Al-Quds Al-Arabi

لو كان المعري وأبو فراس الحمداني زعيمين عربيين!

-

عاش المعرّي وأبو فراس الحمداني في فترتين تاريخيتين متقاربتين، تركتــا عناصر تأثير كبيرة على شخصيتيهما، ولكنهما، كشاعرين، مختلفان اختلافا كبيرا، ولعل أكثر ما يظهر هذا الخلاف في بيتي شــعر لهما يتناقض معناهما تناقضا هائلا، وهو أمر يستحق تفحّص الفرضيّة الخيالية التي يقترحها عنوان هذه المقالة.

ولــد الحمدانــي عــام 932 ميلاديّة، فــي حلب، وهــو ابــن عــمّ حاكمهــا الشــهير ســيف الدولة الحمدانــي، الذي ارتبط اســمه ارتباطــا تاريخيا شــهيرا باســم الشــاعر الكبير أبي الطيب المتنبي )المولــود عــام 915 والمتوفى عــام 965(، ومفهوم طبعا أن موهبة المتنبي وحظوته عند سيف الدولة جعلتاه في موضع تنافس مع أبي فراس، الذي لم يحظ بشهرة وحظوة المتنبي.

أما أبو العــاء المعرّي، فولد عــام 973 ميلادية فــي معــرّة النعمــان )مــن مــدن محافظــة إدلــب السورية حاليّا( وتوفّي فيها، وكان أحد المعجبين شــديد الإعجاب بالمتنبي إلى حدّ تأليفه كتابا عنه عنوانه «معجز أحمد.»

جغرافيا وزمانيا، كان ممكنا للاثنين أن يلتقيا، فبــن المدينتــن، على مــا يخبرنا غوغــل، أقل من 80 كيلومتــرا، لــولا أن الحمدانــي قتــل بعمــر 35 عاما خــال معركة مــع الروم عــام 968 ميلادية، ولو عاش خمس ســنوات أخــرى لتصادف ذلك مــع ولادة أحمــد بــن عبد اللــه التنوخــي )الملقب بالمعــرّي(، أما لو عــاش عشــرين أو ثلاثين عاما أخرى لكان ســمع به أو التقاه حين جاء إلى حلب بعد اشــتهاره )وكان قد زارها قبلا للدراسة بعمر 13 عاما(.

تاريخ المواجع

كانــت بــاد الأناضــول حينهــا مركــزا للإمبراطور­يــة البيزنطيــ­ة التــي كانــت تشــن الهجمــات علــى حلــب ومعــرّة النعمــان، وقــد استطاعت جيوشها الاستيلاء على الأولى وطرد الحمدانيــ­ن منهــا )لكن الحمدانيــ­ن نجحوا بعد ذلك في استعادتها بعد سنوات(.

وكانــت مناطــق بــاد الشــام، المتاخمــة للإمبراطور­يــة البيزنطيــ­ة، تعتبر ثغــورا ومناطق رباط لعسكر المســلمين لصد الهجمات المقبلة من أرض الروم )أرضروم كما يسميها الأتراك الآن(، ولعله كان خارج إطار التفكير بالنسبة لأبي فراس أو المعرّي أن تتبدّل موازين الجغرافيا السياســية خــال قرابة قــرن مع قــدوم الســاجقة الأتراك من سهوب آســيا الوســطى )أجداد العثمانيين( لينتصروا على البيزنطيين في ملاذكرد عام 1071 ويســتولوا علــى كامل شــبه جزيــرة الأناضول خــال 20 عامــا. ستســتمر حــروب الجغرافيــ­ا السياسية/الدينية مع هبوب الحملات الصليبية، التــي بــدأت عــام 1095 وســوف تتعــرض معرّة النعمان لمذبحة مهولة على يد أفراد الحملة الأولى عام 1098 )هناك روايات متعددة عن شيّ الأطفال وأكل الصليبيــن للناس(، وســتقوم إحدى هذه الحملات )الرابعة منها( باجتياح القســطنطي­نية، عاصمة المســيحية الشــرقية، نفســها عام 1203، ولكنهــا، في جولــة لاحقة، ستســقط فــي أيدي العثمانيين عام 1453 ليؤشر ذلك إلى نهاية أخيرة للإمبراطور­يــة البيزنطيــ­ة بعد صمــود دام قرابة 1500 عام، وســيكون سقوطها بعد قرابة 5 قرون من زمن الحمداني الذي كان أسيرا فيها.

حزن الحمداني وتشاؤم المعري

يفيــد هــذا العــرض التاريخــي في فهــم غلبة أحوال التفجــع والعتب والحزن علــى أبو فراس خلال فترات أسره )يروى أنه أسر ثلاث مرات(، وقــد تنفع أيضــا في تفســير المزاج الســوداوي والتشــاؤم­ي للمعــرّي أيضــا )وتقلّبــات المتنبي أيضــا(. ولو كانــت روح الحمداني مــا تزال تطلّ علينا فلعله ســيجد بعض العــزاء حين يعلم أن أم كلثوم، أشــهر مطربات العرب، غنّت له مقاطع من قصيدتــه الشــهيرة «أراك عصيّ الدمــع» بألحان مختلفــة لملحنــن مختلفين. وهو مــا يوصلنا إلى شــطر البيت الذي نريده في تلــك القصيدة والتي يقول فيه: إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر! يتمنّى أبو فراس، بكل بســاطة، ألا ينزل المطــر على أحد من البشر إذا مات هو من العطش!

أما المعرّي فقــد رأى مذهبا آخــر مختلفا تماما فــي هــذا الموضــوع ولعلّــه كان يرد بــه على بيت الحمداني الشهير، إذ قال:

فلا نزلت عليّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلاد

مقصــود المعرّي واضح: إذا لم يهطل المطر على كل البــاد فــا أريد أن يهطــل في أرضــي، وهذا مثال هائــل على الغيريّة والإحســاس بالآخرين، وبشكل معاكس تماما لمعنى بيت الحمداني. وإذا افترضنا أن «أنانية» الحمداني الكبيرة تلك كانت ناتجا نفســيا لحالة الأســر التي كانــت العنصر الأكثــر تأثيرا علــى حياتــه القصيرة )للأســف( فعلينــا أن نلاحظ أن المعرّي اعتبر أنه كان أســيرا بطريقتين: لقد حبس نفســه في منزلــه لا يغادره عشرات الســنين، وكان حبيس فقدان بصره منذ طفولتــه والعمى، في هــذه الحالة، هو اســتعارة هائلــة للحبــس )ولذلــك ســمى نفســه «رهــن المحبسين .)»

يمكننــا، بعــد هــذا، أن نعتبــر معنيــي البيتين الشــهيرين مثالين لظاهرتين من ظواهر السياسة والاجتمــا­ع والأخــاق، يمثــل الأولى، بجــدارة، الطغــاة المســتبدو­ن الذين يقبضون على أســباب القوة والنفــوذ والمال والســلطان ويمنعونها عن غيرهــم، ويمثّــل الثانيــة الغيــارى علــى مصالح الأرض والبشــر عمومــا، وفــي إطارهــم يمكن أن نضــع المصلحــن الاجتماعيـ­ـن والثائريــ­ن على الظلــم والديكتاتو­ريــة والمضحّــن بأرواحهم في سبيل قضايا سياسية عادلة.

نتخيّــل، بنــاء على هذيــن البيتين، أنــه لو كان المعــرّي وأبو فــراس زعيمــن عربيين فــإن أغلب الزعماء العرب ســينتظمون فــي مذهب بيت أبي فــراس، وأن عاطفــة الشــعوب العربية ســتحلم بزعيــم على مذهــب المعرّي. يصلح هــذان البيتان أيضا لاســتبيان نفســيّ يمكن اســتخدام نتائجه لتقديم خلاصات إحصائية سياسية واجتماعية وأخلاقيــة، ولا بأس على من يقرأ هــذه المقالة أن يسأل نفسه:

هل أنا على مذهب المعرّي أم أبي فراس؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom