أمام علامة فارقة على طريق الصراع مع إسرائيل
■ على طريق الصراع الفلســطيني الإســرائيلي، الذي يغطي أكثر من قرن من الزمان، حتى الآن، علامات ومحطات فارقة كثيــرة. نحــن الآن، وفي هــذه الأيام والأســابيع تحديدا، نمُـُّـر بأحدى هذه العلامات، التي تشــير بوضوح بالــغ إلى وصولنا عتبة محطة جديدة، يســتدعي الخروج منها والانطلاق بهدف الوصول إلــى المحطة المقبلة في هذا الصراع الطويل، تركيزا جدّيا في اختيار السكّة التي ينبغي وضع القطار الفلســطيني عليها. فنهاية المحطة أو المرحلة، تعني الوقوف أمام دُوّار تتفرع منه مفارق عديدة، لا توصل جميعها إلى المحطة المبتغاة. لكن تلك المفارق والسّــكك التي يمكــن لها أن توصل إلــى تلك المحطة، تختلــف، جذريا في غالب الأحيان، في مدى وكلفــة كل واحدة منها، وفي حجم المخاطر وعدد العراقيل فيها.
المحطة التي يقف عندها الوضع الفلسطيني هذه الأيام، هي «محطــة التفاهمات» بــن حركة المقاومة الإســامية، حمــاس، )ومعها حركــة الجهاد الإســامي(، مــن جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، بوساطة مصرية أصلا، مدعومة بتأييد الأمم المتحدة.
]يجدر بي هنا أن اسجل مســبقا رفضي وإدانتي لتولي أي تنظيم فلسطيني إدارة أي مفاوضات مع إسرائيل، العدو لكل الفلسطينيين، وتمكين إسرائيل، بالتالي، من الاستفراد بالتنظيم المعني، أو المنطقة المعنية[.
لكننا الآن أمام واقع، يجــب الاعتراف به، حتى وإن كنا لا نتمناه ولا نحبذه. ويلــي ذلك الاعتراف، بطبيعة الحال، وضعه في مكانته الصحيحة، ودراسة أبعاده، وتقييمه.
على أن هذا التقييم، لا يكــون دقيقا، ولا واضحا بما فيه الكفايــة أيضا، ما لم يتم تثبيت الحــدث المعني، في موقعه الدقيق على خريطــة الصراع، وهو ما يســتدعي فرد هذه الخريطة أمامنا، ودراســة تضاريســها وطرقهــا المتعرجة والمتقاطعة، وتركيز النظر على العلامات والمحطات العديدة عليها.
كانــت البداية في هذا الصراع المتواصل، تقســيم «بلاد الشــام» إلى أربعة كيانات منفصلة: لبنان وسوريا وشرق الاردن وفلســطين، بهدف واضح، هو الاستفراد بفلسطين، التي تشــكل حلقة الوصل بين المشــرق العربــي والمغرب العربي، وبين قارتي آســيا وافريقيا، مــع حرص بالغ على تمديد جغرافية فلســطين فوق كامل منطقة النقب، وصولا إلى البحر الأحمر، عند منطقة العقبة/أم الرشــراش، التي تحولت ليصبح اســمها «إيلات»، لضمان انقطاع التواصل الجغرافي.
كان ذلك مع انتهاء الحــرب العالمية الأولى، التي يحتفل كثير من الرؤســاء هــذه الأيام، فــي باريس، بمناســبة مرور مئــة عام عليها. وطــوال فترة الصراع الفلســطيني الصهيوني، بــن تلك الحرب والحــرب العالميــة الثانية، لم يتمكــن الفلســطينيون من إنجاز أي مكســب ملموس، باســتثناء واحد وحيد، هو الإضراب الفلســطيني العام، الذي شــاركت فيه كل الجماهير الفلسطينية، واستمر ستة أشهر، وليكون الأضراب الأطول في التاريخ، وأنجز للشعب الفلســطيني تراجعا ملموســا من جانب حكومة الانتداب/ الاستعمار البريطاني، حول الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وحــول قضايا عديدة أخرى، قد يكــون أهمها «أن الحكومة )البريطانية( عازمة على إلغاء الانتداب في الوقت المناسب، حيث تقوم دولة فلســطينية مســتقلة، ترتبط بمعاهدة مع بريطانيا،... وبحيث تتمتع الأقلية اليهودية بحماية مقترنة بضمانات»، حســب ما ورد في المسودّة الأولى التي قدمتها الحكومــة البريطانيــة للمؤتمر الخاص بإصــدار «الكتاب الأبيض» يوم 24.2.1939، علما بــأن الكتاب الأبيض الذي صدر يوم 27.5.1939، جاء مختلفا عن هذا النص. وفي هذا السياق أيضا يمكن تســجيل تراجعات بريطانية جوهرية وردت فــي تقرير لجنة بيــل الملكية عــام 1937، وبدون أن ننسى أن إنهاء الإضراب الفلسطيني العام المذكور، كان قد تم بطلب من الحكام العرب، الذين وثقوا بوعود بريطانية، لم يتم الالتزام بها طبعا.
هــذا الــدرس نتعلــم منــه أن التحــرك الجماهيــري الفلســطيني، الذي يشمل كل طبقات الشــعب الفلسطيني وطوائفه وتجمعاته، هو الكفيل بأن يحقق له الوصول إلى بعض أهدافه وحقوقه الطبيعية المشروعة، حتى وإن كانت موازين القوى العسكرية والاقتصادية والعلمية تميل بشكل حاسم لمصلحة عدوه، ســواء كان هذا العدو هو الاستعمار البريطانــي أو الحركــة الصهيونية، أو إســرائيل لاحقا. ننتقــل من هذا التاريخ المتوســط، إلــى تاريخنا الحديث، فنجد أن انطــاق الثورة الفلســطينية المعاصرة، ورمزها حركة التحرير الوطني الفلســطيني ـ فتح، والتي شــكّلت الطليعة للعمل الوطني الشــامل، لم تنجــز أي هدف عملي ملموس، إلا عندمــا رفدته الجماهير الفلســطينية بالدعم وبالتحرك الشــامل، الذي مثّلته الانتفاضة الفلســطينية الأولى، التي انطلقت في وجه جيش الاحتلال والاســتعمار الإســرائيلي، يــوم 8.12.1987، فأرغمــت إســرائيل على حضور مؤتمر مدريد، وعلى المفاوضات الســرية المباشــرة مع م.ت.ف. وصولا إلى اتفاقيات اوسلو، التي اعترفت فيها إســرائيل بوجود الشعب الفلســطيني، وبمنظمة التحرير ممثلا شرعيا له، وعكســت اتجاه حركة الفلسطينيين، من فلســطين إلى دول اللجوء والشــتات، لتصبــح حركة من دول الشــتات واللجوء إلى داخل أرض فلســطين. وهذا ما سبب دفع اليمين الإســرائيلي العنصري إلى رفضها وإدانة «أبطالها»، وهو التحرك الذي قاد إلى اغتيال اسحق رابين، الرمز الإسرائيلي لاوسلو، والانقضاض لاحقا على كل ما في اتفاقية اوسلو من مكاسب ومنافع للشعب الفلسطيني.
درس جديد نتعلمه من هذه التجربة الفلســطينية، هو باختصار:
1ـ لا بد من طليعة لتحريك الجماهير الفلســطينية. لكن الطليعة لا تُنجز ولا تحقق أهدافا عملية ملموسة.
2ـ إن عنصر القوة الفلســطينية الرئيسي هو الجماهير الفلسطينية، وهو عموم أبناء الشعب الفلسطيني بطبقاته وطوائفه وتوجهاته السياسية.
3ـ يتوجب على هذه القوة الفلســطينية توجيه حركتها ضــد رأس حربة العــدو، وهو في حالتنــا جيش الاحتلال والاســتعمار الإســرائيلي والمستوطنين/المســتعمرين في أراضي الدولة الفلسطينية.
لا يعمل الشــعب الفلسطيني في الفراغ. فهناك عدو يفكر ويخطط ويتحرك ويعمل، بدون توقــف، لمنعه من تحقيق أهدافه الوطنية الطبيعية المشــروعة. ولهــذا أقدم الزعيم الإســرائيلي اليميني العنصــري، اريئيل شــارون، على استفزاز الفلسطينيين لإطلاق الانتفاضة الثانية، ونجح في حرفها خلال أقل من شهرين من انطلاقها:
1ـ باتجــاه تحويلهــا إلــى انتفاضــة مســلّحة. وتفــوق إســرائيل فــي كل ما لــه علاقة بالســاح أمــر مفروغ منــه، في الماضــي وفي الحاضر وفي المســتقبل المنظور والمســتقبل البعيد أيضا.
2ـ باتجــاه حرف بوصلتهــا عن التركيــز على الجيش الإسرائيلي والمستوطنين/المستعمرين، لاستهداف المدنيين الإســرائيليين، وما يترتــب على ذلك من تماســك المجتمع الإسرائيلي ليصبح قوة موحدة في مواجهة ورفض المطالب الوطنية الفلسطينية الطبيعية والمشروعة.
إنه درس جديد يجب على الشــعب الفلســطيني تعلمه وأخذ العبرة منه.
تلا ذلك ما أســميه «الانتفاضة الثالثــة»، التي انطلقت يوم 30 آذار/مارس الماضي، في الذكري الـ42 ليوم الارض، تحت اســم «مسيرات العودة»، والمســتمرة حتى الآن على مدى ثلاثة وثلاثين أســبوعا. وهي كذلك لأنها شــملت فعلا كل أبناء قطاع غزة، بكل طبقاته وطوائفه وقواه السياسة.
ما نلمســه حتى الآن هو اضطرار إســرائيل للتفاوض الجدي لإنهاء هذه الانتفاضة. وهذا درس رابع يتوجب على الشعب الفلسطيني أخذ العبرة منه.
تعالوا نتمنــى أن لا تنتهي هــذه المفاوضات، حتى وإن كانت مع جــزء من القيادات الفلســطينية، إلــى ما انتهت إليه اوســلو. ولعل المطلب الأول والأهم، أن تمتلك مصر ما يمكنها من إلزام إسرائيل بما يتم الاتفاق عليه، وأن لا يكون إنجــاز لأهل قطاع غزة المنكوب أكثر من غيره من التجمعات الفلســطينية، عائقــاً أمــام إنجــازات مطلوبة للشــعب الفلسطيني.
لا بد من طليعة لكل تحرك وطني. وعندما تفتقر الطليعة لقوة عســكرية قادرة على الحسم لصالحها، فإن الجماهير الفلسطينية، تصبح هي السلاح الأقوى والأقدر على الحسم مهما كانت ترسانة العدو مكتظة بكل أنواع الأسلحة.
هل تعي القيادات الفلسطينية هذا الدرس؟