التحولات الفكرية في عالم مضطرب
نحن في عالــم لا يتصف فقط بتغيــرات علميــة وتكنولوجية هائلــة، وإنمــا يتصــف أيضــا بتحولات جذريــة فكرية وقيمية وأخلاقيــة وســلوكية خطــرة تقــارب الجنــون. ففــي عالــم الاقتصاد مــا عاد الإنســان أمام مدرســتين متقابلتين، الرأسمالية والاشتراكية، ليختار أحدهما، وإنما أصبح أمام مدرسة شبه وحيدة ومهيمنة على العالم كله.
إنها الرأســمالية النيوليبرالية العولمية المتوحشة، القائمة أساسا على المضاربات والتلاعبات المالية على حســاب الاقتصاد الإنتاجي من جهــة، وعلى الحرية المطلقة للأسواق لكي تضبط إيقاع الحياة الإقتصادية من جهة اخرى، الممجدة للاســتهلاك الفردي والجمعي المــادي والمعنوي النهم، حتى لو أدى إلى تدمير البيئة، والداعيــة إلى فردية أنانية غير معنيــة بما حولها من مجتمعات وبشر، المصرة على خصخصة كل الخدمات العامة، وعلى الأخص الاجتماعية منها، وذلك من أجل تقليص أدوار ومسؤوليات وسلطات الدولة في الحياة العامة إلى أقصى الحدود.
نحن أمام انقــاب تراجعي للمشــهد الاقتصادي: ما عــادت المجتمعات هي التي تختــار وتكافح من أجل نفســها وتفرض نظامها الاقتصادي، وإنما الذي يفعل كل ذلــك مجموعة صغيرة من أصحــاب المال وأزلامهم من أصحاب الســلطة السياســية، اختفت النقاشات وتقلصت الخيــارات وقل عدد المشــاركين. وفي حقل السياسة تدمرت أيديولوجيات، متكاملة ومتناغمة في مكوناتها، لتحل محلها أفكار سياسية متناثرة تتعامل مع جزئيات المشهد السياسي، مكانا وزمانا وموضوعا، على حساب الكليات الإنسانية والشمول البشري.
إن الفكر العولمي السياســي، المرتبط أشد الارتباط بالفكــر الاقتصــادي النيوليبرالــي العولمــي، يقبل التعايش مع ممارسة الديمقراطية الليبرالية، بشرط أن تكون في صورة أحزاب مائعة، انتخابات دورية تعيد إنتاج نتائجها نفســها، وبرلمانات منسجمة مع سلطة دولة قوية متسلطة، وبشرط أن لا شأن لمثل ديمقراطية كهذه، بالعدالــة الاقتصادية والاجتماعية، وبشــرط أن يختفي إلى الأبد كل شــعار يساري جماهيري، وأن تكون هنــاك ديمقراطية بــدون ديمقراطيين مناضلين فاعلــن. إنهــا ديمقراطية بلا ضميــر ولا روح، تقتات على جماهيريــة غوغائية يمينيــة متطرفة منغلقة في الفكر والأفق والمدى الإنســاني. ومما ساعد على تقبل إنســان العصر تلك التحولات ووقوفــه عاجزا أمامها إحاطته المتنامية المتشــابكة بعوالم افتراضية تحيله وتحيــل مجتمعاتــه إلى كيانــات افتراضيــة خارج الـ»هنا» المكاني وخــارج اللحظة الزمانية. إنها عوالم تختلط فيها الحقائــق مع الأكاذيب ليتقبل الإنســان الأكاذيب وهو يحســبها حقائق، بسبب السيل الهائل من المعلومــات المتناقضة والتأثير النفســي والذهني لشبكات التواصل الاجتماعي.
في عالم تواصلي كهذا غيــر منضبط، تكثر أنصاف الحقائق وتــزوّر التعابير. ألم يصبــح الوطن العربي شــرقا أوســطيا، والصراع العربي الصهيوني خلافا فلســطينيا – اســرائيليا، والاحتجاجات المشــروعة اضطرابــات، وتدمير باص مدرســي وقتل من فيه من أطفال خطأ فنيا، واكتساح بلد وتدمير عمرانه وتشريد أهله تحالفا من أجل الديمقراطية ومناصرة الشعوب، وبناء مجمعات سكنية معزولة عن محيطها الجغرافي والاجتماعــي والإنســاني وغارقة فــي رفاهية عبثية تخطيطــا مدينيــا إبداعيا، وإفلاس أصحــاب المتاجر الصغيرة بســبب هيمنة المجمعــات التجارية الكبيرة انفتاحا اقتصاديا وتشجيعا للاستثمار وتسهيلا لحياة المشــترين، وانتخاب رئيس دولة نرجســي بهلواني قائــدا مخلصــا؟ نحن في عالــم تموت فيــه التعابير وتتشــوة معاني الكلمات وتصبح الشــعارات عبارة عن لوحات زينة قابلة لأن تنطق بما ليس فيها، حسب الأهواء والمصالح والتخيلات المريضة.
والنتيجة هــي الصبر المفجع الــذي يتميز به عالمنا المعاصــر لتقبــل الفســاد وخيانة الأمانــة والتلاعب بالصالــح العام فــي مؤسســات الحكم والتشــريع والقضــاء والاقتصاد والدين والفنــون والإعلام. فلا عجب أن نصحو يوميا على أخبار الفضائح التي طالت بشرا كنا نعتقد أنهم حماة العفة ومؤسسات كنا نعتقد أنها حامية للأخلاق والقيم والسمو الروحي. أخطر ما في الأمر أن العلوم والتكنولوجيا تتضاعف وتتحسن بصورة مذهلــة، بينما يدخل الفكر والقيم الإنســانية والممارســات الأخلاقية الســوية في عوالم الغموض والتشكيك والتزييف. وعلى الرغم من وجود محاولات جادة تحليلية ونقدية لكل ما يجري في عالمنا المعاصر، إلا أنها تواجه بمئات مراكــز الأبحاث وألوف أصحاب القلم والكلمــة، الذين يقومون بعمليات التبرير والمدح وخلط الأوراق والمفاهيم لإبقاء الإنسان في دوامة عدم اليقين وعدم الاستقرار على حال متوازن.
أسوأ ما في هذا المشهد غير المستقر على حال، وغير المالــك لبوصلة تضبط مســاره وتطــوره، هو غياب برنامج تعليمي وتثقيفي متماســك لتهيئة إنسان ملم بطبيعة ما يحــدث وقادرعلى مواجهة مــا يحدث، بل العكس هو الصحيح، إذ أن مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام تساهم هي الأخرى في إنتاج إنسان مستسلم برضى وغفلة لما يحدث من حوله، ولما يقدم له من أفكار وقيم يؤديان إلى هبوط مستمر في سمو وتوازن ونقاء إنســانيته ، وإلى عجز في ارادتــه، وإلى قبول مفجع لقدره البائس.
تدمرت أيديولوجيات، متكاملة ومتناغمة في مكوناتها، لتحل محلها أفكار سياسية متناثرة تتعامل مع جزئيات المشهد السياسي