Al-Quds Al-Arabi

«في النبض قلاع مهجورة» لزهرة الخصخوصي: الكتابة ضد النسيان

-

■ يلــوح عنوان هــذه المجموعــة القصصية للتونســية زهرة الخصخوصي باعتباره خطابــا واصفا في منطقة مــا قبل القراءة بهتك حواجــز النســيان ودك حصونه. فهو يجعلنــا ننتظر كتابة ضد النســيان تحاول عدم تجاوز ما ترســب في القلــب من أوجاع، وما تكرس في أعمــاق الذات. فقصص المجموعــة ملتحفة بالذاكرة وبأوجاع فضاء مهمش، وبخيبات جيل من الشباب.

ولعلنا نقارب هذه المجموعة من زاوية سوســيولوج­ية ونتعامل معها باعتبارها نصا يمتص واقعا اجتماعيا، على حد تعبير زيما في طرحه لسوسيولوجي­ا النص الروائي، وهي مقاربة تلقي بظلالها في حقيقة الأمر على مختلف الأنواع السردية. يدفغنا نحو هذه الوجهة، تقاطع الظواهــر والنماذج الاجتماعية في هــذه القصص، وتقاطع القصص بدورها مع المجتمع الذي يعد مرجعها وبنيتها الكبرى.

قصص المجموعة تنغــرس في التربة الاجتماعية المحلية وتتغذى من المحتمل، أو «مــا يمكن وقوعه» وهي تتقاطع بدورها وتتشــابه بعض مكوناتها الســردية، وهــي تحمل بين طياتهــا نزعة مجابهة النسيان. وهو ما يمكن تبنيه انطلاقا من مداخل مختلفة، وقد اخترنا عنصر الفضاء وسلكناه مدخلا لتبين أوجه هذه المجابهة. ولعلنا في ذلك نستند إلى ثراء الفضاء وتجاوز الدراسات الحديثة حصره في الوظيفتين التأطيرية والوصفية، واعتبــاره حاملا لدلالات ومعان كثيــرة، فهو على حــد تعبير حســن نجمي يــدرس «كوعي عميق بالكتابة جماليا وتكوينيا، الفضاء كشــكل ومعنى، الفضاء كذاكرة وهوية ووجود، الفضاء كمنوال إشــكالي ملتصق بوعينا» (شعرية الفضــاء المتخيل والهوية في الرواية العربيــة الدار البيضاء المركز الثقافي العربي(. فكتابة الفضاء وتخيله لا تخلو من اســتراتيج­ية ونوايا تضمر غايات جمالية وأيديولوجي­ة.

فكيف تجعــل زهرة الخصخوصــي الفضاء القصصــي مجابها النسيان وممتصا لما علق في القلب من ذاكرة وأوجاع وخيبات؟

أنثروبولوج­يا الفضاء:

تدور أغلب قصص هــذه المجموعة في فضــاء الهامش التنموي التونســي، وهو الفضاء الذي يسوده شعور عميق بالغبن والإهمال والغضب من دولة الاستقلال. فأغلب القصص تدور في قرى جنوبية ريفية، وفــي بيوت وغرف فقيرة وتقليدية. وهذا الأمر ليس من باب المصادفة فهو انعكاس أنثروبولوج­ي وســيرذاتي، باعتباره يلتقي ويتواشج مع ما يعتبره بلاشير الفضاء المعيشي الأمومي، فالكاتبة تنتمي بدورها إلى الداخل التونسي، ما جعل كتابتها تنهل من بيئته وتضــخ مصطلحاته وعاداتــه في نصها الســردي فيصبح الفضاء كتابة لأنثروبولو­جيا المكان وتوظيفا لنمط الحياة فيه واســتعادة لتفاصيله، فالشــتاء «يعــوي في صقيع هذه القريــة الصحراوية » ومريم «ارتضعت عسل تمرها في حليب أمها واصطبغ كفاها وشعرها بحنائهــا...» وهي تتمتم «أنا ســليلة هذه الصحــراء ابنة الجريد المتجمد شــتاء الملتهب صيفا ليجود بألذ التمــور وأطيب ملوخية» )قصة ليتهــا فكت ضفيرتهــا(، ففي هذه المقاطع حــرص على ضخ خصوصيات المكان وعاداته في الســرد من ذلك الطابع الصحراوي والتمر والحناء وأكلة الملوخية. ولا يغيب هذا الأســلوب عن قصص أخرى يحضر فيها الأنثروبول­وجي مجســدا في استعادة الحكايات التراثية مثل العنقاء، أو الأمثال والتعابير الشــعبية مثل «ختمت يا بن عروس» أو «وكرك وكرك وأن كان عودا يابســا». فالكاتبة تكتب في هذا المجال كتابة ضد نســيان الهوية والذات، وتحتفي بالتراث المحلــي. ولكن كتابة المــكان تتحول في المســتوى الموالي إلى كتابة لقرى النسيان في واقعها التنموي والاجتماعي.

كتابة الأماكن المنسية:

تتواتــر في المجموعــة كتابة الفضــاء، باعتبارهــ­ا كتابة لحياة الهامش التنموي بصعوباتها وآهاتها، فتبرز القرى البدوية المشبعة بإحســاس النســيان«خلــفذيالت­ــال الجبليــة قرية منســية تناثرت بيوتها قرميدية الســطوح ترتجف قرا « )قصة للأقــدار دروب(. تلــك الأماكــن التــي تجابه الحيــاة الصعبة ببداوتهــا: «مداخــن الفحــم تمــد رؤوســا نحــو الســماء تتحدى صقيع شــتائها المقبل» )الناي تثقله الأسرار(. ولعــل الكاتبــة تعمق اتجــاه الفضــاء نحو الهامــش وتمركزه في فضاء المعاناة، فتجري الأحــداث فــي الغرف الجبليــة والأكــواخ وتصبح رســما لحياة الخصاصة، مــن ذلك بيــت خليل فــي قصة العنقــاء: «بيــت من غرفة واحــدة يمتد في جوف الجبل وانتظار بحجم مدن الملح البعيدة، التي يســافر إليها خليل كل أسبوع محملا بالتبــغ إلى عمــال الموانئ، ليعــود مثقلة جراباتــه بقطع النحاس الصغيرة».

هذه الفضاءات تلفت الانتباه إلى الحياة المنسية بعيدا عن البهرج والزخرفة، ولكن دراسة الفضاء لا تكتمل ولا تتضح إلا ببحث عوالم شخصياتها ومصائرهم. وهو ما يحيلنا على عوالم الشخصيات.

كتابة الخيبات أو ذاكرة جيل:

تغلب على الشــخصيات القصصية الرئيسية حالة الخيبة، فهي تنتقل مــن الحلم إلى الانكســار... ولعل النموذج الــذي تردد أكثر هو نموذج الشــخصيات الحالمــة والمجتهدة، وهي تحقــق النجاح الدراسي، ثم تصطدم بخيبة الحياة وواقع المجتمع... فهي تنتقل من النجاح العلمي إلى الخيبة الحياتية، مثل مريم وقد عادت بشــهادة علمية أجنبية: «لقد افلت أيام امريكا ضامة أشــرعة طرقاتها المندسة في مخمل الثلج ومسدلة على المدافئ المستعرة شوقا إلى حمى وصال الشتاء أماه، أم نسيت أني تخرجت في جامعتها منذ عامين وارتميت في حضن قريتنا هذه من جديد يدفعني شوق واغتراب.»

تثير العديد من قصص المجموعة هــذه القضية الاجتماعية التي يشــهدها المجتمع التونســي، وتنقل معاناة هذه الأجيــال التي لم تقدم لها شــهاداتها العلمية حياة كريمة، بــل دفعت بها إلى المعاناة. ولعل لهذه الخيبة وجها آخر حينما يصطدم هذا النجاح بالقمـــــ­ع الســـياسي وبصـــــد السلطة، مثلما يلوح ذلك في قصـــة «الناي تثقله الإسرار». فالاحتفال بالنجاح يصـــطدم بقدوم سيارة أمنية:

«كان احتفــال القرية بالشــاب الذي اغترب يافعــا ويعود إليها دكتورا في الفـــــيز­ياء سيمـــــتد سبعة أيام بلياليها لكن سيارة الشرطة قطـــــعت وريد الفرح، وتم اعتقال يحيى: «فجــــأة تدافع رجال ببدلات ســوداء شــاهرين أســلحتهم وانقضــوا على يحيى يستلونه من حضن الفرح بوصال الأهل.»

هذه الخيبات لا تقتصر على ثنائية الدراسة والشغل، بل تمتد إلى خيبات عاطفية عنيفة يعيشها الشــخوص تتجسد في تعطل مسار ثنائية حب /زواج. وهو ما يظهر في قصص مختلفة.

ولعلنا نخلص في نهاية المطاف إلى أن هذه المجموعة تحمل طابع الكتابة ضد النســيان وهي كتابة لمشــاغل فضاء هامشي، ولخيبات جيل حــاول التحرر من الفقر واليأس، وبنــى أحلاما تجعله يتغلب علــى واقعه البائس، ولكنــه يصاب بالخيبة. فـ»فــي النبض قلاع مهجورة» كتابة للآمال والطموحات العالقة، ولأوجاع جيل وهي في ذلك تتقاطع مع الواقع الاجتماعي وتنزلق في فلك أسئلته.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom