Al-Quds Al-Arabi

استفتاء: هل ينتهي زمن الرواية؟

- ٭ روائي مصري

منذ السبعينيات في القرن الماضي قلت مرة إن هذا زمن الرواية. وكان الســبب بسيطا جدا. رأيت كتاب الســتينيا­ت ممن احترفوا القصة القصيرة يتحولون إلى الرواية، وكان من بينهم أيضا من بدأوا بالرواية مثل صنــع الله إبراهيم وعبد الحكيم قاســم. وكنت أنــا قد فعلت ذلك وكان من جيلي عبده جبير ومحمد المنسي قنديل، قد بدأنا ننشر الرواية، رغم أننا بدأنا النشــر بالقصــة القصيــرة. كان كتاب الســتينيا­ت ونقادهــم قــد أطلقــوا علــى فتــرة الســتينيا­ت زمن القصة القصيرة، رغم أن يوســف إدريس ويوســف الشــاروني وإدوار الخــراط وغيرهــم مــأوا الدنيا قصصا قصيرة منذ الخمســيني­ات. لكن الحقيقة أنه منذ السبعينيات بدأت سيادة الرواية في العالم كله. تراجع للأســف الاهتمام بالشعر والقصة القصيرة. وفي السنوات الخمس عشرة الأخيرة ظهرت جوائز كثيــرة ومتفاوتــة مخصصــة كلها للروايــة. وازداد السكان في كل البلاد العربية فزاد الكتاب، ودخلت دول كان الشــعر علمهــا المرفرف إلى حقــل الرواية باتســاع مثل، العــراق. ودول كانت بعيــدة عن ذلك بســبب الرقابة علــى الكتب مثل، المملكة الســعودية وغيرها مــن دول الخليج، لكن النشــر خارجها أتاح الفرصة لعشــرات الكتــاب المجيدين صــاروا أجيالا الآن. قياســا علــى مصر، فقد خيل لــي في لحظة أن كتــاب الروايــة صاروا أكثــر من القــراء، خاصة إذا نظرنــا إلى روايــات الرعــب والخيال العلمــي، التي صارت رافدا كبيرا جدا.

هــذا الزحام المدهــش وغير المعقول علــى الرواية جعل النقد حائرا، وصارت التحايا على الفيســبوك واللايــكا­ت مجالا آخــر للتعبير، وأنشــئت صفحات مدفوعــة الأجــر تجمِّــع اللايــكات وتنتهــي حقيقة بإقبــال علــى الشــراء أقل طبعــا من عــدد اللايكات لكنــه كبيــر. هذا الزحــام نحــو القمة جعلنــي أراها نهاية بركان ســينفجر فســألت على الفيسبوك «هل سينتهي زمن الرواية؟». طلبت أن يكون هناك تعليق لا لايــكات أو إعجــاب فقــط. بالفعل فــزت بعدد من التعليقات تجــاوز المئة لروائيين مــن أجيال مختلفة وشــعراء ونقاد وقراء وكتاب سينما أيضا وعاملين في حقل الثقافــة. أخذت أصنف الإجابــات فأنا لن أســتطيع كتابتها هنا كلها لتشــابه الكثير منها، كما لن أســتطيع أن أكتب أســماء كل من ســاهموا فهذا ســيأخد المســاحة المتاحة للمقال. وجدت الإجابات حــول المحــاور التاليــة. المحــور الأكبر مســاحة أنه لــن ينتهي زمــن الرواية، ولكن يمكــن أن تتداخل مع الرواية فنــون أخرى، فالرواية هــي صرخة الكتاب في هذا العالم الخــراب. ثم إن الرواية فن من الحكي الذي يمشــي مع البشــرية منذ نشــأتها، ولا ســبيل لإيقافه فهي وريث الملحمة القديمة. قد يتغير شــكلها لكنهــا أبــدا لــن تمــوت. ولأن الرواية دعامــة لفنون أخرى مثل السينما والدراما فكيف تنتهي. قد يكون المنتج الروائي سيئا في كثير من الحالات لكنها كفن لن تموت، بل ربما يزيد في حالة الســيولة المجتمعية التــي نعيشــها وتجــد الروايــة لهــا أشــكالا أخرى وحياتنــا الآن تعطــي فرصــة لروايــات عربية حقا، لكنها أيضــا عالميــة، فالرواية هي الفــن الذي صمد عبر كل العصور، بدءا من الحكاية والسيرة والملحمة حتى أشكالها الآن.

كما أنهــا تفتح البــاب دائما لأشــكال جديدة في الكتابة. قد تختفي الأشكال القائمة لكن مادام هناك ذاكرة فرديــة أو جمعية فالفرصة للرواية قائمة أبدا ولــن تموت، لأن هــذا يعني موت الحكايــة والحكمة التــي تصلنــا منذ عصــر الفراعنــة، ثم لمــاذا لم تمت مــن قبل مثلا؟ ورغــم كثرة الروايــات التافهة فهناك روايــات رائعة كثيــرة في العالم كلــه. وهكذا اجتمع الكثيــرون على أن هذا الفن بــاق، وكان ألطف تعليق هــو كيف ينتهي زمن الرواية وســؤالك نفســه صار رواية؟ وقبله تعليق ســاخر إذ نحتاج إلى قرن لنفرز الرديء من الجيد فالرواية باقية!

على الناحيــة الأخرى كان المحــور الثاني. فهناك من يرى أنها ســتتراجع قليلا لفــن القصة القصيرة، فهو الأســرع اتفاقا مــع الميديا الحديثــة، وهناك من حمل على الدخــاء الذين اســتهوتهم الرواية طمعا فــي الجوائــز التــي صــارت مسيســة، وأن الرقابة الموجودة للأســف علــى حريــة الأبــداع والنقد غير الجريء لفضح الســرقات الأدبية، يعطيان الفرصة لانتشار الركيك من الأعمال.

لقــد شــغل الحديــث عــن تســييس الجوائــز أو انحيازاتهـ­ـا كأحــد أســباب انحطاط يتســع في فن الروايــة مســاحة كبيرة، وكيف صــار عامل الجذب للكتابــة ليــس الموهبة، ولا حــب الروايــة، لكن المال الذي قد يعود منها والشــهرة مهما كانت زائفة، وإذا بقي الحال علــى ما هو عليه قد ينفــض القراء قريبا عن هذا الفن لعدم معرفــة الطيب من القبيح، بل رأى البعض أن زمن الرواية انتهى حقا منذ عقدين بسبب هذه الجوائز وبسبب الانحياز النقدي لأعمال تافهة لمجرد أن الكاتبة أنثى، أو أن الكاتب مســؤول ثقافي فــي مركز ثقافــي كبير، رغــم أنه لم يعــرف عنه من قبــل أي علاقة بــالأدب، ومن ثم إذا لــم تتوفر حركة نقدية قوية وصحافة أدبية راقية فســتنتهي الرواية وغيرها لصالح الكتابة الرثــة في كل مجال. ثم كان المحــور الثالث فــي النقاش وهــو أن الكتابة الورقية كلها ســتنتهي، وعلــى كتاب الرواية اللجوء للنشــر الإلكترونـ­ـي والروايــا­ت الصوتية التي تتســع يوما بعــد يوم، وبســبب الحالة الاقتصاديـ­ـة التي جعلت ســعر الكتاب كبيــرا. كمــا أن الكتابات السياســية والاجتماعي­ــة والاقتصادي­ة تتســع مســاحة قرائها أكثــر من الفنون، أو أن الاجابة على الســؤال تحتاج لدراســة الزمــان والمــكان والصــورة التــي نشــأت بينهــا الروايــة لتكــون أجابتنــا أدق، أو كيف يمكن أن تطــرد العملــة الجيدة هذه العمــات الرديئة التي تحاصرنا. هذه مهمــة كبيرة للنقــاد والمفكرين. كما أن دراســة الميديا من فيســبوك وتويتر وغيره يمكن أن تســاهم فــي نســف الروايــة أو بقائهــا، فالأمر يحتاج إلى دراســة حقا. وهنــاك طبعا من نفض يده واعتبــر أن زمــن الكتابة كلــه ســينتهي، بينما هناك مــن رأى تحولا قد يحدث في الروايــة لتعود واقعية بعيــدا عــن الفانتازيـ­ـا والخيال، وهناك من ســألني رأيــي لكنني أميــل إلــى التشــاؤم، فالرواية صارت مثل الســبايا ينتهكها كل مــن أراد، لكن كاتبا واحدا ســأذكر اسمه لأنني ســأنهي به الحديث هو الكاتب حســن عبد الرحيم، الذي قــال لا نريد لزمن الرواية أن ينتهــي لكن نريد لزمن الروايــة الرديئة أن ينتهي لأننــا تعبنا. وقلبي معــك وعليك والله يا حســن يا جميل. كان التعليق الاستثنائي من الفنان التشكيلي عصمــت داوستاشــي، أنظــروا كيــف أجج ســؤال إبراهيم عبد المجيد الحــوار، وكما مدحني أقرر حبي لإبداعــه في الصورة والنحت وهــو في خلوته بعيدا في الإســكندر­ية مع غيره من الفنانين التشــكيلي­ين، روح المدينــة وما أكثرهم وروحي. في النهاية لابد أن أعترف بأن الغالبية مالت لبقاء ســيادة الرواية على الفنون وأمام هذا التفاؤل أخفي تشاؤمي.

 ??  ?? إبراهيم عبد المجيد٭
إبراهيم عبد المجيد٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom