Al-Quds Al-Arabi

سوريا: إقطاعيو الثورة ومُرابعوها

-

يبــدو العنوان هنا تَهكمياً ومتبرّماً في جزئه الثاني على الأقــل )حيلهم بينهــم(، مع أنَّ مشــاقِ الموضــوع وأهميته تقتضــي جديةً ما فوقَ الجديةِ، لكن يقال دوماً "شــرُّ البلية مــا يضحك"، فكيفَ إذا كانت بَليةً مبكيــةً لارتباطها بملايين الناسِ المخذولين في ضفةِ الحاكم المســتبد، وعلى ضفةِ من "ثار" عليه. ثماني سنواتٍ كانت كفيلة بأنّ تصنع الإقطاعيــ­ن والمرابعين الذين يأخذون من جمل الإقطاعي إذنه، فسـّـبحوا باســمه وصارت طاعته فرض عين لا فرض كفايةٍ، وهــؤلاء "الثويريون" والكلمة تصغير لثائر، هم بالأســاسِ شــكّلوا جيشــاً عاطلاً عنِ القتال، بعــدَ أنْ كانوا في الأســاس منفذيــن جيديــن لرغبــةِ الســيد وضاربين بســيفهِ إمّا لضمــانِ بعضِ المكتســبا­ت المســروقة ومنها النفط والمعامل والقمحُ المخزّن في الصوامعِ، حتى وصلت الحــال بالطفلين الســوريين في البحث بــن الأتربة عــن فتافيت الخبز، وعدّهــا نعمــة وتركها نقمــة وتفريــط بالحاجاتِ، فــي وقت ملايــن الدولارات كانت تضّــخُّ لإنقاذ الطفل والمحتاج وتخفيف الأعباء، ولــم تقف الحال هنا فباع العســكري بارودتهُ، التي غالباً ما أشــهرَت ضدّ "أخوة المنهــج" أكثر مما وجهَت ضــدّ القاتل الحقيقي "آل الأســد" وداعميهم الصادقين معهم، في حين اســتثمرَ العالــمُ كلّه رخاوةَ "تجّة" ســروالِ المعارضِ )العنيد(، البائع الــذي رآه الداعمون بدايــة نداً، ومن ثمّ ضيفاً بما يترتّــب على المضيف من واجبات وحقوق للضيف، وبمــا يترتّب على الضيف من آداب احتــرام الضيافة، لتتحول في ما بعد العلاقة إلى سيد/ عبد، بما يتوفّر في هذه العلاقة من امتهان واستلاب عظيمين.

)حيلهم بينهم( لم يُسقط فقط "سوريا" الدولة/ المستقبل من القاموس العملي للثورةِ التي رآها الكثيرون قد حققت شرط الانتصار، وانتصر فيها السوري على ذاتــه المهزومه، قبلَ انتصاره على قاتلهِ، ليكونَ هــذا التحولُ وجدانياً فيه الكثير مــن المثالية أكثر من الواقعيــة، ولعلّ هذا كانَ ضرورياً للســوريين الذين حوربوا في خيالهم وأحلامهم، وصارت كلمة )لا( بدلاً من )نعم( بحدّ نفسها فوزاً عظيماً علــى عقود طويلة من المرارات، لم تســقط ســوريا الثورية فَحســب، بل ســقطت النواميــس، لأنّ الثورة في جزئهــا الأهم كانت أخلاقيةً فــي ردّ على لاأخلاقيات النظام و)مؤسساته( التوتاليتا­رية، وصارت جملة "حيلهم بينهم" أي العداوة بينَ الإقطاعي والمرابع، وبين الاقطاعي وجمهور المعارضين، وبين المرابع المســتفحل أمــره، والذي ينطبق عليه "الكلب الراكض في ظلّ العربة، يظن ظلّ العربة ظله" إذ يرى حاله الثائر الأول والمعارض الأول، والمفاوض الأول، وكلّ ما عداه وأشباههُ مجردّ "غوغاء" أو "طنبرجية" أو متفرجين عليه كدونكيشــو­ت، بحضورِ فســائه وغياب جحشــهِ وطواحين هوائه. تكادُ العنونةُ الاحتيالية هنا "المراجعةُ النَكدية" لا تعني في أي حال من الأحوال: المراجعة النقدية، لأنّ والحالُ هنا لا يقتصرُ هذا الشــطط على الثورة مرهوناً بأفراد، وإنما تعدّاه ليكون ظاهرة ســتأخذ دراستها زمناً طويلاً لتغطي الثماني ســنوات، وعلية فإنّ انحرافاً ســيصيبُ الكلمة الأولى لتكونَ بمعناها الشعبي المتداول: التقيؤ، وتبقى الثانية: نَكَد. الاستثمار العاطفي: بعدَ ثماني ســنوات ســهلة علــى "المرتكي"، المتكــئ، وصعبة علــى الذي ليس إصبعه فقــط في النار، وإنّما كلّــه بأرضهِ وعرضه وعياله ومالــه في النار، التي تحرقُ ولا تذر، رافقَ هذا التحول والخوض في السعير نشأة جيل من الرخويات والطفيليــ­ات التي تفكرُ في الماء العذب وتحمل في داخلها الآســنَ والكريه، الذي لا يخرجُ على شــكل رائحة، وإنمّا تخوين يطول الجميع، حتى وقف الجميع أمام أنفســهم ليســألوا: "من هذه الشــريف، وأين هو؟". وأصبح البحث عنه، النظيف الذي لم تلكه الألسنُ جزءاً من المستحيل اللامحقَّق!

لــم يكتَف هذا "الجيل" المعطّل في بث الإحباط وتســويقه على أنّه الصّح الذي لا بديل عنه، بل راحوا يدعون إلى مبادرات ولقاءات واجتماعات، ظاهرها المحبة وباطنهــا الكره للمختلف، وصاحــب الرأي المغاير، مما يفرغ هــذه النيات الطيبة من محتواها، ويجعلها مكشوفة وعارية ومصيرها الموت قبل ولادتها، ولهذا راحَ هؤلاء يســتثمرون في العواطف ويؤلبون جماعة على أخرى، بإظهارهم لذواتهم وحالهم بــكلّ مبالغة تصلّ حدّ الكذب والصفاقة، يعــزز هذه الصفاقة جيش من المصفقين الذين لا يختلفون عنهم إلّا بوصفهم" مراييع" تتبع حمار الراعي، الحمار الذي جلّ أهميته توفيره ظلّا للراعي، كأنْ يقول أحدهم إنّه خففَ من أكلِهِ ليشــعرَ بجوعِ الســوريين، أو أنّهُ يتحاشــى النظرَ فــي عينِ أطفالهِ لأنَّ هــذا يذكّره بعيونِ أطفالِ الســوريين، أو يقــولَ إنّهُ يقفُ في الحرّ ليسَ تَشمُسّــاً، وعلى الجليدِ ليسَ حبّاً بالتزلّج وإنّما ليعيشَ لحظةَ السوريين أو أنْ يقولَ أحدُهم أضعُ أبي وأخوتي تحــتَ حذائي لأنّهم "موالاة" أو "ضفادع"، أو أنْ يحبسَ أحدُهم خراءهُ في جوفه، ليحسَ بوجعِ حبس الغائط في جوف الســوريين، هذا الاســتثما­ر البائس بعد أن تغيّر الكثير، وصارت الشعارات الأولى للثورة اليوم أشبّهُ بأبّ يلبس قميص ابنه الأصغر، أو التعامل بنقود أهل الكهف في متجر أوروبي!

بعــدَ ثمانــي ســنواتٍ مــن ضيــاعِ النواميــسِ وزوالَ الحواجزِ بــنَ الصالحِ والطالحِ، بينَ العَفَن وشــجاعةِ الرأي، صارَ لزاماً على السوري أنْ يُحسّنَ علاقتهُ معَ نفســهِ ومعَ اللغةِ، على ألّا يتناسى أنّ العالم مازالَ يدير الأزمة لمصلحته، التي لن تبقــى آمنة ومصانة، ما لــم تُحلّ الأزمــة جذرياً، باجتثاث الأســد ومنظومته والنتائــج المترتبة على دياثته، بأن جلب الزنــاة وأصحاب المصالح إلى حظيرتهِ، معلــاً ذلك بأنّ في نهايته نهاية العالم وأولهم إســرائيل، قالها أحدهم: "حروبنا المقبلة لغوية"، وهو ما اســتفاد منه رامي مخلوف عرّاب آل الأسد اقتصادياً" أمن إسرائيل من أمن سوريا"!

أخيــراً: المقارنــةُ لا تتــمُ بــن نظام ومعارضــة، بــنَ معارضين ومــوالاة، بينَ ملائكة وشــياطين، بينَ حقيقيين ومُدعين، وإنما المقارناتُ الصحيحةُ بينَ جمهور )المعارضين( أنفســهم، ولو سئلتُ يوماً عن حلّ أولي، ســأقولُ: نحنُ أحوَج إلى ميثــاقِ شــرفٍ، لأن وحالــةِ التخويــنِ العابرة للأخلاق والشــرق، يكــونُ وجودُ الشــريف ســابع المســتحيل­ات حســبَ المخونين )الأشــاوس(، وهو تخوين في المحصلــة يجعل المقارنات تتم في المتوفر والممكن الأقل، وقد تفتح هذه الآلية باباً لإجراء مقابلات بـَـن النظام الذي مجرد التفكير بعهره ودمويته وإجرامه الفائق جداً، ســيكون كما لو أنّه تأكيد المؤكد، وبالتالي الذهاب إلى الشــكّ غير الصحي، وهو ما تتوضّح للأســف بــوادره اليوم بقــول الكثيرين "كنا عايشــن" و"أختي ترجع الساعة تلاتة بالليل".

النظر إلــى الثورةِ الســوريةِ كمقدّسٍ غير قابــل للنقدِ والمراجعــ­ةِ، يجعلها في الوقتِ نفسه ممراً واسعاً لتمريرِ الُمدنّس! شاعر وناقد سوري

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom