعي أنّه كان يسير فــي الرحلة «علــى غير منهج» وحــن كُتب للرحلة أن تتــمّ قال: «قد أطلت في هذا الفصل ونعود الآن إلى الإجابة عن الرســالة» (رسالة الغفران(.

للموضوع في أيّ ســياق علمي أو أدبيّ مقوّمــات لغويّة وفكرية تصنعه وتســيّجه، فالعلوم مثلا تســيّجها مفاهيمهــا ومتصوراتها ونظرياتهــ­ا وأحكامهــا، ويبدو فــي رأي كثيريــن أنّ دور اللغة فيها قليل، وهذا تصوّر يفصل بين اللغوي والفكريّ، وســاد هذا التصور آمــادا، لكنّه تصــوّر ظالم لدور اللغــة أو للدور الإعلامــي عموما في الخطابات العلمية، والغريب أنّ الانتباه لخروج العالم عن الموضوع عــادة مــا يحتجّ لــه بالوســائل اللغويّــة. فمن أبــرز أدلتهــا الجهاز الاصطلاحــ­ي وهــو دليــل لغوي يكــون شــاهدا قويا علــى مغادرة موضــوع الاختصــاص إلى غيــره، بأن يســتعمل العالــم عبارات لا تنتمي إلى حقل اختصاصه أو تشــترك فيها مع غيره، فعلى ســبيل المثال كان النحــاة العرب خارج أطر بحثهم، حين تحدّثوا عن المنطق وناقشــوا مســائل الظاهــر أنّها مشــتركة دخلــوا إليها مــن بوّابة المشترك الاصطلاحي.

في الســياق المدرســي يعني الخروج عــن الموضــوع تفريطا في المنهج القويم؛ والمنهج هذا مســألة عويصة حتى لكأنّها مســألة من الماورائيّــات الهلاميّــة. أغلب حــرّاس حدود الموضوع والمســجلي­ن خطايا الخروج منه يســعون إلى تبريــر الخروج بذكر أدلة على عدم الارتبــاط بالمنهج الذي قــدّروا أنّه المنهج القويم، ولكــنّ أغلب الأدلّة تظلّ تقديرا وتعييرا. في العلوم الإنسانية تظل مسألة المنهج مسألة ذوق علمــي، فلا هو علميّ خالص، كما في مناهج العلوم الصحيحة ولا هو ذوقي خالص الذوقية، كما الشأن في تذوق الفنون والآداب؛ لذلك تظل كثير من التسميات المنهجية في هذه الاستعمالا­ت أحيانا بدون مسمّى دقيق.

قلّما درّســونا وقلّما درّسنا شيئا عن أدلّة الخروج على الموضوع خطابيّة يمكن أن تكون حججا من داخل الخطاب عن الخروج؛ أدلتنا إن وجــدت هي أحكام عامة بها كان الخروج عن الموضوع جناية بلا دليل وبالتالي كان الدخول في الموضوع مكرمة بلا شاهد.

كثيــر ممّــا يصطلح عليــه بالخروج عــن الموضوع هو ســوء فهم للموضوع. وســوء الفهم ليس مســؤولية أحاديّة الجانب حتى إذا كان الممتحن المقصّر الوحيد. إن لم أفهم موضوعا في سياق مدرسيّ فيعني أنّي لــم أتمثّل أطروحاته جيّدا وعندهــا إمّا أن تكون أدواتي الإدراكيّــة أقــلّ من ذلــك المســتوى، وإذن فماذا أفعل في مســتوى لا أســتحقّه؛ وإمّا أنّ الســياق المدرســي لم يســمح لي، أنا ضعيف الإدراك، بأن أســتوعب مســائل الموضوع مثلما يستوعبها غيري أو أنّ خطابَ مُدرّســي هو أعلــى درجة مني فإذن المســألة بيداغوجية تعليمية فيها شــيء من عجز الطالب عن استيعاب خطاب تعليمي لا يوضّــح كثيرا أو لا يوضّح إلاّ لفئة عالية الإدراك. وعندئذ حين يكتب لي «خارج الموضوع» بمعنى أنّني لم أفهم هل أنا الوحيد الجاني في الحكاية؟

حــن لا أفهم يمكــن أن يكون ذلــك موقفا مني ممّــا يعلّمونه لي، أو مــن لغة التعليم التي ينقلون بها المعــارف. فكيف أتعلّم مثلا بلغة أجنبيــة لا أتقنهــا جيّدا أو لا يتقنهــا معلّمي، والخَسَــار الأكبر حين أكون أنا أفضل مستوى في اللغة من مدرّسي فسأمضي الوقت في الصيــد والقنص: صيد أخطائه وقنص عثراته؛ وعندها هل ســيظل عقــد الثقة الــذي يربطني بالمعرفة عبر مدرّســي قائمــا؟ القناة التي ننقــل بها المعارف خيط ضعيــف في تعليمنا بما فيهــا اللغة الناقلة والأســلوب الناقــل؛ نقاط ضعف في درســنا قد تكون من أســباب تعطّل الفهم الذي يكمن وراء ما يسمّى «الخروج عن الموضوع».

لمــاذا لا يكتب أســتاذ الرياضيات حــن يخطئ الممتحــن «خارج الموضوع» فهذه عبارة غير ذات موضوع في هذا الاختصاص. يكافأ التلميذ على التمشــي الصحيح حتى إن كانت النتيجة خاطئة؛ بينما يتســقط أســتاذ الآداب والإنســان­يات عثرات الممتحن ويعدّ العمل خــارج الموضوع؟ لماذا حين يكــون الممتحن مخطئا فــي الرياضيات يقتنــع بخطئه عند الإصلاح، ولا يشــعر بالفاجعة التــي تصيبه بها ملاحظــة من كتب في امتحــان الآداب خارج الموضــوع؟ هل الآداب حقّا خلافيّة وغير دقيقة الحدود إلى هذا المســتوى؟ أم أنّ مناهجنا في تعليمها وفي تقييمها تحتاج إحكام النظر؟

فــي أحيان نــادرة ولكنها موجــودة يمكن أن يكــون الخروج عن الموضــوع في بعض المــوادّ الفكرية كالنّقد والفلســفة مــردودا إلى طريقة أخرى في التفكير، مشــروعة بقطــع النظر عن التزامها بروح الانضبــاط الأكاديمــ­ي، أو عــدم التزامها به؛ لكنّ المقيّمــن إن كانوا من حــرس الفكر القديم عــدّوه تهويما وخروجا عــن الموضوع. في الســياق الأكاديمي من الممكن أن تراقب الأفكار من جهة موضوعية ولكن يمكــن أن تراقب أيضا من وجهة غير موضوعية ولكن بلحاف الموضوعيــ­ة، ولا يمكن التفطّن لذلك إلا قليلا، ويمكن التفطن له ولكن يغــض عنه النظــر خوفا أو طمعــا. مراقبة الأفــكار ومناهج طرحها ونقدها مسؤولية أكاديمية شــرعية وهذه مهمّة سامية للجامعات؛ لكن أن تصبح المراقبة محاكمة فتلك جناية فكرية.

صحيــح أنّ مناقشــة رأي بــرأي لا يناســبه أو إســقاطه عليه أو عــدم فهمه هو من الأخطاء المنهجيــة، وصحيح أنّ التعصّب الفكري هو مردود شــكلا ومضمونا في البحوث، لكنّه لا يدخل تحت طائلة الخروج عن الموضوع؛ بل يجب أن يسـّـمى باسمه الدّقيـــــق ويشار إليــه بحججه. لكــنّ بناء الذات الفكــــــ­ـرية بمخالفــــ­ــة رأي ســائد وبدفعــه بالحجــج العلمية الكافية لا يمكن أن يعدّ إلاّ تأسيســا لفكر آخر ينبغــي للجامعــة أن ترعاه، حتــى لا تتهم بالمحافظــ­ة وبرعاية الفكــر القــديم. بعــض الخــروج عــن الموضــوع، إن كان يحتكم إلى الحجــة والبرهان هو دليل فكر وقّاد وعلينا في الســياق المدرســي والجامعي أن نشــجع عليه لأنّه برهان على أنّ العقل يريد أن ينشئ ســياقا فكريا خاصــا علينا أن نرعاه. إن وقع في نفســك الآن وأنت تقرأ المقال أنّي خارج الموضوع؛ فالحمد للّه لك ولي على السّـــــامة لا على الاختلاف.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom