Al-Quds Al-Arabi

حقول الموت في زمن «السلام»

-

منذ ســبعين عاما، أي منذ التطهير العرقــي الكبير الذي أعقب حرب النكبة 1948، والعالم العربي يعيش في شــرنقة خطاب كان اسمه الصراع العربي-الإسرائيلي، ثم صار اسمه عملية السلام. وفي الحالين: الصراع والسلام، سادت مجموعة من المفاهيم التي صار من الضروري إعادة النظر فيها بشكل جذري.

هل كانت الحروب حروبا؟ وهل قادنا الســام مع إسرائيل إلى ســام حقيقي؟ أم إن علينــا، ونحن في منعطف قــرار أمريكيإســ­رائيلي يشــارك فيه النظام العربي بشــكل علني أو موارب ويجــد غطاء له فــي انهيار المشــروع الوطني الفلســطين­ي، أن نبحث عن الحقيقة قبــل أن تُفرض علينا وقائع تقول بإنهاء فكرة فلســطين وتأسيس نظام تمييز عنصري ســيكون ذروة المشروع الكولونيال­ي الصهيوني؟

تعالوا فــي البداية نقدم قراءة أولية للحــروب النظامية التي خاضتها الدول العربية، بمشــاركة فلسطينية على الأقل في حرب النكبة، لنكتشف ما يلي:

أولا: إن الحــروب الثلاث الأولــى لم تكن حروبــا إلاّ بالمعنى المجــازي: قيادات الجيوش العربية في حــرب 1948 كانت إمّا بيد البريطانيي­ن بشــكل مباشــر، وإمّا خاضعة لحكومــات «صديقة لبريطانيــ­ا»، أمّا حرب الســويس 1956 فكانت الجــزء الختامي لأفول الإمبراطور­يتين الفرنســية والبريطاني­ة، وكانت إسرائيل تلعب آخر جولاتها قبل أن تلتحق نهائيا بالإمبراطو­رية الأميركية الصاعدة. حرب الســويس لا يمكن أن نحسبها جزءا من الصراع العربي-الإســرائي­لي إلاّ من ضمن قراءة هذا الصراع كنضال من أجــل التحرر الوطني. أمّا حــرب حزيران-يونيو 1967، أو حرب الأيام الســتة، فكانت إعلانا صارخا أن المشــروع القومي العربي كان أسير بنيته الاستبدادي­ة الاستخبارا­تية، ولم يكن يملك قيادة عسكرية حقيقية، فكانت الحرب أشبه بالفضيحة.

ثانيا: الحرب الوحيدة التي يمكن أن نطلق عليها اســم الحرب هي حرب تشــرين الأول/أكتوبر 1973، وقد أثارت مفاجأة اقتحام خط بارليف، بعــد عبور القناة، الهلع في إســرائيل، لكن الحرب مثلما رسمتها القيادة السياســية المصرية، وكما حدث على أرض الواقع، قادت إلى نصف انتصار.

ثالثا: كانت حرب تشــرين الأول/أكتوبــر 1973 آخر الحروب التي خاضتها الجيوش العربية النظامية ضد إســرائيل، وبعدها بدأت عملية ســام معقدة، من كامب ديفيد إلى أوســلو إلى وادي عربــة، وهي عملية بات مــن الواضح أن أطرها، مثلما ارتســمت في كامب ديفيد وأوســلو، لن تصل إلى تســوية تاريخية للقضية الفلسطينية، لأن أقصى وعود التسوية لم تتجاوز إطار حكم ذاتي فلسطيني، من دون المسّ بالتوسع الاستعماري الاستيطاني، الأمر الذي يعني أن هذا الســام الموعود لن يعوّض أو يصلح شيئا من الواقع الكارثي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني.

تعالوا نقبل الافتراض الأساسي بأن السلام ضرورة لتخليص المنطقة من مناخ الحرب والدم الذي تعيشه منذ سبعين عاما.

لكن مهلا، علينا في البداية أن نحصي خســائر الحرب، ونعدد مكاسب السلام، مثلما تجلّت في الواقع.

لن نحتســب هنا الخســائر الكارثيــة التي مُني بها الشــعب الفلسطيني لأنها خارج صفقة الســام، بل تعالوا نبدأ بالخسائر البشــرية التي مُنيت بهــا الجيوش العربية، وهنا ستكشــف لنا الأرقام عن حقيقة مذهلة، فخسائر الجيوش العربية في الحروب العربية-الإســرائي­لية الأربع، يضــاف إليها قرابــة 15.000 من المقاتلين الفلسطينيي­ن خلال حرب النكبة، وصلت إلى نحو 72.000 قتيل، بينما بلغت الخسائر العسكرية الإسرائيلي­ة خلال الحروب نفسها 23.000 قتيل تقريبا.

)هــذه أرقام تقريبيــة يجب أن يضــاف إليها أرقام الأســرى والمعوقين والمفقودين(.

طبعا، إن أرقام خســائر الحروب لا تُحتســب فقــط عبر أرقام الجنود القتلى، بل يجب احتســاب الدمار العمراني والاقتصادي الــذي يرافقها، من دون أن ننســى تأثيرها في البنى السياســية والاجتماعي­ة والنفسية.

الفكــرة التي نحاول طرحهــا انطلاقا من ظاهــرة جزئية هي الخســائر البشــرية، تتمحور حول الدعوة إلى مقارنة خســائر الحرب بخســائر الســام، لنكتشف أن الســام لم يُنهِ الحروب الإســرائي­لية على الفلســطين­يين والعرب؛ لاحظوا هنا أنه صار لزاما علينا اســتبدال تعبير الحرب العربية -الإسرائيلي­ة بتعبير الحرب الإسرائيلي­ة على الفلسطينيي­ن واللبنانيي­ن، لأنها مسلسل من الحروب شنّها ويشنّها جيش نظامي على قوى شعبية مقاومة، وهي حروب بدأت في اجتياح 1982، واتخذت أشــكالا متعددة من احتلال الشــريط الحدودي اللبناني، إلى اجتياح الضفة الغربية ومخيماتها، إلى الحروب المتواصلة على غزة.

تعالوا ننسَ فلســطين والفلســطي­نيين قليلا، فمــاذا تقول لنا مشاريع السلام؟

في حمّى الإعداد لهذا الســام قُتل في الحرب الأهلية اللبنانية 120.000 شخص.

وتوالت حقول القتل، كأن الانســحاب من الصراع مع إسرائيل كان إعلانا ببداية زمن الحروب الأهلية العربية، ومرحلة الحروب الحمقاء: من الحرب العراقية–الإيرانية، إلى اجتياح الكويت، إلى احتلال العراق، إلى تهاوي شــرعية الأنظمــة العربية في حقول القتل والدم المتواصلة منذ سبعة أعوام.

مَن يجمــع أعــداد الضحايا من قتلــى ومفقوديــن ولاجئين: الجزائر؛ العراق؛ ســوريا؛ ليبيا؛ اليمن؛ البحرين؛ وإلى آخر ما لا آخر له...

ما هذا الســام الذي لم يكن ســوى مدخل العالم العربي إلى الجحيم؟ وماذا ربحنا من هذا السلام ومن وعوده الخادعة؟ الفكرة التي نحــاول التمهيد لها كمشــروع ثقافي سياســي، هــي محاكمة افتراضات وهمية صارت من شــدة تكرارها أشــبه بالبديهيات: فالافتراض أن الصراع العربي-الإســرائي­لي قاد إلى تدمير المنطقة العربية يحتاج إلى إعادة نظر على مستويين:

المستوى الأول هو قراءة خطاب الصراع بصيغه التي فرضتها الأنظمة الاســتبدا­دية، كغطاء أيديولوجي ـ سياسي للاستبداد، ثم التخلي عنه عندما لاح في الأفق أنه يهدد بقاء هذه الأنظمة إذا استمر حتى ولو على مستوى الخطاب.

المســتوى الثاني هو قراءة تكلفة ما سُمي سلاما، فهذا السلام أكثر تكلفة من الحرب أو من جولاتها المتعددة.

كيف إذا يكون السلام هدفا؟ هل ذهب النظام العربي إلى تفككه الشــامل نتيجة عجزه عن خوض الحرب في المــكان الذي يجب أن تخاض فيه، فحوّل الجغرافيــ­ا العربية كلها إلى حقول للموت والأسى؟

إن البحث عــن الحقيقة هو واجبنا، فإذا لــم نكن قادرين على التصــرف كمواطنين صالحــن ندافع عن وجودنــا وبقائنا، فإن واجبنــا هــو أن نكون على الأقــل مثقفين يبحثون عــن الحقيقة ويعلنونها مهما يكن الثمن. ٭٭٭ افتتاحية العدد الجديد من «مجلة الدراسات الفلسطينية»، خريف .2018

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom