Al-Quds Al-Arabi

هل هي الإسكندرية؟

- ٭ روائي لبناني

الأغلــب أنها الإســكندر­ية، تلــك المدينة التي أطلق عليها روبير سوليه اسم «ناري». هو اسم غريب، قليــل وغير كافٍ، وهذا مــا يحملنا على الظن أنه مســتعار. لكن إســكندريت­نا هذه قليلة هي أيضا، حســب ما تصف الرواية. فندقان أو ثلاثة فنادق فقط، ثم المرفأ، والفنار. ذلك أن بشر ناري مقتصرون هنا على الطبقة الأرستقراط­ية المقيمــة في فندق مهرجان الــذي تحمل الرواية اسمه. كان علينا، توازيا مع تساؤلنا عن الاسم الحقيقي للمدينة، الإسكندرية مثلا، أن نتساءل عن الاســم الحقيقي للفنــدق، فالروايــة تتقدّم لنــا بكونهــا ســيرة لفنــدق شــهير كان جامعا لارســتقرا­طيي أبنــاء الطوائــف، من مســلمين ويهــود ومســيحيين، كمــا للســياح المولعــن بالمدينة وفندقهــا، حتى أن بعضهم قرر الإقامة فيها إقامة دائمة.

في ذلك الزمن، البــادئ من ثلاثينيات القرن الماضي، كان ســكان المدينــة المختلفون مقيمين معــا. ســعداء وإن شــعر غيــر المســلمين منهم بأنهم، حســب الروايــة، مواطنون مــن الدرجة الثانيــة. بعض هؤلاء ولد في المدينة، أو ســبقه إلى سكناها أهله أو أجداده، ولكنه ليس مواطنا شــرعيا فيها، ذلك في ما خــصّ اليهود أولا، ثم الأرمن، ربمــا لذلك كان الأولون أول الخارجين، مطروديــن، إثر العدوان الثلاثــي على مصر في 1956، ثم بعــد عقود قليلة تلــك، تبعهم الأرمن، ثم كثير من المســيحيي­ن إثر تعرضهــم لعمليات التفجير التي قام بها متطرّفون إسلاميون.

ومطابقــة لذلك التدرج في المغادرة والرحيل كان فنــدق مهرجان يغيّر رؤســاءه. كان أولهم يهوديــا، ثــم تبعــه فــي الرئاســة أرمنــي، ثــم مســيحي )لوقا(، وهــو الشــخصية الأبرز في الرواية والأكثر قربا مــن الفتى راوية أحداثها؛ ثــم، في نهايــة المطاف، وقبل أن يــؤول الفندق إلــى الانهيــار، تــولاه رجــل مســلم مقــرّب من محافظ المنطقة. الأكثر كفــاءة في إدارة الفندق كان أولئك السابقون، اليهودي والأرمني تاليا. لــم يحالف الحظ لوقا الذي أتــى من بعدهما إذ لــم يعــد رواد الفندق هم أنفســهم إثــر التأميم الــذي أطلــق يد الســلطة فــي التدخــل وتعيين الموالــن لهــا. المهــم أن الروايــة لم تجعــل ذلك التدرّج، ملحوقا بتبعاته، غايتها الأولى. فهناك، إلــى ذلــك، التاريــخ التفصيلــي بكل مــا يتعلّق بالمــكان ومتابعــة لــكل تراجــع يطرأ علــى تلك التفاصيــل، من الأثــاث إلــى أدوات المطبخ إلى لباس العاملــن، كما أزياء الرواد، فإلى ســائر ما يأتي به تراجع مؤسســة كانــت تدار بكفاءة عاليــة. روبيــر ســوليه، راويــة ســيرة الفندق، شــاهد أكثــر بكثيــر مما يتــاح لنزيل فنــدق أو لمتــردّد على أجنحته. في مــكان ما يقول إنه بدأ بكتابة الرواية في يفاعته، وهو اســتمر ملازما للفندق، عيشا وكتابة، حتى تحوله طللا.

ويصعب أن نلمّ بهــذا القدر من التفاصيل إن لم يكن موضوع الكتابة محتلا لتلك الأهمية في حياة الراويــة. كان الفندق محط أحلام الصبي مــن قبــل أن يضــع قدما أولــى في داخلــه، ثم انعقــدت له صداقات هناك، ثــم غراميات أولى أو أوهــام غراميــة تجــاه نســاء يســاوين أمه عمــرا. زوجتا رئيســي لفندق بهرتــاه، أولاهما خصوصــا، تلــك التي، فــي يــوم أن دُفعت إلى المغــادرة مــع زوجهــا، غفلــت عن ســقوط أحد قرطي أذنيها في جناحها، فالتقطه الولد، وظل محتفظــا به حتى بلوغه الخامســة والعشــرين وأتيــح له لقــاء تلك المــرأة الفاتنة فــي باريس، حيث بات يقيم كل منهما.

فنــدق مهرجان واحــد من الأمكنــة الحاملة لحنين الماضــي كله، شــيء مثل فيلم «ســينما باراديــزو»، أو فيلــم «أماركــورد» لفلينــي، أو العشــرات، بــل ربمــا المئــات مــن الأعمــال الســينمائ­ية والروائيــ­ة. الروائي ســوليه حمّل الروايــة شــغفه بذلــك الماضي، رغم معايشــته للفقــدان، فقدان الآخريــن الذي، في مــا هو ما يــزال يافعا بعد، كان يتعاقــب في الذاكرة التي تنمو. في أحيان أصابه ذلك الفقد بسهامه، مع رحيل عائــات الأخوال والأعمام عــن البلد، ثم مع وفاة خاله، الأقرب إليه من الباقين جميعهم، مقتــولا هناك على طريق كانت في أيام ســابقة للفتى طريق أحلامه ولقاءاته الغرامية المبكرة.

هذا العالم الطفلي لم يُترك للشغف والحنين وحدهمــا، إذ ربمــا ولّى الزمن الــذي كان يمكن للشــغف والحنين أن يصنعــا، لوحدهما، عملا روائيا. ســوليه، الذي تذكّرنا روايته بالأغنيات التــي أهدتهــا المغنيــة داليــدا لمصر، لكــون كل منهما عاش قســما مــن حياته فيهــا، حمل في روايته انكســار الكوزموبول­يتيــة فيها، واصفا حتى خوفه المبكر المســبق من هشاشة دعائمها واحتمال زوالها، من أن ذلك النعيم الذي عرفته لم يكن له أن يستمر ويبقى، ثم إضافة إلى زوال ذلك العالــم، كانــت الرواية مرافقــة للتحولات السياســية الجارية في مصر، من زوال الملكية، ثم 1952، ثــم العدوان الثلاثي، ثــم الهزيمة، ثم عهــد الســادات. هــي روايــة حنــن إذن، لكنها أيضــا رواية عاقلــة إذ يظهر كاتبهــا متمكنا من مجرياتهــا، كمــا مــن بنائهــا أيضا حيــث، في صفحاتهــا الأخيــرة على ســبيل المثــال، أبقى قرّاءه مشــدودين إلى النهايــة التي لم تغفل عن شخص أو شــيء سبق ظهوره، أو وجوده، في الروايــة. كانت تلــك خاتمة شــاملة جمعت كل شــيء في نبرتها الحزينة، لكنه الحزن الجميل المؤاخي للتذكّر.

*روايــة «فنــدق مهرجــان» لروبير ســوليه كتبت بالفرنســي­ة وقد نقلها أدونيس سالم إلى العربية عن دار نوفل، في 279 صفحة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom