Al-Quds Al-Arabi

توازن القوى الدولية وتشكيل التاريخ الحديث

- د. أحمد سالم سالم * كاتب وباحث مصري

إذا كان الإيطالي مكيافيللي )1469-1527( هو أول من أشــار في كتاباته إلى توازن القوى في العلاقات الدولية بشكل غير مباشــر، فإن الفيلسوف الإنكليزي فرنسيس بيكــون )1561-1626( هــو أول مــن بلــور المصطلــح السياسي بمعناه الحديث، ثم استخدمه الملك الإنكليزي وليــم الثالث )حكــم 1689-1702(، بصفتــه حاكمًا من منطلق سياسي في سبيل الحد من النفوذ الفرنسي، لكن قد تم إدراك مغزاه تمامًا قبل ذلك منذ القرن السادس عشر ليصبح أحد المحددات الرئيسية للسياسة الدولية.

توازن القوى

إذا تحدثنا عن التوازن فلابد لنا من أن نذكر الصراع، أحد السمات الأساسية الُمشَكِّلة للتاريخ الإنساني، الذي ينبثــق منه بشــكل أو بآخر ذلك التــوازن، فهما وجهان لعملــة واحدة، لكن ليس من الشــرط أن يكــون صراعًا بالمعنى المفهــوم، بل يعني في الغالب التطلع إلى التفوق، ذلك الهاجس المستمر لدى الجماعات البشرية منذ القدم، فضلاً عن الكيانات السياســية، وطالما ظــل هذا التطلع داخل إطار نظام معين، وشــرعية مقبولــة يظل التوازن قائمًا، أما إذا خرجت دولة خارج هذا الإطار بزيادة قوتها بإفراط، أو تطلعت إلى الهيمنة أو التعدي بشــكل ســافر على مكتسبات دول أخرى، يُحْدِث هذا إخلالاً بالقوى، ما يؤدي غالبًا إلى الحرب.

لم يكن الالتفــات إلى توازن القوى بين دول أوروبا إلا نتيجة لبداية تَعقُّد هذا المفهوم مــن الناحية العملية منذ بدايات العصور الحديثــة، إذ كان توازن القوى قبل ذلك توازنًا بســيطًا بين دولتين، تدور في فلكهما الجماعات أو الكيانات السياســية الأصغر، كما كان الحال مع الفرس والروم )البيزنطيين( أو المســلمين وأوروبا المســيحية إبــان العصور الوســطى. لكن مع تطور مفهــوم الدولة وشــكلها في العصر الحديث، نشأ ما يســمى في العلوم السياســية بالتوازن المركب، أي تواجــد أقطاب دولية عدة تتناســب في القوة مع بعضها، مع ذلك ظل التوازن البســيط متواجدًا يظهر من حين لآخر على مدار التاريخ الحديث، فهو ـ كما يشير علماء السياسة - الآفة الكبرى المسببة للحرب، لأن طبيعته تكمن في المعارضة المباشرة والتنافس الصريح، بعكس توازن الأقطاب المتعددة الذي يعتمد على المناورات السياسية والدبلوماس­ية، ما يفسح مجالاً للاستقرار العام، فإن حدث تصادم يكون محدودًا في إطار التوازن القائم.

ظل التــوازن فــي القــارة الأوروبية طــوال العصر الحديث، الركيزة الأساســية للسياسة العالمية، باعتبار أن القوى الأوروبية هي المهيمن الرئيس على معظم أقطار العالــم القديم والحديث. ورغم أن علاقــات دول أوروبا قبل الثورة الفرنسية كانت تتخذ طابعًا عائليًّا بين الأسر المســيطرة على عروش القارة، التــي ارتبطت في كثير من الأحيان بوشــائج المصاهرة، فبــدت امتدادًا لبعضها بعضــا، إلا أن هناك عوامل أخرى دفعــت عجلة الصراع الذي حدد موازين القوى، أبـــرزها العـــامل الديـني أو الأيـديولو­جي.

برز العامل الديني أولاً على ســاحة الصراع الأوروبي إبــان العصــر الوســيط، حيــث النــزاع بين الشــرق الأرثوذكسـ­ـي والغرب الكاثوليكي، ورغم التعدد العرقي لأمم أوروبا بين ســاف وبلغار ولاتــن، إلا أن التعصب الدينــي كان غالبًا على التعصــب القومي، وهو ما حصر الصراع بين مكونات رئيســية ثلاثــة، المذهبين الكبيرين للدين المســيحي فــي أوروبا من ناحية، والمســلمي­ن من ناحية أخرى. وربمــا وجدنا في بعض الأحيــان تكاتفًا بين مكونين من هــذه القوى أمام الثالثــة، كما حدث في محــاولات التوحيد بين المذهبين المســيحيي­ن إبان تهديد محمد الفاتح للقســطنطي­نية، وقد تم الأمر بالفعل بتنازل من أساقفة الكنيسة الشرقية في القسطنطيني­ة لاستجداء وقوف القوى الغربية بكامل قوتها أمام التقدم الإسلامي، لكن الأمر لم يفلح على مستوى الشعوب، نتيجة للتاريخ الدموي الطويل بين الفريقين، وحتى القيادات السياسية لم تُقدِّم سوى مســاعدات محدودة لم تجد نفعًا، تاركين القسطنطيني­ة لمصيرها المحتوم.

وعندمــا ســقطت الدولــة البيزنطية الممثــل للعالم الأرثوذكسـ­ـي، ليحــل محلهــا العثمانيون المســلمون، خضعت الشــعوب الأرثوذكسي­ة في شــرق القارة للقوة الإســامية الجديــدة، فبــدا وكأن التوازن انقســم بين مكونين، لكن الأمر كان مختلفًا على الأرض، إذ بدأ الصراع الفرنســي الإســباني على إيطاليا، وازداد هذا الصراع عمقًا عندما ورث شــارل الخامس، حفيد ملكي إســبانيا فردناند وإيزابيلا، عروش ممالك عدة في أوروبا، أبرزها عرش هابســبورغ في النمســا، ليتوَّج بعدها إمبراطورًا للإمبراطور­ية الرومانية المقدسة، ولتميل كفة الميزان في أوروبا بشدة لصالحه، فاضطر بيت بوربون في فرنسا، وعلى رأســه فرنســوا الأول، إلى الدخول في تحالف مع السلطان العثماني سليمان القانوني، الوحيد في أوروبا القادر على الوقوف أمام عدوه المتنامي، مستثنيًا العداء الديني في ســبيل تعديل الاختلال الحــادث في التوازن بينه وبين الملك الإسباني، وذلك هو مثال لتحالف الأنظمة المتنافرة الذي يقوم على المصلحة الآنية بدون توافق، لذا سرعان ما ينفض بأي طارئ يغير ملامح المشهد.

تغييرات جذرية

وبالفعل دخل معامل جديد أعــاد مرة أخرى الجانب الدينــي إلــى الواجهــة، مُحدثًــا تغييــرات جذرية في الصراعات والتحالفات السياســية فــي القارة، إذ بدأت حركة الإصلاح الدينــي على يد مارتن لوثــر في ألمانيا، لتناهض الكنيســة الكاثوليكي­ة وبالتالــي راعيها الأول الإمبراطور والملك الإسباني، وهنا لم يقتصر التهديد على النفوذ الروحي للكنيسة، وإنما كان التهديد هو الانتقاص من قوة ونفوذ هابسبورغ على الأرض، لتبدأ على إثر ذلك سلسلة من الحروب الدينية شاركت فيها تقريبًا بشكل أو بآخر كل بلدان وشعوب وســط وغرب القارة، وتستمر حتى عقد معاهدة ســام وستفاليا عام 1648، لتبرز دول جديدة فاعلة على ساحة الصراع، ويتشكل واقع وتوازن جديد، كما يحدث عادة بعد الحروب العامة. هكذا تكتمل المعادلة: إخلال بتوازن القوى يــؤدي إلى الحرب، التي تؤدي بدورها إلى إعادة تشكيل توازن القوى.

يتلخص الصراع الطويل المتعــدد الأبعاد الذي أُطلق عليه «حرب الثمانين عامًا»، في محاولة هابسبورغ فرض الهيمنة على القارة، وسحق الثورات الدينية من ناحية، ومــن الناحية الأخرى محاولة كافة الأطراف كســر هذه الهيمنة وفرض أمر واقع جديــد، خاصة عبر التحالفات التي تمــت خلال الفترة الأخير التــي أطلق عليها «حرب الثلاثين عامًا». في هذا السجال الطويل امتدت الحرب في أماكن شــتى وتعقد المشهد بتدخل أطراف دولية مختلفة، فتدخلت فرنسا، على ســبيل المثال، لمساندة أمراء شمال ألمانيا، وتدخلت إنكلترا لمســاندة الثــورات في هولندا، وتدخل الأتراك تارة بمساندة اللوثريين وتارة بمساعدة الإنكليــز، فضلاً عــن المواجهة المباشــرة لهابســبور­غ المســتمرة في المجر، وعلى سواحل المتوسط، وفي فرنسا نفســها اندلعت حرب أهلية ذات صبغــة دينية، تدخلت فيها إســبانيا لمســاندة العصبة الكاثوليكي­ة، وتدخلت بريطانيا وهولندا لمســاندة خصومهم. وتصاعد الصراع في عموم أوروبــا منذ عام 1608عندما نشــأت تحالفات أدت إلى توازن بسيط بين كتلتين، الاتحاد البروتستان­تي الذي انبثق من ألمانيا ووقفت في صفه فرنسا وبريطانيا وهولندا والسويد والدنمارك، وبين العصبة الكاثوليكي­ة وعلى رأسها هابسبورغ، مع غياب للدولة العثمانية التي انشــغلت بأمورها الداخلية، ليعترف بيت هابســبورغ أخيرًا في نهايــة الصراع باســتقلال هولندا وبالحقوق الدينية داخل الإمبراطور­ية، وبدا أن هناك إرساء لتوازن قوى جديد، وبداية حقبة ذات أسس دولية جديدة.

صبغة دينية

لقد دفعت هذه الحــرب بصبغتها الدينية إلى الاتجاه نحو تغليب الشــعور القومي، وبدأت دول أوروبا تحديد كياناتهــا والدفاع عنها على هذا الأســاس، ليصير عامل الحسم في تقرير المصير السياسي، رغم استمرار وجود العامل الديني في المشــهد. لقد تشكل توازن دولي جديد استمر نحو قرن ونصف القرن، برزت خلاله دول جديدة كقوى كبرى مؤثرة مــن الدرجة الأولى وتراجعت أخرى إلى الصف الثاني. فمع انتهاء الحرب مباشــرة برز بيت براندنبرغ شــمالي ألمانيا، حاكمًا لبروســيا كقطب دولي مؤثر، بجانب هابسبورغ في النمســا، الذي استطاع أن يظل بعد الحرب قوة كبرى لهــا وزنها، وفي الغرب ظلت فرنســا متصدرة بقوتها العســكرية الكبيــرة، ليتكون مع بدايــة القرن الثامن عشــر تــوازن ثلاثــيّ في قلب القارة، مقابل تراجع دول أخرى مثل إســبانيا والأراضي المنخفضة والسويد. وبدت أن هناك تغيرات على أطراف القارة من الشرق والغرب أثرت على عموم المشهد.

فمن الشــرق بدأ العملاق الروســي في نمــوه المطرد نحو الغرب، ليصطدم بالدولــة العثمانية التي بدأت في التراجع الملحوظ، وليتدخل في شــؤون شــرق القارة، ســواءً في بولندا أو في الأقاليم الأرثوذكسـ­ـية الواقعة تحت السيادة العثمانية، باعتبار أن روسيا هي الوريث لبيزنطة والكنيســة الشــرقية. وفي الغرب اســتطاعت بريطانيا أن تقفز إلى المراتب الأولى بتوسيع مستعمراتها في الهنــد، لتصير الدولــة البحرية الاولى فــي القارة، وليعتمــد التوازن بذلك فــي النصف الثانــي من القرن الثامن عشر على خمسة أقطاب كبرى.

ظل التــوازن قائمًا في القارة علــى حاله رغم وجود العديد مــن النزاعات المســلحة في إطــاره، كالحروب المستمرة بين بريطانيا وفرنسا، وحروب روسيا والنمسا مع الدولــة العثمانية. ولم يَخِلْ بهذا التوازن ويؤدي إلى انهياره سوى قيام الثورة الفرنســية، ومحاولة فرنسا فــرض أيديولوجيت­ها بالقــوة على عموم القــارة في ما يســمى بـ»الحروب النابليوني­ة» التي اجتاحت أوروبا، وهو مــا أدى إلى قيام حــرب عامة تغيــرت مرة أخرى على إثرها الخريطة السياســية للقارة عام 1815 عندما استســلم نابليون بعد معركة واترلو الشــهيرة، لتدخل أوروبا «القرن الدبلوماسي»، كما أُطلق على المرحلة التي حاولت فيها القوى الكبرى تجنب الصراع الشــامل، لكن ما لبثت أن اتجهت إليه بقوة مرة أخرى على إثر تغيرات مفصلية في الربع الأخير من القرن التاســع عشــر، كان أبرزها وحدة ألمانيــا عام 1870 وظهورهــا كقوة عظمى بدأت تخل بتــوازن القوى القائم، لتدخــل أوروبا مرى أخرى فــي مرحلة صراع قومي وأيديولوجي شــامل بلغ أوجه في الحربين العالميتين.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom