Al-Quds Al-Arabi

أدب السيرة الذاتية بين لوعة الاحتراق وبحة الاعتراف

-

تصف الشــاعرة ســيلفيا بــات في إحدى قصائدهــا كيــف أن فــي حياتها ناريــن، نار الجحيــم وهي نار عــذاب ونار الســماء وهي نار تطهير. وبين هاتــن النارين كانت حياتها في احتــراق دائــم. إلــى أن لم يبــق فيها ما يحترق أو هكذا شــعرت فانتحرت. وهذا شأن كثير مــن المبدعين «فيرجينيا وولف، ســيتفن زفايغ، إرنســت همنغواي، خليل حاوي، مايا كوفســكي» فهم إذ يعانــون النارين الاثنتين، يحاولون أن يحولوا نار الجحيم ونار السماء إلى ذلك اللهب الجوهري المشعشع.

لهب الخلق، يحترق المبدع ويبقى إبداعه في لهيــب. وقد تأثرت بهذه الشــاعرة صديقة لها كانت ترى أن الحياة ترفــع صراخها وزعيقها في رأس كل فنان يمســك بناصيــة القلم وهي تقول «فلتفعل الحياة ذلــك، ولكن على الفنان أن يــدون ذلك الصراخ وذلــك الزعيق، وعليه أن يتذكر أن أي شيء يكتبه الآن من هذا القبيل كيفما جاء وكيفما كان شــكله يتحول مع الزمن إلى ذهب. إنه بملاحقة هــذا الصراخ الداخلي إنما يخلق منجما يكتشــفه في ما بعد الآخرون ويغترفــون منــه» كان العديد من شــعرائنا القدامى من عارفي هذا الصراخ الداخلي فكانوا يســتلهمون أزماتهم الداخلية ويتحايلون في اقتحامهــا حتى في منابرهــم الموجهة لآخرين فيعترفون اعترافا كامــا بجزئيات من محنهم النفسية. وكان بعض من أعظم شعرهم حصيلة لتأملاتهم وكذا التناقضــا­ت التي تضطرب بها حياتهم وتوزعهم بين نار الجحيم ونار السماء، بل تدفعهم إلى المجازفة بالكشــف عن دواخلهم وخصوصياتهم. وكثيرا ما وجدوا في شعرهم وسيلة جهر وبوح للإيصال الجماعي. الوسيلة الوحيــدة للتدوين المضمــر الذاتي لخلق ذلك المنجم الثمــن، الذي مازلنا نكتشــفه كل يوم ونغترف من معينه. ما أروع أن يعترف شــاعر جاهلــي كميمون الأعشــى بتجربته في الحب وهو يحترق بنار جنونه: علقتها عرضا وعلقت رجلا غيري وعلق غيرها الرجل وعلقته فتاة ما يحاولها ومن بني عمها ميت بها وهل وعلقتني أخيرى ما تلائمني فاجتمع الحب حب كله تبل فكلنا مغرم يهذي بصاحبه ناء ودان ومخبول ومختبل نحن في آدابنــا الحديثة لا نكتفي بما يتركه لنا الأديب أو الفنان من آثاره الإبداعية، فترانا نريد الدنو مــن حياته وتجاربــه من الجانب الآخر، أي من الجانب الشخصي الجواني حيث يضــرب العمل الإبداعي بجــذوره. ولذا جرى الاهتمام في القرون الثلاثة الأخيرة بما يتركه الأدبــاء والفنانون من رســائل أو مذكرات أو اعترافات أو ســير ذاتية. وحين اشتد الاهتمام منذ الحركة الرومانسية بتحليل بواطن ورموز المنجــز الإبداعي واكتشــاف مدلولاته الأعمق فيه، اشــتد الاهتمام بخصوصيات العقل الذي أنتجــه والبحث عن الصــات الخفية الموحية بين الــذات والموضوع. وبنوع مــن ردة الفعل رأينــا منذ منتصــف هذا القــرن انعطافا حادا نحو معالجة العمل الفني كشيء قائم بحد ذاته مســتقل عن صاحبه يطالب الناقد باستغواره .مــع ذلك كله فقــد بقيت الرســائل والمذكرات والســير الذاتية صنف أدبيا فريدا قد يطلب لما فيه مــن إضاءة للعمل الإبداعي. كان الشــاعر الألماني ريلكه واحدا من هؤلاء الذين استطاعوا لا ملاحقة الصراخ الذي في حياته وحسب، بل وملاحقــة الصمت والتأمل والنشــوة ودقائق مشــاهد التجربــة الخارجيــة والداخلية في رســائله التي كان يكتبها كل يــوم بكثرة إلى أصدقاء وصديقات ومعارف مختلفين. فجاءت في النهاية وكأنها المنجم الدافق بالمعدن الخام، ذلك المعدن الذي في ساعات الوحي كان يصفيه ويركزه ويبدع صنعه في قصائده. وغذت بذلك رســائله في الوقت نفســه إضافة أخرى إلى شعره لا تقل عنه روعة وكشفا.

والروائي تومــاس مان بدوره يعطينا قصة حياتــه ورســائل تربــو على العشــرين ألف رســالة. إنها قصــة من الداخل تضــيء زوايا التجربة والنمو وزوايــا الذهن والتأمل. زوايا العمــل الدائب على الخلــق. فضلا عن تصوير حقبة تقارب الســتين ســنة من حياته حافلة بالأحداث الجســام. والمعلــوم أن توماس مان كان مــن دأبه أن يخفــي في أعمالــه الروائية عناصــر أوتوبيوغرا­فيــة تمدهــا بالكثير من طاقته الخلاقــة، بل إنه جعل مــن أعماله كلها كما جعل غوتييه من كتاباته شــذرات اعتراف كبيــر. لقد عبر أكثــر من مرة عن شــكوكه في كتابة ســيرة ذاتيــة بكل حذافيرهــا لأكثر من ســبب، حيث قال «إنني أشــعر عموما بالوجل إزاء الكتابة الأوتوبيوغ­رفية المباشــرة، التي تبدو لــي أصعب أنواع الكتابــة كلها، بل مهمة مســتحيلة إذا نظرت إليها من زاوية الكياسة الأدبية» وقد كتب معظم رسائله بدون التفكير قطعــا بأنها ستنشــر في يوم مقبــل، فجاءت صريحة وأحيانا قاســية في حكمها على نفسه وعلى الذيــن خذلوه. وفي الوقت نفســه كان يحتفظ بمذكرات تفصيلية طلب أن لا تنشــر إلا بعد موته بعشــرين عاما. وقد نشــرت مؤخرا في عدة مجلدات خصــص إحداها للفترة التي قضاها في زوريخ عام 1933، حيث كان يختبئ من أعين جواسيس الجستابو الشرطة السرية لألمانيا النازية. وهو يصف مذكرات هذه السنة بقوله «هذه الملاحظات اليومية التي استأنفها في أيام مرض سببه لي التوتر النفسي الشديد واللوعة وفقدان شــهية الحيــاة. لكن الكتابة كانت دوما راحة وعونا لي، ولســوف أســتمر فيهــا بمحتوهــا الروحي والذهنــي لكي أبقي نفســي في وعي دائم وخدر لذيذ، وفي التزام مستمر بتفحص أيامي المتعاقبة.»

نار الجحيم ونار السماء لا تتحدان بسهولة لأن جهد الفنان وهو يتابــع صراخه الداخلي هو بعض من ذلك الطريق الشــائك الوعر إلى ينبوع الخلق وفردوسه. أسوق هذه الإشارات لشيء شغلني الاهتمام به وهو أدب الاعتراف «اعترافات جون جاك روســو، رســائلي إلى لامبير للكاتب نفســه «مــا مدى مــا لدينا من أدب الاعتراف، أدب الرســائل، أو المذكرات أو السير؟ قليل جدا لدرجة البؤس. أنا معني هنا بما يتركه لنا الأدبــاء والفنانون دون غيرهم. ففي ربع القــرن الأخير ظهــرت مذكرات لعدد من السياســيي­ن بعضها يؤخذ بحذر شديد من القارئ. لأن ما من سياسي إلا ويريد أن يوحي فــي أواخر حياتــه بأنه كان في أيام نشــاطه السياســي أعرف مــن غيره ببواطــن الأمور ونتائجهــا، بل وأبعد نظرا من غيره في أحداث زمانــه، فضلا عــن أنه يميل إلــى الإيحاء إلى القارئ ببطولات وهميــة. وبين الحين والآخر تنفرد بعض المجلات بنشــر مذكــرات لهذا أو ذاك أو لأحداث سياســية أو حربيــة، بغية أن تلقى كتاباتهم اهتماما كبيــرا. أما الذي أبحث عنه فهــو ما يكتبه بينهم وبين أنفســهم أولئك الذين عاشــوا بالكلمة وللكلمة ورفعتهم لأيام وخفضتهــم وبقي بحــــثهم الفكــري المتصل بلواعج النفس من ناحية وتحولات العصر من ناحية أخرى ســبيلا إلى دمج نار السماء بنار الجحيم.

أما الســير الذاتية في أدبنا المعاصر فتكاد لا توجد. بعض أدبائنــا العرب في مصر وضعوا شــيئا من ذواتهم في روايــة أو قصة، كما فعل العقــاد والمازنــي. وجــازف اثنــان أو ثلاثة منهــم فكتبوا ســيرة حياتهم، كمــا فعل عميد الأدب العربــي طه حســن في كتابــه الجميل «الأيام» وأحمــد أمين في كتابــه «حياتي»، أو القلم الرصين ســامة موســى «تربية سلامة موسى» وربما كانت تجربة أحد جهابذة الأدب اللبنانــي ميخائيل نعيمة أكبــر هذه التجارب في الســيرة الذاتيــة، عندما كتب «ســبعون» فأنت تحصي عشرة كتب أو أكثر قليلا وينتهي الإحصاء. ويتذكر المرء عشرات السير الذاتية وكتب الاعترافــ­ات التي خلفها أدبــاء العالم. فيدهــش لهذه الشــحة في اعترافــات أدبائنا وفــي محاولاتهــ­م فهــم حياتهــم أو وصلهــا بأزماتهم. نتذكر اعترافات القديســة «تيريزا» وجان جاك روســو وتولستوي، وتلك السيرة الذاتية المذهلة التي كتبها ماكســيم غوركي عن عذاباته. وهمنغــواي في كتابه «العيد المتنقل» والقائمــة طويلة. ولا نجد شــيئا مــن ذلك في أدبنا الحديث يبــل ريق الظامــئ. ورحم الله أحمد فارس الشــدياق الذي جازف بالحديث عن حياته بالكثير مــن الصراحة واللوعة قبل مئة ســنة أو أكثر في كتابه «الساق على الساق فيما هوا الغاريــاق» لولا أنــه أخذه الجنون باللغة أكثر مما أخذه الجنون بتفاصيل خبراته وصراعاتــه. ولئن تكن الســيرة الذاتية مهمة شــاقة فإننا نتمنى لو نرى على الأقل رســائل الأدباء والفنانين تنشــر على نحو ما سواء في حياتهم أو بعد موتهم.

إن أدب الرســائل مــن أغنــى المصــادر في دراســة أي مبدع. ففي آداب الأمم الأخرى نكاد لا نجد ديوان شاعر أو كتابات روائي أو سيرة فنان بدون أن نجــد معها مجلدا أو أكثر يرفدها برســائله. فلولا ذلــك لــكان الأدب الإنكليزي أفقر بكثير لولا رســائل جون كيتس وشــيلي وبايــرون أو يتييس أو هكســلي أو فيرجينيا وولف وغيرهم. رســائل بودلير تعطي المفتاح لغوامض قصائده وشــخصيته الغريبة. وهل ننســى رســائل فان غوخ وهي تعج بالشقاء والحب وصور الإنســاني­ة في عريهــا وتوقها وتمزقها، أو رســائل غوغان التي تسترسل في بحثهــا الدؤوب عــن الله والحلــم والخلاص عن طريق الفن. رســائل كافكا مهمة بتراكيبها العاتيــة المظلمة أهمية رواياتــه «تيار الرواية الجديــدة أو الرواية المونولوجي­ة». ورســائل عزرا باوند ســجلت للكثير من أسس الحداثة فــي أوروبا وأمريكا. جبــران خليل جبران من بــن أدبائنا، حظيت رســائله باهتمــام كبير في ربــع القرن الأخير ربما لأنــه كتب معظمها بالإنكليزي­ــة. وكم كان رائعــا ومثيرا ما قام به الأديب ماجد الســامرائ­ي عندما جمع رســائل بدر شــاكر السياب. إنها رســائل كانت تفضح عصره فمهمــا تمتلئ قصائــده بإدانة لزمانه، فإن رسائله تكشــف في ما تكشف كيف يحطم مجتمع عباقرته بسادية فظيعة.

مذكــرات الأدباء الغربيون بــدءا بمذكرات الســيريال­يين والدادائيي­ن إلــى مذكرات كافكا المترعة بالحيرة والتســاؤل ومحاولة اختراق اللغز. ثــم مذكرات أندريه مالرو التي تســمى «انتيميموار» أي المذكــرات الضد. ثم مذكرات فرانــك هاريس المجونية إلى مذكــرات الكاتبة الأمريكية الإسبانية الأصل أناييس نين العاجة بالصور الشخصية والتفاصيل الساخنة. أدب المذكرات أو أدب الاعتراف أو أدب الرســائل هو شجرة غنية الخضرة، غنية الفاكهة ما أحوجنا إليه في زمن اللؤم العميم.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom