Al-Quds Al-Arabi

عالم زياد الرحباني: الشخصية و«الأغنية الطقطوقة»

- ٭ كاتبة سورية

أهمية زياد الرحباني شخصيته، أكثر مما هي موهبته. لكن موهبته فرضت نفسها بسبب مثابرته. أي فنان غزير الإنتاج هو مثابر. ومثابرة المجتهد وجوبا تنبع من أمرين، إيمانه وثقتــه بما يمتلك من أيديولوجيـ­ـة فنية، التي هي بدورها تفرض نفسها عليه أكثر مما هو يتحكم بها. والأمر الثانــي منبثق من الأول، أو تسلســل منطقي للأمر الأول، وهــو أن الموهبة لها مداها وســعتها، تبقــى تتدفق حتى

زياد الرحباني

تصل إلى مرحلة الإشــباع، وقد لا تصــل إلى هذه المرحلة من الارتــواء، بل تبقى عند بعض الحــالات مدى الحياة. أي كلمــا تعرض الموهوب لقصة حتى لــو عرضية وتافهة تحرض عنــده مفردات وتشــابيه وتعابيــر تجعل الأمر العادي والاعتيــا­دي خارقا فذا اســتثنائي­ا، فقط لأن من وصفها وعبّر عنها أعاد خلقها، فالإبداع خلق ونفخ الروح في الجسد وبث الحركة والجيشان في المهاد الراكد.

حتى لا يكــون الرأي هنا بعيدا عــن المنطق وقريبا من اللاهوتية. ببســاطة بعض المبدعــن لا جميعهم، الأفكار عندهم نبع لا ينضب. وكل مناسبة عندهم استثنائية. وكل حادث هو تاريخــي. وكل صدفة هي ميعاد، وكل ميعاد هو صدفة، وكل خبر هو مفاجأة وكل حب هو دفين وكل ذاكرة هي مذكرات. البعض أكثر من غيرهم من الموهوبين.

وهذا ما ينطبق على زياد الرحباني. أهميته أنه غنى ال Gig أي الأغنية الطقطوقة، أكثر مما هي المســرح الغنائي عنــد أبويه، وفاق أهمية والديه لأنــه ابتكر من دون قصد إدخــال، أو دمج الجــاز بالعــود. الأوركســت­را والبيانو بالتخت الشــرقي. التصفيق كجزء مــن الأغنية الـ Gig ترافق الدندنــة والمواويل التي يغنيها ابن العاصمة، الذي لا هو متمدن ولا هو متشــرد. أشم رائحة التبغ والسيجار اللف، بل حتى الغليون فــي أغانيه وأتخيل دخانها يخيم على ظلمة استديو التســجيل. قد لا تكون كلمات الأغاني في مســتوى الألحان والأسفار التي يجعل المستمع يعيش أجواءها، حيث ما زال مقيــدا ومحصورا بموضوع الغني والفقيــر بالأســلوب الذي بات ممــا من كثــرة ما تردد بالأعمال العربيــة والعالمية، منذ أيام الأســود والأبيض حتى يومنا هذا، فبات يســمى فنا تجاريــا رخيصا، أو فن شــباك التذاكر. طالما هو مجرد تكرار لا يحفز ذهن المتلقي ولا حتى يشــده، مثل أغنيــة «الحالة تعبانة يــا ليلى،» أو «عايشــة وحدا بلاك» وســواها من حــب وانتظار وذكريات الطفولــة و.. و. وكأنه متأثــر بجو عائلته وما تربــى عليه، وهذا طبيعي. لكــن أهميته أنه حالة ولون عربي ولبناني على صعيد الموسيقى، هو متهكم ساخر لاذع، يجمع من خلال أعماله أجواء ريف وجبال لبنان أيام أوج تألق الرحباني، مع أدوات موســيقية عاصمية وكوزموبولي­تانية مترفة ومتطورة مع نوتات كلاسيكية وأهازيج شعبية في خلطة واحدة وناجحة.

المدينــة والعمــران وتلوث الجــو وصخب الحياة والفقر نتيجة قلة التدبير، لرجال تأخذ الأمور ببساطة في زمن بات كل شيء فيه معقدا، لكنهم ليسوا ضحايا، وأنا اســتمد تصوراتي من كلمات الأغاني ليس إلا. هم ليسوا ضحايا بالمعنى المأســاوي ولا يعانون من الضياع والخيبة إنما بروح السخرية والنظر إلى الأمور من الأعلى لا من تحــت، أي كأنهــم أكبر من مصائبهم ولا يشــعرون بغربة روحية في بلدهم، إنما هي ببساطة مجرد تعليقات ناقدة لبلد ما زال يتم إعماره ولكنه يحب كل جديد وشعبه يميز بين الجيد والرديء.

ورغم الجو الذي توحي بــه الأغاني، إلا أنه جو مدائن صناعية معاصرة، لكنهــا خالية من إحباطات مدن الغرب التــي تبلع الضعيــف حتى لو كان على حــق. على عكس أجواء أغانــي زياد الرحبانــي التي هي قريبــة من قلب المتلقي، ولها جمهور من ذواقــة الفن الرفيع الأصيل، وكل من يبحث عن الجديد والمختلف، إنها ببســاطة عالم زياد الرحباني الذي يمتعنا ويطربنا.

في الوقت نفســه، زيــاد الرحباني لم يترجم مشــاعر المواطن اللبنانــي ولم يمثله ولم يعكــس صورة المجتمع مثلمــا يقدم أي فنان في المطلق لوطنه كجزء من رســالته المهنيــة. ما فعله هــو أهم من كل ذلك، صنــع كيانا لبنانيا من الكلمــة واللحن، معتمدا في ذلك على تركيبة خلقية من ثلاثة عناصر: الفكاهة، التمرد والعبثية.

والــذي حصــل معه عكس مــا يحصل عــادة مع باقي الأســماء المعروفة، الذيــن نحبهم ثم نفاجــأ بكلامهم في المقابلات )على الهوا( لا يعرفــون كيف يتكلمون، أو كيف يعبرون عن أنفسهم بلغة مفهومة حتى لهم، رغم نجاحهم المهني. أما زياد الرحباني الذي كان سوق إنتاجه محدودا في ســوريا على نطاق الأشرطة المســجلة التي يشتريها الناس ويديرونها في الســيارات أثناء ســفرهم لمسافات قصيرة بين المحافظات لمســرحيات­ه، لم تكن ذائعة الصيت ولم تلق ذاك الــرواج إلى أن أجري معه لقــاء وكان على نحو مخالف لكل الذين استضافتهم المذيعة من قبل، عفوي ويخرج عن الموضوع ولا يخجل من المواقف المحرجة التي مر بها، ولغته المبســطة الطفولية التي أربكت المستضيفة، وربما كل القائمين علــى البرنامج في الكواليس. ربما هذه الشخصية الطريفة التي كانت في الظل، والتي سنحت لها الفرصة أن تطل على الشاشــة في أكثر البرامج متابعة في ذاك الوقت، لفتت الأنظار إليه وزادت من شعبيته حتى من قبل الذين لا يحبذون نمط الأغاني التي يقدمها.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom