Al-Quds Al-Arabi

في الواقع الأحادي للتعددية السمعية البصرية في الجزائر

- *كاتب صحافي جزائري

ارتبط شــهر أكتوبر/تشــرين الأول في الوجــدان الجزائــري وجيل ما بعد الاســتقلا­ل بالتحرر النسبي من قبضة الأحادية المقيتــة، التي جثمت على واقع ووعي المواطــن لعقود ثلاثة، سُــحق خلالها أمــل بناء دولة عصرية قوية تستجيب لطموحات الشهداء، الذين أعطوا الدم مقابل الغد المشــرق، تبنيه الأجيال الحرة المتلاحقة، فشــابه الحدث «الأكتوبري» أو كاد في عظمته وصداه وقدســيته لدى الجيل الجديــد الحدث «النوفمبري» 1954 الــذي قلب به جيل الثورة معادلة التاريخ واســترد بالقوة السيادة الوطنية على الأرض.

لكــن الجيــل الأول رفــض أن تغــدو الأكتوبريـ­ـة بديــا للنوفمبريـ­ـة، وأمرا مركزيا في الوعــي الوطني، حتى لو ناطح بذلك منطــق التاريخ ذاته، ولعل أبرز قــاع التجلي في صراع البعدين الزمنيين في معركة الوعــي، كان الإعلام، الذي تطور وتورط في تضاريس المســار التعددي الوعر، بشكل لا نظير له في تاريخ ما بعد الثورات والانتفاضـ­ـات في العالم، ولئن كان الانتقال قد حصل نسبيا على مستوى الصحافة المكتوبة، فإنه على الصعيد الســمعي البصري لقي ولا يــزال عنتا، ليس فقط جراء تأثير البقية المتهالكة من ســلطة الجيل القديم، وإنما من تدخل التيار الثالث في المســرح السياسي والقيادي الوطني، وهو تيار المال وجبروته الإفســادي المعيق للتحول في الوعي الوطني المؤسسي الصحيح.

وإذا ما ســعينا لفهم عمق الإشــكال الذي أنتج حالة التنافر المســتديم­ة بين تطور وعــي المجتمع الإعلامي، وســلطة الأمر الواقع، فلا مناص من الإشــارة هنا إلى تلك الصدامية المرتسمة بين أمرين متضادين على المستويين النظري والواقعي، أي بين طبيعة التعددية، كمفهوم مؤَســس ومؤسِــس للدولة الحديثة على مختلف صُعد نشــاطها، طبيعة الســلطة في الجزائر التي نشــأت عــن إرادة ضدية لكل تعــدد يفرض منطقــه المفهومي الخاص المطرد، ليتصل قسرا بمفهومها المركب الملفق لهذا البعد المبدئــي. فإذا كان التعدد ثروة شــاملة ورافــدا يصب في نهر تاريخ الأمة يقوي من ســيله ويديم جريانه، ثروة رمزية لا تقل أهمية عن الثروة المادية، فقد رأته ســلطة الاستقلال، على غير ذلك النحو، مســتعدية بذلك المفهوم المنطقي الفلسفي للأشياء بداعي الخشــية من ذهاب ريح الجماعة، وتفكك عُرى المجتمع، وهو الإقرار الضمني باستحالة التعدد ومحاولة قولبتها غصبا في قالب التوحد.

طبعا لم يكن ثمة بــد من أن تنتهي حالة التركيب التصارعي المتناقض، التي وضعت عليها قواعد التأســيس الأولى للدولة الوطنيــة، بين مفهوم نظــري حتمي للتطــور التعددي منبثق مــن منطق التاريخ وشــروطه، ورؤية محتومــة وليدة لحظة جنونية محمومــة في الصراع على الســلطة، إلى صدام دائم، انقشــع وميض أواره الأول، وانفلتت أولى ذبدبات صداه عبر أقلام الصحافة المكتوبة، التــي كانت من خلال الجرأة المعزولة لبعض الأســماء، لاســيما فــي الصحافــة الفرانكفون­ية التي كانت تتمتع بحصانة وقوة داخــل الأجهزة والآلهة المتصارعة داخل المعبد الحاكــم، ولا أدل على ذلك من شــغف الجزائريين القارئين للصحافة الفرانكفون­يــة بجريدة «الجزائر الأحداث» التي كانــت الأعنف نقدا وانتقادا لممارســات الحــزب الواحد التي لم يكــن تأثيرها بالقوة التي كانت ســتغدو، في ما لو لم تعرف المقروئية العربية ذلك الاتســاع، نتيجة تعريب التعليم وانتشــار التعليم الأساســي. لكن وصول الصراع بين أجنحة السلطة إلى ذروته ولجوئه إلى الحسم عبر الشارع، من خلال تثويره قبل أن يصدم الجميع بهول الأبعاد التي أخذها الشارع نتيجة الاحتقــان والضيق مــن ضيم وظلــم الأحادية، عجّل بالانتقال إلى التعددية الصحافية، بالموازاة طبعا مع التعددية السياسية، التي تم الإقرار بها على استحياء، توضحه الصيغة الدســتوري­ة ســنة 1989 التي رســمت الاعتــراف بالتيارات المتعددة بعبارة «حرية إنشــاء جمعيات ذات طابع سياســي» ولم تذكر الأحزاب تصريحا! وهكذا شــهدت الساحة الإعلامية توالــدا مطردا للعناويــن الصحافية، أماطــت اللثام عن وعي جديد كان يتفاعل تحت الأرض في ســراديب السرية، فازدانت الســاحة الوطنية بخطابات ثقافية، فكرية وسياســية دفعت بالجزائر إلــى صدر الحدث الإقليمي والدولــي وقتها بوصفها أنموذجا نوعيــا في الانتقال المجتمعي الشــامل. ولكون قيادة الإصلاح الوطني السياســي منه والاقتصادي التي كانت تقود البلاد وقتذاك، تحت إمرة الرئيس الراحل الشــاذلي بن جديد، كانت جادة في مســعاها للمضي قدما نحو تكريس القطيعة مع رؤى النظام الســابقة، القائمة على احتــكار التاريخ والثروة على حساب منطق التاريخ ذاته، وأبرز مبادئه المفهومية وعلى رأسها التعددية، ولكون أيضا قدرة البلاد الضعيفة وقتها على الذهــاب الفوري إلى التعددية الســمعية البصرية، فقد فتحت القناة الوطنية الأحادية بشكل أو بآخر على التعددية الوليدة، وصار المجتمع يكتشــف بالصوت والصــورة طبيعته المتعددة والمتطورة، في نسق التحول الحتمي والطبيعي محليا، إقليميا وعالميا، واســتحالت بذلك القناة التلفزيوني­ــة الجزائرية إلى منبر نوعي مشــترك نســبيا، ولم يعد خطاب السلطة المنبوذ يهيمن على أســماع ومرأى الجزائريين، تكفي الإشارة هنا فقط إلى الصيت والســمعة الوطنية التي كانــت تُحظى بها حصة «في لقاء الصحافة» التي كان ينشــطها الإعلامي مراد شــبين نهاية الثمانينيا­ت وبداية التســعينا­ت، يستضيف من خلالها شــخصيات وأحزاب ورجــال الفكــر والثقافــة، لإدراك قيمة ومســتوى التحول في الوعي والممارســ­ة التعددية على نطاق واســع من خلال قناة واحدة تخلصت مــن الأحادية. لكن مع الارتكاسة السياســية الكبرى التي تسبب فيها الطرف المحافظ في الســلطة وردته العنيفة والعنفية علــى العهد الجديد، بعد إيقاف المســار الانتخابي سنة 1992 أعاد المشــهد وأبطاله إلى المربــع الأول، ونكصــت المؤسســة التلفزيوني­ة علــى أعقابها مرتجعــة إلى العهد القديم، مســتبدلة الخوف من الاســتعما­ر بالخوف من الإرهاب، مجمدة لمســار تطــور التعددية الوليدة بحجة أن المجتمع غير قابل وغير قادر على ممارســة التعدد في واقعه، قبل أن تصدم هاته الســلطة غير المواكبة لآليات تطور التاريخ، بانفجار البــث الفضائي، والهجرة الجماعية للمتلقي الجزائــري إلى القنوات الخارجية تنفيســا مــن خنق الرؤية الأحادية الجديــدة. ومع مجيء بوتفليقــة للحكم نهاية القرن الماضــي، تم تعزيز الهيمنة على الإعلام الســمعي البصري من قبل الســلطة، من خلال رفض التفكير في مجــرد فتح النقاش حول فكرة التحــول إلى التعددية الســمعية البصرية، فطغت خطابــات الرئيس والحصــص الممجدة لإنجازاتــ­ه وزياراته والنــدوات التــي تحلــل سياســاته، متذرعــة الســلطة في رفضها ذلك، بكون التعددية ممارســة على مســتوى المجالس المنتخبة داخل بنيــات مليئة بأصوات نشــاز بالترف الفكري والأيديولو­جي الحزبي، أما مصلحيا فالكل سواســية وسواء! وتحت ضغــط تطور البث الفضائي وانتشــار اقتصاد الإعلام الحر، قبلت السلطة على اســتحياء أيضا بالتعددية السمعية البصرية، لكن بخطــاب أحادي، لا يخرج عن سياســاتها و لا يمرق عن مبتغاها، فعكس القناة الواحــدة )القناة العمومية( عشية التعددية السياســية التي كانت متعددة الصوت، تبرز اليوم القنــوات المتعددة بصــوت واحد لا يخرج عن مســاق السلطة وســوقها الخطابي، كل ذلك بسبب اختراق رجال المال لهذا الفضاء، ما عســر تطوره بالشكل الطبيعي، مثلما تطورت الصحافة المكتوبة لأنها تأسست عبر أصحاب المهنة في شركات وتعاونيات أنشــأها صحافيون بدعم من السلطة الإصلاحية حينها. والإشــكال القائم هنا فيما يتعلق بهذا الحضور المطرد في التعدد )الأحادي( لقطاع الســمعي البصري، هو خلوه من المشــروع، فراغ قاتل يعكس حالة الانفصــام والانفصال الحاد بين تطور المجتمع ونخبه الحاكمة والمثقفة، فإذا كانت لســلطة السمعي البصرية الواحد الأحادية في ما مضى مشروع واضح وهو تنشــئة المواطن على أسس الخطاب الأيديولوج­ي للدولة الوطنية وقتها، فإن تحول ســلطة السياسة وسياسة السلطة إلــى ما وراء الحافــة الأيديولوج­ية دونمــا توافق وطني على مشروع تأسيسي، جعل هذا التعدد يقف على فراغ قاتل يجعله أبعد من أن يغدو بديلا عن أحاديــة الماضي، فضلا عن أن يعبر عن الحاضــر! هي إذن صورة أخرى قاتمة عن هول مســاحات الإخفاق لســلطة الدولة الوطنية الناشــئة بعد الاستقلال، في قيادة المجتمع نحو التطور الطبيعي في مسرح التاريخ، بسبب رفض ســنة التغيير الجيلي، وطغيان روح الغنائمية والسعي لاستبقائها غصبا عن منطق التاريخ ذاته.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom