Al-Quds Al-Arabi

متاهة جار الرضا والسوء...

-

عملتُ دائماً بالوصايا الدينيــة والتراثية بحق الجار، يهمّني أن يكون جاري عزيزاً وسعيداً ومرتاحاً في معيشته، وكانت والدتي تعزز قيمة الجار عندي، عندما تحكي عن جيرانها الطيبين.

بعــد النكبة، كان شــقيق جارتها يحاول العودة ســرّاً إلى أهله وبلده حتى أواخر ســنوات الخمسينيات من القرن الماضي، وذلك بعد تشــرّده إلى لبنان، وكانت شــرطة الاحتلال تأتي قبيل الفجر في كبســيات للبحث عن أمثاله من المتســللي­ن، لتعيــد طردهم إلى ما وراء الحــدود، فإذا انتبهــت إحداهن لظلِّ رجال الشــرطة على الأســطح تحت ضوء القمر، أو ســمعت وقع خطاهم، قرَصت أحد أطفالها النائمين حتى يصرخ ألماً وذعراً لتقول له بصوت جهوري: «لا تخف يمّا هذا بوليس».

كان هذا يغضب الشــرطي الذي يرد عليها بأن اخرســي. ولكن الرســالة تكــون قد وصلــت الحي كلــه. هــذه وغيرهــا الكثير من القصص كانت تعزز فيّ أهمية العلاقة الجيدة مع الجيران.

ورغم هــذا فأحد جيراني كان دائم العبوس بلا ســبب واضح، بــل وفي أحيــان كثيرة ينظر إلــيّ نظرة غريبة أشــعر فيها بالحقد والكراهية، وليتني أعلم ما هو السبب كي أريحه وأستريح.

هــذا التصرف ينغّص متعــة العيش، فأنت لا تســتطيع تجاهل جــارك، أحــبُّ أن ألقي عليه التحية وأن أســمعه يردّهــا بملء فيه، وأتكــدر إذا ما مر من دون أن يحييني، أو إذا حييته ولم يرد، أو إذا ردّ بفتور، أحاسب نفسي دائماً، وأبحث عن السبب في هذا الفتور وحتى الجفاء دون أن أعثر عليه.

في أحيان كثيرة أقرّر.. بما أنه لم يرد التحية هذه المرّة فســوف أقطعها، لقد تحولت إلى ما يشــبه الكابــوس، إلا أنه-وبالضبطعند­مــا أقرّر مقاطعته يفاجئني بالتحية فأرد عليه ويبعث الأمل من جديد بعلاقة عادية بين جيران، وأحدّث نفســي.. لعل هناك سوء تفاهــم مــا، أو ربما «يهــدس» كثيــراً ولا ينتبه، فأُصــرّ على تحيّته وأدعــوه بملء فمي عندما يمر في الطريــق بمحاذاة بيتي: «تفضل اشــرب قهوة»، إلا أنه يعود إلى عادته، فلا يرد، حتى صرت أشعر بالحرج الشــديد عندما نلتقــي، أحييه بتوتر، وأنتظــر تلك الثانية التي سيرد أو لا يرد التحية فيها.

أحيانــاً يلقي إلــيّ بنظرة فيها نوع من اللامبــال­اة كأنه يقول: لا حاجة لتحيتك.

صــرت أفكــر بوضع حد لهــذه العلاقــة المرتبكة من أساســها، ولكن أتذكر الوصايا الكثيرة بالجار والأحاديث النبوية الشريفة، والشعر العربي القديم لعنترة والسموأل وغيرهما.

في انتخابات البلدية يختار عكس اختياري، فهو يصطف ضد من أؤيده تلقائياً.

الانتخابات البلدية المحلية بالنســبة إليه فرصة يعبّر من خلالها عــن كراهيته لي، رغم أن الموقف الانتخابي المحلي بالذات لا يهمّني كثيراً، حتى زوجتي لا أطالبها بالتصويت حيث أصوت إلا مشورة، فأنا مؤمن بممارسة هذا الحق الديمقراطي، ولي أصدقاء كثيرون لا أتفــق مــع مواقفهــم الانتخابية، هــذا لا يؤثر علــى علاقتي بهم، إلا أن جــاري هــذا يجد فــي الانتخابات فرصة لاســتفزاز­ي، كأنه في منازلة معــي، فيملأ جدران بيته الخارجية بملصقات المرشــح المنافس لمرشحي المفضل، ويعلق على ســيارته أعلاماً وملصقات وصــوراً من تلك التي يعرف أنني لا أؤيــد أصحابها، وكلما اقترب يوم الانتخابات ســخّن الأجــواء أكثر وأكثر، وصار ســلوكه أكثر جفــاءً وعدائية، حتى كأنه يتمنى أن نشــتبك بالكلمات أو الأيدي، فــي هذه الفترة يصبــح رده للتحية نــادراً جداً، ويتجنــب المبادرة إليهــا، ويفتعل أجواء بأننا متخاصمــان على طرفي نقيض، وعلى وشــك أن نشتبك، فأبذل كل الجهد الممكن لتمرّ مرحلة الانتخابات علــى خير، وأتجنّبه بقــدر الممكن، وإذا ما التقينا فــي مكان ما بين مجموعة من الناس، لا أتحدث إليه إلا بتعبير «جاري العزيز» وفي غاية التهذيب.

فــي كل جولة انتخابات، إذا فشــل مرشــحي، يحتفل بإطلاق المفرقعات النارية التي تكلف مئات الشواقل، ففي إحدى الجولات قلت له: أليس أولادك أحق بهذا المال الذي تصرفه على المفرقعات؟

يــرد بجفــاء: لا تحمل هــمّ أولادي، هنــاك بعض البشــر الذين أستمتع بإغاظتهم.

قال هذا وهو ينظر إلــيّ بطرف عينه كأنه يقول: لا تتظاهر بأنك غير مغتاظ.

بعد إحــدى الجــولات الانتخابيـ­ـة البلدية، وبعد فوز مرشّــحه وخســارة مرشــحي، جاء أحد أولاده الصغار ورمى مفرقعة على باب بيتي، فدبّ الذعر بين أبناء أســرتي، كنت متأكداً أنه هو الذي حرّضه على ذلك، ركضت وأمسكت بالولد غاضباً، وكدت أصفعه، ولكنني في اللحظة الأخيرة اســتيقظت من غضبي، أشــفقت على الولد وسألته: «ليش عملت هيك»!

شــعرت أن الولد يختنق، ومغلوب على أمره، فبقي صامتاً على شفا البكاء.

لا أفهــم ما هي متعة بعض الناس فــي التعبير عن فرحتهم بهذا الصخــب، وبالتنكيد على الآخرين ومقاهرتهم، ألا يُفترض أن ينبع الفرح من داخلنا؟

ما يحدث في الانتخابات المحلية ينطبق على انتخابات البرلمان، فــا يمكن له أن يؤيــد حزباً أؤيده، كأنه مضطــر لأن يكون مضاداً ومعاكساً لتوجهي.

فــي ألعــاب كأس العالم لكرة القــدم، ينحاز ضــد الفريق الذي أؤيده، فإذا أيّدت الأرجنتين أيّد ألمانيا، وإذا شــعر أنني انقلبت مع الألمان صار مع الفرنســيي­ن أو أي فريق آخــر، لا يهمه أين، المهم ألا نكون مشجعين للفريق نفسه.

في الانتخابات البلدية الأخيرة، كنا على طرفي نقيض كالعادة، أحييــه فلا يرد التحـــــي­ة، منحته فرصة أخرى وحييتــه ثانية فلم يــرد، حييتــه ثالثة ورابعة إلــى أن قررت قبل أيام قليلة؛ ســأحييه التحية الأخيرة، فإن لم يرد ســتكون هذه آخر مرة، ولكن ســأبلغه بالعربــي الفصيح: أنت لســت من الجيران الذين أوصى الرســول بهــم، ولا تســتحق التحية، إن ما يجــري في عروقك ليــس عربياً، فالعــرب يقدرون الجار ويعتــزون به، لا أريد جيرتك الســيئة بعد اليــوم، ولن أحييك ولا أريد تحيتك، ســأكون نــذلاً إذا حييتك مرة أخــرى. هذا القــرار أراحني جداً، شــعرت بأنني أقتــرب من نهاية مهزلــة مســتمرة منذ عقود، ســوف أحســم الأمر أخيــراً، لا يمكن للوضــع أن يســتمر في هذه المتاهــة إلى ما لانهايــة، وعندما رأيته هذه المرة رفعت صوتي عن آخره، وحييته ولكن بلهجة فيها غضب واضــح، وقد أعددت له الرد الصاعــق، إلا أنه توقف وردّ باهتمام: «أهلاً.. أهلاً وســهلاً أبو الجار...كيف شــايف لــي هالدنيا..تعال اشرب قهوة...».

يــا إلهــي! لن أســتطيع مقاطعتــه، لقــد أعادني إلــى المتاهة من جديد...

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom