Al-Quds Al-Arabi

التينور الإيطالي أندريا بوتشيلي: كاريزما الصوت ونقاء الإحساس وقوة التكنيك

- مروة متولي٭ ٭ كاتبة مصرية

في ألبومه الجديــد الصادر مؤخراً بعنوان Si يقدم التينور العالمي «أندريا بوتشيلي» مجموعة جديدة مــن الأغنيات لأول مرة منذ أربعة عشــر عاماً، فقد كانت ألبوماته في الفترة السابقة تركز بشكل كبير على فن الأوبرا لحرصه على تسجيل أشهر الأوبرات والآريات والأغنيات الكلاسيكية بصوته والعمل على توصيلهــا لجمهوره الكبير حول العالم، فهو من أكثر المغنين مبيعاً في تاريخ الغناء، وربمــا يكون الوحيد الذي بيعت أكثر من ستين مليون نســخة من أعماله حتى الآن، وربما يكون الوحيد أيضاً من بين نجــوم الأوبرا الذي اســتطاع اكتساب هذه الشــعبية الهائلة وتمكن مــن أداء الأوبــرا والبوب والغناء الكلاســيك­ي بنفس بالإتقان نفسه ، وحقق ما لم يستطع غيره تحقيقه، وصنع طرازه الفني الخاص واختار أن يكون قريباً مــن الناس وأن يقرب إليهم هذا الفن الرفيــع ويمنحهم متعة تذوقــه، لا أن يكون ذلك البطل الخارق البعيد والمســتحي­ل، ولا شــك في أن التينور هو بالفعل ذلــك البطل الخارق الذي يتطلــع إليه الجميــع وهو يصارع هــذا الكون، ويظل بطلاً حتى وإن هُزم، ولا شــك أيضاً في أن لصوت التينور رونقه وسحره الخاص الذي ربما لا يضاهيه أي صوت آخــر، فالتينور هو الصوت البطل في جميع الأوبــرات ومن أجله قام عظماء الموســيقي­ين بكتابة أجمل الألحــان، وتأتي بقية الأصوات في الأدوار المساندة له.

يمتلك «بوتشــيلي» ذلك الصوت الذي يجسد البطولــة والدرامــا والحب والجمــال الذكوري في أعلــى درجاته، وقام بأداء أهــم الأدوار على المســرح في أشــهر الأوبرات العالميــة وأجملها، كتجسيده لشخصية «دون خوســيه» في أوبرا كارمن لبيزيه، وشــخصية «رودلفــو» في أوبرا لابوهيم لبوتشيني، وشــخصية «كافاردوسي» في أوبرا توسكا لبوتشيني أيضاً. وبفضل مولده ونشأته في توسكاني بإيطاليا يتميز بتمكنه من التقاليد الإيطالية العريقة في الغناء، وبامتلاكه للأســلوب الإيطالي الخالص وخصوصاً أسلوب «بيل كانتو» القديم، هذا التكوين الإيطالي البحت على الرغــم من انفتاحــه على أســاليب أخرى وتمكنه من تقنيات كثيرة مختلفة يمنحه ســحراً طبيعيــاً غير مصطنع، ويشــبه صوته في بعض الأحيان في غنائه العذب الهادئ صوت أســتاذه وصديقه «بافاروتي» الذي لقنه مبادئ وأســرار فــن الأوبرا العظيم، ودعمه بشــدة فــي بدايته وكان السبب في شــهرته وانطلاقته الفنية، وقد امتدت صداقتهما حتى وفاة «بافاروتي» في عام 2007 وقام «بوتشيلي» بالغناء في جنازته، وهو بالطبع لا يمتلك طبيعة صــوت «بافاروتي» الفذ وقدراتــه الهائلة لكنه يمتلك جمال أســلوبه في الغناء.

الوسيم الجذاب القريب من الجمهور

كان تقديم صورة عصرية وجماهيرية للتينور هو ما فعله «بوتشــيلي» منذ بداياته، فقد اشتهر كنموذج للتينور الوسيم الجذاب القريب والمحبب لدى الجمهور، وقدم الكثير من أغاني البوب، كما قام بالغناء مع العديد من المغنين الشــباب الذين ربما لا يملكــون جمال الصــوت ولا الكلمات ولا الألحان لكنهم يحظون بشعبية كبيرة ويعتمدون علــى قوة التســويق، وهــو ما جلــب له بعض الانتقادات من نقاد وجمهور الأوبرا العتيد الذي لا يتســامح في بعــض الأحيان مع مــن لا يكون ولاؤه خالصاً للأوبرا، وتعرض لبعض محاولات التشــكيك في قدراته الصوتيــة وتصنيفه ضمن نجوم البوب لا نجــوم الأوبرا، ومقارنته بنجوم الأوبــرا الآخرين مثل «دومينغــو» و»كاوفمان» و»فلوريس» وهي مقارنة خاطئــة بالطبع، فإذا كان «بوتشــيلي» لا يستطيع أن يغني مثل أي من هؤلاء وأن يأتي بتســع نوتات عالية «هاي سي» متلاحقة في أغنية واحدة، فإن أي من هؤلاء أيضاً بقدراته الصوتية الهائلة لا يستطيع أن يغني مثل «بوتشــيلي» بتلك العذوبة والانســيا­بية، وقد حــاول «دومينغو» على ســبيل المثــال أن يغني بعض الأغنيات الخفيفة مــن قبل ولم ينجح ولم يكن مقبــولاً لأنه لم يســتطع التخلــي عن ذلك التكلف والحذر الذي يتطلبه الغناء الأوبرالي.

أغنيات بالإيطالية والإنكليزي­ة والفرنسية

يتميز الألبــوم الجديد بالتنوع من حيث اللغة والأنواع الموســيقي­ة وأســاليب الغنــاء، فيضم أغنيــات بالإيطاليـ­ـة والإنكليزي­ة والفرنســي­ة، بالإضافة إلى أغنية بلغة الماندرين ونسخ باللغة الإســباني­ة لأغلب أغنيــات الألبــوم، وقد عمل «بوتشــيلي» مع عدد كبير من الفنانين على إعداد هذا الألبوم وتعاون مع أمهــر العازفين وأكثر من أوركسترا في تسجيل الأغنيات، كما شارك بنفسه في العزف على البيانو، فهو قد عمل لفترة طويلة في بداية حياته كعــازف للبيانو من أجل تغطية نفقات دروس الغناء ودراسته للقانون، ونستمع في هــذا الألبــوم إلى كل مــن البــوب والأوبرا والغناء الكلاسيكي بالإضافة إلى الغناء الديني حيث الهــدوء والســكينة والنفحات المقدســة والنــور المنبعث من صوتــه في أغنيــات «آفي ماريا» و«غلوريا» و «ميديتاســي­ون» التي تظهر قدراته الصوتية الأوبرالية وتمكنه من الطبقات العالية وتناغم صوته المتصاعد بقوة مع الكورال الكنســي، وهي أغنيــات عن الشــكر والتمجيد والحب العظيم الأبدي، وأغنيات هدهدة الأطفال كأغنية «دورمــي دورمي»، ونســتمع أيضاً إلى الموسيقى الكلاسيكية ومقطوعات لكل من «باخ» و»شوبرت» و»ماســينيه» من خلال إعادة غناء بعض أغنياتهم وتأليف كلمات جديدة على بعض مقطوعاتهم الموســيقي­ة الشــهيرة، وقد اتسمت موسيقى الألبوم بشكل عام بالميلودية والتلوين الأوركســت­رالي، واتســم الغنــاء بالتــوازن النموذجي بين التكنيك والإحساس بالإضافة إلى التحكم التام في كافــة النوتات والتنغيم المثالي وتلويــن الصــوت، وامتزاج الصفــاء الروحي بالرنين الحلو والقوة الدرامية في صوته الرائق الجميل الذي يتدفق بانســيابي­ة ويتألق بأناقة الثراء والتكثيف، ويبدو «بوتشيلي» الذي احتفل في سبتمبر الماضي بعيد ميلاده الستين أكثر قدرة على منح المزيد من الجمال والهدوء والطمأنينة، وقد اختار لألبومه عنــوان Si بمعنى «نعم» ولا توجد أغنيــة في الألبوم تحمل هذا العنوان، لكن يشــعر المســتمع بإيجابية هذه الكلمة في كافة الأغنيات التي تبعث الشــعور بالانفتاح والتقبل وقول نعم للحياة، للحرية، للإيمان، للشــجاعة والقــوة والمثابرة، لكل ما هو جميل ورائع، للأمل حتى وإن كان سعياً وراء سراب.

كلمة «الحرية» مــن أكثــر الكلمــات التــي تكــررت فــي هــذا الألبــوم الــذي يبدأ بأغنيــة «آلــي دي ليبرتا» وهي مــن أجمل وأقــوى أغنيات الألبــوم، تبدأ هادئة بنغمات البيانــو البطيئة ثم يتداخل معها صوت بوتشــيلي بغناء بطيء يتصاعد تدريجياً إلى أن يبلــغ ذورته مع جملة «آلــي دي ليبرتا» وكأنه ينطلق ويحلــق عالياً، وتنتهــي الأغنية بنفس نغمــات البداية الهادئــة، وهي أغنية عن القلب المهاجــر بحثاً عن الحريــة، وعن مواجهة الكون واتباع ســراب الأمل الذي يتطلب الكثير من الشــجاعة، وعــن المضي باتجــاه الغد غير المؤكد والاحتفاظ بروح نقيــة والتحرر من عالم يحتجزنا كرهائن. وعن الحرية أيضاً تأتــي أغنيــة «أونا أنيما» وعن ضرورة البحث عنها وراء كل ســراب دون استسلام، وهي أغنيــة أوبرالية أكثر صرامة تتميز ببــروز واضــح لــآلات الوتريــة وذات طابع شعري روحانــي بعــض الشــيء، تصف رحلة يمضي فيها المــرء وحيداً كالأنبياء والقديسين تخلدها آثــار خطواته علــى الرمال، هي رحلة البحث عــن الحرية أو هي رحلة الروح التي تبحث عن شــيء ما وتتوق إلى أن تصدق وتؤمن بشيء ما. أما أغنية «فيفو» فهي من أكثر أغنيات الألبوم تميزاً وجمالاً، يغنيها لأحدث زوجاته «فيرونيكا» ويبدو صوته فيها مشــرقاً يمتلئ بالحب، ويصل إحساســه الصادق إلى المستمع الذي يكاد يشعر بســعادته ويســتمع إلى دقات قلبه العاشــق، وهي أغنية بالإيطالية يقــول فيها: إنه لن يموت أبداً لأنــه يحيا بــن ذراعيها ويصف شــعوره بالأمان معها وما تمنحه إياه من سعادة وشعور بالحياة، ويقول أنه لــم يعد هناك وجود للظلام في وجودها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom