Al-Quds Al-Arabi

باحتجاب «الأنوار» البيروتيّة تَدَاعىَ صَرْحٌ للصّحافة

- محمّد محمّد الخطّابي٭ *كاتب وباحث من المغرب

منــذ أن جاءنا الخبر الصّادم عن احتجاب جريدة « الأنــوار» البيروتيــ­ة التــي كانت تصدر عــن أعرق دار لنشــر الثقافــة، والفكــر، والعلــم، والصحافــة، والفنــون، والآداب فــى لبنــان، ألا وهــي ) دار الصيّــاد( الشّــهيرة التي تأسّســت عــام 1943 على يد الكاتــب والصّحافــي اللبناني المعــروف الراحل ســعيد فريحة. كان يعمل فى هذه الــدار صفوة من الكتّــاب، والمفكرين،والفنانــن، والصحافيّين الذين كانــوا يُخرِجُون لنا من جــوف مطابعها ثمراتٍ ثرّة، وحصاداًهائــاً مــن الكتب ،والمجــات، والصحف، والمنشــور­ات التي طالمــا غذّت فكر أجيــال متعاقبة، وأنعشــت أفئدتهــم، ووجدانهم، وصقلــت عقولهم ،كانت تصدر عن هذه الدار تســع مطبوعات، أبرزها جريدة «الأنوار» ومجلة «الشــبكة» الفنية التي كانت من المجلات الرّائــدة في لبنان . وأخيــراً حدث ما لم يكن فى الحُسبان ،كيف أمكن لهذا الصّرح أن يتداعى نصــب أعين الجميــع ولا يحرّك أحد مــن ذوي المال، وصفــاء البــال، وعلوّ الهمّة والجاه ســاكناً ســوى هذا السّيل العارم ممّا رأيناه، وسمعناه،وقرأناه من كلمات العتاب ،والحسرة، والألم ،والأسف، وأخيراً الصّمت.

الكلمة الحرة

إننا نأســف علــى حــال الكلمــة الحــرّة المكتوبة المكســورة الجناحيْــن في هــذا العالــم العربي الذي نســمّيه إعتباطاً وبهتاناً «الوطن العربي» ..!إنه أمرٌ يكاد ألاّ يُصدّق، كأنه أضغــاث أحلام تراءت لنا فى كوابيس مزعجة فى جنح ليلٍ بهيم، « الأنوار» ستظلّ اســماً لامعاً، ونجمــةً ســاطعة فى عالــم الصحافة والثقافــة والإعلام فى العالم العربــي، فأنوار الفكر والثقافــة لا تنطفــئ « أضواؤها « بســهولة ويُســر، فمن في مقدوره إطفاء قبس من نور الشمس..؟! بعد توقف جريدة «السفير» عن الصدور فى مطلع العام الحالي 2018، وإقفال جريدة «الأنوار»، يتراجع عدد المطبوعات السياســية اليومية التي تصدر في لبنان إلى 10 مطبوعات.

ولقــد حثّت «نقابة محــرّري الصحافة» فى لبنان :» المعنييّن في قطاع الإعلام على تنوّع اختصاصاته علــى ضــرورة التحــرّك مــن أجــل إنقــاذ الصحافة الورقية وإقالتها من عثرتها، ودعمها مادياً ومعنوياً لأنهــا جــزء لا يتجــزأ مــن تاريــخ لبنــان ،وذاكرته الوطنية والفكريــة والأدبية والثقافيــ­ة، التي قدمت مواكــب الشــهداء الذين ســقوا بدمهــم الزكية نبتة الحرية، والتعامل مع هذا الموضوع بما يســتحقه من جديّــة قصــوى، وأن لا يبقى الدّعم فــي إطار الكلام الذي لا يقوم على خطة عملية وموضوعية».

كانت « الأنوار» التي واكبنا صدورَها ،وأســهمنا فيها بقســطٍ وافر منذ ســنوات بعيدة خلت... كانت منبــراً ثقافيــاً رفيعاً ، ومنــاراً أدبياً بديعــاً ، وواحة فكرية نتفيّأ ظلالها ، وكانت أغصانها الفيحاء ترشّ علينا عطرَ الشــرق العبق الفــوّاح، كانت صفحتها « الثقافية» على وجه الخصوص دوحة معرفية وارفة تحنو علــى قرّائها ، وقارئاتها حنــوّ المرضعات على الفطيــم، تصدّ عنهم قيظ الشــمس أنّــىَ واجهتهم، فتحجبها وتأذن لهم بالنّسيم ، تقيهم لفحة الرّمضاء ،وتشــفي غليلهم من ظمأ ،وعطش، وهيــام المتيّمين الوالهين هــوىً وصبابةً وعشــقاً بالحرف النابض، والكلمة العذبة ، والأدب الرّصين ،والفكر الخلاّق.

كانــت صفحة «الأنوار» الثقافيــة تتميّز بجاذبية ســحرية غريبــة، فأنت عنــد زيارتــك الأولــى لها لا تســتطيع منها فكاكاً ، تكاد أن يتوازى وَلَعُك بها مع قهوة الصباح عند غسَق الدُجىَ، أو مع شاي الظهيرة، أو مع كأس الطلى عند شــفق المساء، وهي على غنى مضامينهــا، وثــراء مواضيعها،وتبايــن حقولهــا ،وتعدّد مشــاربها ،وتنوّع ينابيعها تجعل بينك وبين الرتابة والملل برزخاً واســعاً، ويمّاً شاسعاً، وتجعل بينك وبين الإســتمتا­ع، والإســتغو­ار، والإســتكن­اه، والإستبطان، والإنغماس في روائع المعرفة والعلوم والعرفــان، آصرة هي قاب قوســن منــك أو أدنى، كانت ملتقــى الكتّاب والمثقفــن الُمجدّدين، ليس في لبنــان وحــده، بــل فــي مشــارق الأرض ومغاربها، كانــت قبلــة للباحثين المســتنير­ين، ومنبــراً للأدباء والمفكرين، وســوقَ عــكاظٍ للشّــعراء والفنّانين من كل صــوب وحدب، وكانــت معرضاً حيّاً،وســاحة نقــدٍ نابض للوحــات المبدعين التشــكيلي­ين ، ومنهلاً لذخائر التراث العربي والإنساني.

عمق الرسالة

واسمُ «الأنوار» دالّ علي عمق رسالتها التنويرية الشــمولية الرّفيعــة ، تألقت بفضل همّــة صفوة من خيــرة الُمبدعــن والُمبدعات من فرســان وفارســات اليــراع والإبــداع ، ونخبــة مــن المثقفــن، والمثقفات الذين بذلــوا جهوداً مضنية ليخــرج علينا ذلك المنبر الثقافــي كلّ يوم فى تلك الحلّة القشــيبة، والهندامٍ البديــع، هذا النبع الذي أشــعّت علينــا « أنوارُه» منذ 1959، والذي بعد أن شبّ عن الطوق واستوى واقفاً مُشرئباً وأصبح قويّ العود ساهراً مثابراً، وبعد أن تجاوز غيــرَ قليلٍ من الصّعاب والعقبات، التي كانت تواجه مشــروعه الصحافي،والإعلامــ­ي، والثقافي الطمــوح ، وبعد أن تبوّأ مكانة مرموقة، ومنزلةً لائقة في الســاحة العربية المعاصرة، بعد كلّ ذلك جاءته الضّربــة اللاّزبة من الأقربــن، وضربة الأقربين هي أشــدّ إيلاماً ومضاضةً على النفس من وقع الحُسَام الُمهنّــد!. «نقابــة محــرّري الصحافة» تأسّــفت لقرار التوقف، معتبرة :» أنّ توقف مطبوعات «دار الصيّاد «عن الصــدور بعد القــرار المتخذ من أصحــاب الدار بإغلاقها تباعاً حتــى الاحتجاب النهائي، نبأ صادم للأســرة الصحافية والإعلاميـ­ـة في لبنــان والعالم العربي. و تأســف النقابة أن تلقىَ هذه الدار العريقة مثــل هــذا المصيــر، خصوصــاً أن نتائج هــذا القرار ستكون قاسية جداً على عشرات الزملاء والعاملين فيها الذين ســينقطع مورد رزقهــم، ويدخلون نادي العاطلــن عن العمــل». وتــرى النقابــة : «أنّ ما حلّ بدار الصياد وبمؤسّســاتها الصحافية والإعلامية ، يعكس مدى إهمال الدولة لقطاع الصحافة الورقية، وبقــاء مشــروعات الدعــم التــي وعــد المســؤولو­ن المعنيّــون بتحقيقهــا شــعاراً فارغاً مــن أيّ مضمون يلجــأون إليه في بعض المناســبا­ت، من دون الإقدام على أيّ خطوة عملية».

تحيّــة أيتهــا «الأنــوار» السّــاطعة، ونأســف من جانبنا كذلك أسفاً شــديداً عن الأخبار الُمزعجة التي انتهت إلى علمنا،كما نأســف عــن الظروف الصّعبة التي شــاءت الأقدار أن تواجه هذه الصحيفة الغرّاء، ولا غــرو، ولاعجب فهــذا حال عالمنــا العربي، وهذا حال مــا يحدث فيه مــن غرائب،وعجائــب، فكم من تجربة رائدة، و مبادرة ناجحة ســدّوا عليها الخناق بلا شفقة ولا رحمة واغتالوا فيها «الحرفَ» العربيّ النقــيّ الذي كانت ترعاه، إنهم بعدم مســاندة ودعم هذا المنبــر الصحافي والإعلامــ­ي والثقافي الرّصين وأمثالــه إنما هــم يكتمون أنفاسَ المثقفــن فى لبنان والعالــم العربــي ،ويحبطــون رغبتهم فــي مواصلة الخلْــق والعطــاء ، بعــد أن أصبحت الكتابــة عندهم في هــذا الزّمن الرديء هــي الِمعول والِمنجــل اللذان تحملهما أيديهم بالكاد .

شــكراً أيتها «الأنوار»، شــكراً للعديد من كتّابكِ، ومثقفيــكِ، ونقّــادك، وشــعرائك،وعمّالك، وســائر أفــراد طاقمك الذيــن داومــوا على العمــل والكتابة فــي فضائــك التنويــري المضيء ، حيــث كانت حبّ الكلمة الجميلة الحرّة الهادفة الملتزمة ديدنهم،وكان الإنفتاح والتســامح والإخاء هدفهــم . كان إعجابي كبيــراً بهذه النافــذة الثقافية الكبرى الُمشــرعة التي كنّا نطــلّ من خلال شــرفاتها الفســيحة على لبنان الجميــل وعلــى كلّ بديع رائــع ، وجميــل جليل فى عالم الخلق والعطاء، والفنون ،وإلإبداع فيه قرّاءً، وكتّاباً،وشــعراء، وفنّانــن ،ومبدعــن- حدائــق غنّاء ،وبســاتين باســقة تغصّ بباقات ،ومزهريّات تتألق،وتتأنّق، وتينع وتزدهي بكل صنوف الأزهار النّضرة، والــورود الناعمة فى رقــة وأناقة، ورونق وبهاء. آهٍ علــى هذا العالم العربي الُممزّق الأشــاء، والُمشــتّت الفكرالذي قيّضَ لنا الجَــدُّ العاثرُ، والحَظُّ الغــادرُ أن نعيش فى كنفه والــذي إنْ لم نجد فيه مَنْ يدعــم أو ينقذ مثل هذه المنابــر الصّحافية والثقافية التي تتهاوى أمام أنظارنا فسلامٌ عليه، وسلامٌ على الكلمة الحرّة فيه إلى يوم يُبعثون..!

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom