Al-Quds Al-Arabi

من «غزوة نيويورك» إلى «غزوة إسطنبول»... السعودية في القفص

- ٭ كاتب صحافي جزائري

قبل أن تُشــفى تماما من التبعات المدمّرة لهجمات 11 أيلول )ســبتمبر( 2001 الإرهابية، عادت السعودية إلى صلب نقاش دولي ضمن سياق لا يختلف في سلبيته كثيرا عن سياق 2001. العودة هذه المرة من بوابة «غزوة» جديدة مسرحها اسطنبول.

كان الأمر آنذاك إرهاب أفراد، كما أجمع عليه العالم حينها. وهو اليوم يتعلق بإرهاب دولة، كما يتفق عليه العالم اليوم، حتى وإن لم يعلنها أو يفعل على مضض. فمثلما كانت «غزوة» أمريكا في أيلول )سبتمبر( 2001 حدثا مفصليا على السعودية ولعنة تلاحقها، يبدو أن «غزوة تركيا» في تشــرين الأول )أكتوبر( 2018 )وهي لا تقل إرهابا(، ستُدخل هي الأخرى السعودية التاريخ من باب خلفي آخر.

فــي هجمات 2001 كانــت مجموعة مــن الســعوديي­ن )19( اليافعين المندفعــن، ضربوا أمريكا في العمق بـ«براعــة» منقطعة النظير. لكنهم، وهم يفعلون، ضربوا أيضا الســعودية في مقتل وجعلوها تســتمر دفع الثمن المادي والمعنوي حتى بعد مرور ســبعة عشــر عاما على الوقائع. وستدفع.

ارتكب شبان نيويورك جريمتهم الشــنعاء تلك جهاداً وتقربا لله، أو هكــذا آمنوا. عندما يكــون الدافع دينيا أو عقائديا، فــا قوة في الأرض توقف صاحبه عن مسعاه، وكذلك كان حال الـ19.

وفي «غــزوة تركيا» في 2018، كانت مجموعة أخرى من الســعوديي­ن (15(، مســحوا من الوجــود معارضا مــن أبناء بلدهم لا ســاح له إلا قلمه وأفكاره. لكن وهم يفعلون، ضربوا الســعودية في الصميم ضربة سيتفرج العالم على تداعياتها طويلا.

ارتكب هــؤلاء فعلتهم مدفوعــن بحب الوطن وبالرغبــة في إرضاء حاكمه. والأوطان، رغم العولمة والتداخل البشــري حديثا، مثل الأديان، عندما تكون هي الدافع لعمل انتقامي، يصبح من ضروب المستحيل إيقاف صاحب المسعى عن مسعاه.

هناك فرق بين التاريخــن والواقعتين. للوهلة الأولــى تبدو «غزوة أمريكا» أكثر إتقانا وأصحابها أكثر ســيطرة علــى مخططهم. بينما يبدو الأمــر أقل «براعة» في الحالة الثانية، بل «عمــل» هواة، رغم مرور قرابة عقديــن يُفترض أنهما حملا الكثير من التطور فــي الأفكار وطرق العمل. ويزداد الأمر فداحة عند الحديث عن أن «غزوة أمريكا» كانت من تخطيط وتنفيذ تنظيم إرهابي أوكلها لخارجين عن القانون، بينما كانت «الغزوة» الأخــرى من تخطيط وتنفيــذ جهة أكثر دقة وتنظيمــا وثقة في النفس، وتتوفر على الغطاء اللازم والأدوات الضرورية.

مثل «غزوة أمريكا»، ســتبقى «غزوة تركيا» محاطة بكثير من الألغاز والأســئلة والفرضيات. ســيكون ســهلا تأكيدها، وســهلا بالقدر ذاته دحضها، لكم العنوان الذي لا مفر منه هو: يَـدُ السعودية.

عملية تصفية الصحافي جمال خاشــقجي جريمة سياســية بامتياز. نعم سيكون للقانون الجنائي مجراه وكلمته النهائية ربما، لكن لا توجد قوة فوق الأرض ستســتطيع ســحب القضية بعيداً عن مربع السياسة. والحال هكذا، من غير المســتبعد أن تتفق الأطراف المعنية بها، السعودية وتركيا والولايــا­ت المتحدة ممثلة للغرب والعالم، على مخرج يحفظ ماء وجه الجميع: تنقذ تركيا ســمعتها، تنجو الســعودية بجلدها، وتحافظ أمريــكا ترامب علــى رصيدها المعنــوي كقوة حضارية مهتمــة بالأفراد وحقوقهم حيثما كانوا. سيريح هذا الحل المحتمل الأطراف ويحافظ على المصالح ويراعي التوازنات الهشة التي لا مصلحة لأحد في العبث بها في منطقة ملغومة أصلا. أما حالة خاشقجي فلا بأس إن بقيت طي الغموض. لقد سبقتها حالات أخرى مشــابهة عالميا وعربيا، لعل أبرزها حالة رجل الدين اللبناني موســى الصدر، وحالة المعارض اليساري المغربي المهدي بن بركة.

أيًّا كان الحل، وكيفما كان مصير جريمة خاشــقجي، لا يمكن أن تعود السعودية كما كانت. لقد نجت، ولو مؤقتا، من التبعات الخانقة لـ«غزوة أمريــكا» لأنها كانت تتوفر على هامش من المنــاورة بالزعم، صدقا ربما، أن المخططين والمنفذين أبناء عاقــون تبرأوا من صلتهم بالدولة ولا صلة مباشرة لهم بالعائلة الحاكمة، بل أهدروا دمها.

أما اليوم في حالة «غزوة تركيا»، الحال يختلف إلى حد التناقض، إذ كل شــيء في التفاصيل الكبيرة والصغيرة يحيل إلى الدولة ومنظومة الحكم. وعلى قدر الشــعور بالخطر وفداحة المسؤولية، يكون التخبط، وكان رد الفعــل الســعودي، الإعلامي منذ انكشــفت فصــول الجريمة، والدبلوماس­ــي منذ مساء الأحد عندما هبّت وســائل الإعلام السعودية لتنقل عن «مسؤول» لم تســمّه في الدولة السعودية تهديده بأن المملكة سترد بأكثر مما ستتعرض له.

ربما يجد الضرر الذي لحق بالسعودية جراء «الغزوة» الثانية بعض تفســيره في كونها حدثت في زمن الإعلام الاجتماعي. لكنه يجد تبريره الأقوى في كونها نُفذت بطريقة بدائية تخلو من أيّ ذكاء أو فطنة.

بعد عقود ســيذكر التاريــخ حتما أن جمال خاشــقجي غيّر في بلاده «مغيَّبًا» أكثر مما فعل، أو كان سيفعل، وهو بين ظهرانيها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom