Al-Quds Al-Arabi

مرايا عبد العزيز حمودة والدعوة لتأصيل نظرية عربية في النقد

- ٭ كاتب مغربي

فــي كتابــه «المرايــا المقعــرة» يخصــص عبد العزيز حمــودة الجزء الثانــي المعنون بِـ«وصل ما انقطع» لتحديد معالم ما ســماه بالنظريــة النقديــة العربيــة. لا أخفــي أنني قــرأت المبحــث بحمــاس كبيــر خاصــة أن الكاتب ســبق أن هيج شوقنا لهذه النظرية، حينما مهد لها بنقد واســع للنظرية الغربية فــي كتابه «المرايا المحدبة: مــن البنيوية إلى التفكيــك»؛ قــرأت المبحــث الــذي يزيــد عن ثلاثمئة صفحة، وأفق انتظاري الوصول مع الــدارس إلى «خريطة نقدية عربية خالصة» - على حــد وصــف الكاتب- تكــون بديلا نقديــا عــن المتــداول الغربي «المنقــود» في المرايا المحدبة. لم يفتأ عبــد العزيز حمودة، علــى امتداد تلــك الصفحات، ينبّــه كل مرة يعقد فيها مقارنة بــن «النظرية العربية في النقد» وإحــدى النظريات الغربيــة، إلى أنه لا يقصد أبــدا «إثبات أن النقــد العربي أتى بــكل مــا أتى بــه المعاصــرو­ن أو أنه ســبق النقد الحديث - طوال القرن العشــرين على الأقــل- إلــى هــذه أو تلك مــن الموضوعات الحديثة والمعاصرة، أو أننا نبحث عن أوجه الاتفــاق بــن القــديم والجديد فــي تجاهل الاختــاف». لكــن مســار البحــث جعل من هذا التنبيه، يبدو شــاردا أمــام النهاية التي أفضى إليها مختتــم الكتاب! ذلك أنه حينما تريــد تلمس ما بقــي في ذهنك، بعــد قراءة المبحث، مما سماه الدارس بالنظرية النقدية العربية لا تجد ســوى ما ألفتــه من المتداول في النظرية الغربية!

ينطلق عبد العزيز حمودة في مشــروعه الســالف الذكر )التأصيل لنظرية عربية في النقد( من الاقتناع التالي:

أولا: أن العقل العربــي أنتج نظريات هي مدار الانشغال النقدي الحديث.

ثانيــا: لا توجــد مشــكلة نقديــة توقفت عندها نظريــات الأدب الحديثــة لم يتوقف عندها العقل العربي منظرا أو ممارسا.

ثالثــا: التماثــل بــن النقديــن العربــي والغربــي الحديث لــه ما يســوغه، ذلك لأن النظريــة الأدبيــة العربيــة القديمــة، سواء في علم البيان أو فــي علــم المعاني قامت على الدراسة اللغويــة للنص وهو الأســاس نفســه الــذي تفرعــت عنه النظريــات الأدبيــة الغربيــة فــي القرن العشرين.

وبعــد أن يحــدد ركائــز النظريــة العربية التي راكمت منتَجهــا النقدي في رأيه حول ستة مدارات أساسية هي: الأدب بــن المحــاكاة والإبــداع - الإبــداع باللغــة - الصــدق والكــذب - الســرقات الأدبية/ التنــاص - الموهبــة والتقاليــ­د- الشــكل والمضمــون. يقــوم حمــودة، فــي كل ركيز بعقد مقارنــة بين وجهة نظــر النقاد العرب القدمــاء ومــا انتهى إليــه النقــاد الغربيون في القــرن العشــرين فــي قضايــا تلتصق جوهريا بهــذه المدارات الســت. لينتهي إلى استخلاص النتيجة التالية: توافق نظري بين النقدين العربي والغربي في العمــق، واختلاف فــي لغتهما التعبيرية العلمية.

فقد انتهــى في الركيــزة الأولى )الأدب بين المحاكاة والإبداع(، إلى الاقتناع بأن مفهوم الجرجاني عن المحاكاة يتضمن نظرية أدبية كاملة تتعلــق بجوانــب الإبــداع والتلقي ووظيفة الشــعر، وهــي جوانب - على حد تعبيــره تؤكد عصرنة عبد القاهــر وتعرضــه لمعظــم القضايا التــي أصبحــت محــاور أساســية للجدل طوال القرن العشــرين. وفــي الركيــزة الثانيــة )الإبــداع باللغــة( يكتــب صاحــب المرايــا المقعــرة: «وحينمــا نتحدث عــن الاســتخدا­م الخــاص للغــة، أو المجــاز، نجــد أنفســنا فــي قلــب النظريــة الأدبيــة العربيــة مــن ناحيــة، وفي قلــب كل الجــدل الــذي عاشــه نقد القــرن العشــرين، مــن ناحيــة ثانيــة». أمــا الركيــزة الثالثــة )الصــدق والكــذب( التي اســتقطبت جهدا وافــرا مما كتبه النقاد العــرب القدماء، فقد لاحظ عبد العزيز حمــودة أن الرأي النقدي العربي في شــأنها قد تطور باســتمرار إلى أن وصــل للــذروة مــع حــازم القرطاجنــ­ي «الــذي يمكن القــول بــأن آراءه حول قضية الصدق والكذب تقدم مذهبــا جماليا عربيا مبكرا لا يقل عن أفضل مــا قدمته جماليات نهاية القرن التاســع عشــر وبدايات القرن العشرين الميلاديين .»

أما في الركن الرابع )الســرقات الأدبية/ التنــاص( فيذكــر الناقــد بدايــة بــأن هــذا المحور شــغل مســاحة واســعة في ما كُتب في الدرس النقــدي القديم إذ «لا يكاد يوجد بلاغي عربي معروف لم ينشــغل، بدرجة أو بأخرى، بقضية الســرقات بين الشــعراء،» «وإذا نقينــا مفهــوم التنــاص المعاصــر من بعض شــطحاته يقول عبــد العزيز حمودة التــي تفتــح مــا أســميه أبــواب الجحيــم، وأبرزهــا كــون النص كيانــا مراوغــا دائم التغير والتحول، ولا نهائية الدلالة، أي بعد ترويــض المفهــوم وتقليم أظفــاره وأظلافه الجارحــة، يصبــح التناص فــي الواقع هو الصياغة ما بعد الحداثية البراقة للسرقات الأدبيــة المقننــة التــي عرفهــا عبــد القاهــر الجرجاني بـ «الاحتذاء».

وفيمــا يتعلق بالركن الخامــس )الموهبة والتقاليد( أي البحث في ما يجعل الشــاعر شــاعرا، يلاحــظ صاحــب المرايــا أن هناك اتفاقــا بين البلاغة العربية والغربية في هذا المبحث النقدي؛ فمقومات الشــاعرية تكمن فــي «الموهبــة والتقاليد فــي النقــد الغربي منذ حدد إليوت ذلك فــي مقاله الذي يحمل العنوان نفسه في السنوات المبكرة من القرن العشــرين، وهي قوة الرجل وقــوة اللحظة عند ماثيو آرنولد في الربع الأخير من القرن التاســع عشــر. وهي «الطبع» و«الصناعة» أو «الصنعــة» في البلاغــة العربية القديمة. ومــرة أخرى تؤكد البلاغــة العربية ريادتها المطلقة في تطوير وعي مبكر بهذا الركن من أركان النظرية الأدبية.

أمــا المحــور الســادس والأخيــر الــذي تولــدت عنــه نظرية النقــد العربــي القديم، حســب عبــد العزيــز حمــودة، فهــو محور )الشــكل والمضمــون؛) «ســوف يدهــش القــارئ يقول عبــد العزيز حمــودة، للنظرة الشــاملة والمفصلــة التــي تنــاول بهــا البلاغيون العرب قضية الشــكل والمضمون فــي كل تشــعباتها وبطريقــة تجعــل ذلــك الجدل القديم جديدا في كل شيء». يضيف الناقد: «لا نســتطيع مناقشة قضية الشكل والمضمون بمعزل عن ثنائية اللفظ والمعنى، أو الصــورة والمــادة، أو الأدب والأخــاق، أو نظريــة النظــم والضــم. وفــي ظــل ذلك الربط الحتمي بكل تلك قضايا، بل بســببه، تعددت مواقف البلاغيين العرب، تماما كما تعددت مواقــف النقاد المحدثــن في القرن العشــرين. فالقصيدة لا تأتــي إلى الوجود مفرغــة مــن المعنــى، والمعنى الشــعري هو الآخر، لا يوجد إلا في القصيدة، في الشكل أو الصــورة الفنيــة. «ويرى الناقــد أن عبد القاهر الجرجاني قد وصل بموقف البلاغة العربيــة القديمة من الشــكل والمضمون إلى ذروة حداثتها، إنه التمهيد الناضج للموقف المماثل مــن قضيــة الشــكل والمضمون في عصرنا الحديث .»

بهــذه المنهجية حاول عبد العزيز حمودة أن يســتجلي النظريــة العربيــة فــي النقد: يســتعرض الموقــف النقــدي العربــي ممــا أســماه بالركائز الست وعينه على القضايا التي أثارتها الشعرية المعاصرة. وفي خضم كل هــذا الجهد الذي بذله في الاســتقصا­ء، كان الســؤال ملحا في ذهننا عــن معالم ما أســماه «النظرية النقدية العربيــة». إن مثل هذه المقارنات المثبتة للســبق العـــــرب­ي لكل مــا درســته النظريــة الغربيــة الحديثة في الأدب، من شــأنها في النهاية أن تجعلـــــن­ا نتصــور، عكس طمــوح الكاتب، بــأن كل ما هو رائج في النقد الغربي الحديث هو نفسه النقــد العربــي القديم! ومن ثم نتســاءل: ما الحاجة إذن إلــى كل هذا الكلام عن النظرية النقديــة العربيــة أمــام هــذا التشــابه فــي الأســس والمنطلقات، بل حتى في المضامين الفرعيــة؟ وما أهميــة التنصيص على عبارة «النقــد العربــي» إذا كانت النهاية ســتؤول إلى النظرية الغربية حتما؟

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom