Al-Quds Al-Arabi

روايات «الميتافكشن» أو كيف يعكس البشر خبرتهم بالعالم

- ٭ ناقد وأكاديمي من العراق

■ عن دار نشــر شــهريار فــي البصرة العــراق وضمن سلســلة روائع شــهريار النقديّة صدر كتابُ «الميتافكشـ­ـن: المتخيّل السردي الواعي بذاته: النظرية والتطبيق( للناقدة البريطانية باتريشــيا وُوه، الذي كان قد صدر للمرّة الأولى في نســخته الإنكليزيّة عام 1984، وقــد ترجمه إلى العربيّة المترجم المصري الســيد إمام، وستقدّم هذه )القراءة( عرضا موجزا لأهمّ أفكار الكتاب، من دون أن تعتمد على التسلســل المنطقي لفصوله.

عرّفت الناقدة باتريشــيا وُوه )الميتافكشن( بقولها: إنّه الكتابــة التخييليّة التي تلفت الانتباه بطريقة واعية بذاتها، وانتظاميّة لوضعيّتها بوصفها نتاجا صنعيّا يطرح الأســئلة حول العلاقة بــن المتخيّــل والواقع، من خــال تقديم نقد لطرائق البناء السردي، مستكشفة البنى الأساسيّة للمتخيّل والتخييــل، وقد تُرجم قبــل أن يظهر الكتاب إلــى )ماوراء الرواية( أو )ماوراء السرد(، والناقدة ترى أنّ الروائيين في السنوات العشــرين الماضية مالوا إلى وعي بقضايا التنظير الخاص في بناء المتخيّلات، في إشارة واضحة إلى اعتمادهم على )الميتافكشـ­ـن( فــي بناء ســرديّاتهم، الأمــر الذي قاد نصوصهم إلى تجسيد أبعاد الانعكاس الذاتي، وعدم التأكيد الشكلي، وقد تبين لها أنّ الناقد والروائي الأمريكي وليم إتش جاص هو مبتدع هذا المصطلح عام 1970.

و)الميتافكشـ­ـن( حســب رؤية الناقدة ليس جنسا فرعيّا للروايــة، بقدر ما هو نزعة داخل الرواية تشــتغل من خلال تضخيم التوتــرات، والتعارضات الكامنــة في نصّها ضمن فعّاليّة الإطار وكســره، والتقانــة، والتقانة المضادة، وبناء الوهم وتفكيكه، وهذه النزعة ترفض صورة المؤلف التقليديّة بوصفها ابتداعا متعاليا للخيال، ولكنّها في الآن نفسه تظهر الكيفيّة التي تســتجلي بها مفهوم التخييــل من خلال بناء الوهم وكســره، ففي روايات )الميتافكشن(-عند الناقدةتتر­اوح حيل التأطير التي هي أبنية سرد ما بين قصص داخل قصص، وشــخصيّات تقرأ عن حيواتهــا المتخيّلة، وعوالم تســتهلك ذاتها، أو مواقف متناقضة. و)الميتافكشـ­ـن( الذي ينتمي إلى سرديّات ما بعد الحداثة يُعنى بلغة التناقض التي تُحلّ في نهايات الروايات عادة، فضلا عن عنايته بالتبديل، والدائرة المقصّرة، والعشوائيّة، والإفراط.

وترى الناقدة أنّ وظيفة )الميتافكشن( تكمن في السؤال: كيف يعكس البشــر خبرتهم بالعالم؟ يعالــج المصطلح هذا الســؤال من خلال استكشــاف الذاتي الشــكلي، مستعينا بالاســتعا­رة التقليديّة للعالم بوصفــه كتابا، معيدا صياغة الســؤال في ضوء النظريّــة الفلســفيّة، وإذا كانت معرفتنا بالعالم تتــمّ من خلال وســيط اللغة، فــإنّ المتخيّل الأدبي )العوالم المبنيّة كليّة بوســاطة اللغة( صــار أنموذجا مفيدا لمعرفة الواقع نفسه.

وتتيــح روايات )الميتافكشـ­ـن( ملاحظة البنــاء النصي واللغــوي للمتخيل الأدبــي، فضلا عن الاســتمتا­ع بالعالم داخل المتخيل والاشــتبا­ك معه، فهي تقدّم شخصيّات تنتمي بشــكل واضح إلى فئة الفنانين، وشــخصيّات روائيّة تكتب رواياتها، وتبالغ هذه الروايات حين تتمسّك بمفهوم المؤلف، بوصفه مبدع النص حين تُظهر درجــات الإخبار في حضور المؤلف الذي يقتحم العالم التخييلي عابرا الفجوّة المعرفيّة، فاصــا بــن التخييلي والواقعــي مــن خــال التعليق على فعل السرد وتأثيره في البنية، فهذا الحضــور يضــع المؤلّف الروائــيّ فــي تماس مع النقد عنــد التخوم التي تصــل الروايــة بحقــل حيــوي مجــاور ذي طبيعــة مختلفــة تنفتح على دراســة الأســاليب والبحث فــي جماليّاتها، مــن خلال تقــديم جملة من الــرؤى التي تحمل نقد الروايــة، أو تحمل فكرة عــن بنائها، وهو يشــرك المتلقــي فــي تلقيهــا، والتفاعل معها ضمن مســار منعزل عن نــصّ الرواية، أي تقديم نــصّ لاحق علــى نصّ سابق كي يؤكد سردها، ويقدمها فــي اطار فاعل جديــد يشــي بوعــي التحديث السردي.

إنّ دخول المؤلف إلى النصّ الروائــي يدفعه - كمــا تقــول المؤلفةإلـ­ـى التمســك بهويته الواقعيّة بوصفه مبدعا للنــص، فمــا أن يدخله حتــى تصبــح حقيقته موضع شكّ عند المتلقي، ليكتشــف أنّ لغة النص تتّجــه نحــو إنتاجهــا الخاص ليصبح المتلقي نفسه على دراية مفارقة تشــير إلــى أنّ المؤلف يتموضع في النص فــي الموقع ذاته الــذي يؤكد فيه هويته الخارجيّة.

وأفهم أيضا مــن كلام الناقدة أنّ حضــور المؤلف في متن روايته بالطريقة الســابقة ناجم عن تجريب ســردي للّغة يُجرّب فيه المؤلّف شكلا جديدا من أشكال الكتابة التي تغادر المألــوف نحو تجريبيّة جديــدة قَبِلَ بهــا الروائي المعاصر، بعد أن تشــرّبت في قراءاته، وكتابته تجارب روائيّة غربيّة رائدة ليقبل بها المتلقــي المعاصر بوصفها نمطا من التحديث الأســلوبي الخاص بالروايــة الحديثة، فضلا عــن أنّ ذلك الحضور تمثيل للذات المبدعــة على صفحات إبداعها يحتكم إلــى إجراء غيــر مألوف خلقتــه تحولات الوعــي بالكتابة السرديّة الحديثة.

وتَعُــدُّ المؤلفــة باتريشــيا وُوه دخول الــراوي إلى النص الروائي ملمحــا محدّدا لما أصبح يطلق عليــه بـ)فوق المتخيّل( إذ يكون التأكيد على السرد بوصفه ابداعــا فرديّا، وتلفيقــا تلقائيّا على حســاب الواقع الخارجي، أو التقليــد الأدبــي بديــا لما تمّ التشــديد عليه من قبــل، ولعلّ دخول الراوي أو الســارد بشكل أدق إلى مــن الكتابــة الروائية يحيل الكتابة إلى جزء من اللعبة اليقظة التي توقظ الأحاســيس فــي مخيّلتــه، وإنْ كان ســادرا فــي غيّــه ومغامراتــ­ه الخاصّة، وهــو غيــر قادرعلــى أن يكون بمســتوى الحــدث؛ لأنّ الكتابة جزءٌ من شهوة الحياة عنده، فلا مناص من الدخول إلى طقوسها، والتعمّد بمياههــا، على الرغم من تباين الزمن، وتغاير سلطته، فهو بطبيعة وجوده القلق لا قدرة له على أن يحيا إلا والكتابة تأخذ به نحو شواطئ المغامرة.

وتفحــص المؤلفــة بعــض مصطلحات )الميتافكشن( البديلة ضمــن تنويعات اقترحهــا النقد الغربي على الكتابة الواعية مثل: الروايــة الانطوائيّــة، والرواية الضــد، واللاواقعي­ــة، وما فوق المتخيل، والرواية ذاتية التوالد، وروايــة التخريــف التــي تدلّ جميعها علــى )متخيّل( ينعكس على نحــو واع علــى المصطلح، وعلــى بنيته الخاصّــة بوصفها لغة، مع إشارات دالّة على الفوارق الدلاليّــة للمصطلحات الســابقة ليبقــى مصطلح )الميتافكشـ­ـن( تجريبا ذاتي الانعكاس يُبقي الباب مفتوحا لأي هجوم نقدي إزاء هذا النمط من التقانة السردية، بوصفه- الميتافكشن­صيغة من صيغ الكتابة ضمن حركة ثقافية أوسع يشار إليها بوصفها جزءا من مصطلحات ما بعد الحداثة.

وتنقل مؤلفــة الكتاب أنّ الفن كلّه )لَعِب( من حيث إبداعه لعوالــم مرمّزة، وعندها أنّ المتخيّل طريقــة مفصّلة للتظاهر الــذي هو أســاس للّعب والألعــاب، بدون أن تقبــل بفكرة )فرويد( الشهيرة القائلة: إنّ الفن والأدب يعملان بوصفهما شكلين تعويضيين للإشــباع، يحلان بالنســبة إلى الراشد مكان عالم الطفولة المفقود المتّسم باللعب والنزعة الهروبيّة، وعندها أنّ المتخيّل الأدبيّ شــكلٌ من أشكال اللعب الضروري للمجتمع البشري.

وتقف هذه )القراءة( عند )رفع الستار: كتابة المخطوطة(، وهو أحد فصول الكتاب المهمّة التي ترى أنّ الشخصيات عند )بيكت( تعرف أنّ المخطوطة أشبه بماكينة أي بديلة للمصير، وأنّ المخطوطة توجد ضمن مخطوطة أخرى، وهذه الأخيرة توجــد ضمن مخطوطة أكبــر نهائية، وأنّ الفكرة الرئيســة لكتابة مخطوطة متضمنة داخل الرواية هي استقصاء علاقة المسؤولية الأخلاقيّة والجماليّة في النص الروائي.

إنّ حضــور )المخطــوط( المتعدّد الأشــكال فــي الرواية المعاصــرة دليلٌ علــى رغبة المؤلــف، أيّا كان فــي تحديث أســلوب الكتابة، وهي تتجاوز الشــكل القــديم القائم على الســرد المحض إلى أسلوب تجريبيّ جديد يرتضي لنفسه أن يكون ســبّاقا إلى تبني معايير كتابة تسعى إلى الاندماج مع كتابات أخرى ذات نفس سرديّ، مستعيرة إيّاه من فضاءات تنســجم وروح الكتابة الجديدة التي تريدها، فضلا عن أنّها - المؤلّفة- وظّفت أيديولوجيا الكتابة التي تؤمن بها توظيفا دقيقا انفتح على قضايا فكريّة، وأخــرى اجتماعيّة، ونقديّة ذات بعد اقتصادي مؤثّر.

إنّ رواية )الميتافكشـ­ـن( عادة ما تحتفــظ بتوتر متوازن بــن وضعها التخييلــي، ورغبتها في خلق وقائــع خياليّة، فأشكال )الميتافكشن( تلفت الانتباه إلى حقيــقة أنّ المحاكاة في الرواية ليست محاكاة أشياء موجودة، إنّما هي اختلاق أشــياء يمكن أن توجد، ولكنها لا توجد؛ ولهــذا يكون بناء النص تخييليّا، بينما لا يكون المؤلــف كذلك، وهذا يعني أنّ التخيّل يســتحوذ على جماليّات البناء الســردي، ويكون علامة فارقة فيه.

أخلص إلى أنّ )الميتافكشن( المصطلح الوافد من منطلقات مرحلة ما بعد الحداثــة، وقد أضيف إلى المصطلحات الفاعلة في النقد العربي الحديث، وكان همّه ولّما يزل الربط بين النصّ المدوّن ونصوص أخرى تحضر في النّص بوصفها صيغا )ما ورائيّة( تأتي من حقول معرفيّــة، أو ثقافيّة قريبة، أو بعيدة من فضــاء الرواية من دون أن يعمد )المؤلــف الروائي( إلى التنويه بأهميّتها، واســتراتي­جية تفوّهاتهــا، وهذا ما وجد في روايات عربيّة ليست بالقليلة من أهمها: «لعبة النسيان» لمحمد برادة، و«اعترافات كاتم صــوت» لمؤنس الرزاز، وفي الســرد العراقي «ســابع أيام الخلق» لعبد الخالق الركابي و «كراسة كانون » لمحمد خضير، و «ظلال على النافذة » لغائب طعمة فرمان، و«الخراب الجميــل» لأحمد خلف، وغيرها من نصوص مشبعة بالدلالات التي أســهم في تشكيلها المؤلف، و)الميتافكشـ­ـن( الرابض في متون النصوص المســتدعي­ة، سواء أكانت ســردا، أم بطلا، أم دلالة يتمحور حولها إشكال ما.

 ??  ??
 ??  ?? باتريشيا وُوه
باتريشيا وُوه
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom