Al-Quds Al-Arabi

أمريكا اللاتينية تتجه نحو اليمين... والمكسيك الاستثناء

- * محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي

شــاركت للتو في مؤتمر غير حكومي عقد في العاصمة المكسيكية حول الهجرة والمهاجريـ­ـن وما يتعرضــون له من أذى واضطهاد وهم يحاولون اجتياز الحدود علهم يجدون في بلد آخر فرصة أفضل من المتوفر في بلادهم، إلا أن بلاد العبــور في غالبية الأحيــان تمنعهم من الدخول، وتردهم على أعقابهــم، أو تتركهم عالقين على الحدود تائهين خائفين جائعين. لقد صادف يوم افتتاح المؤتمر الذكرى الأولى بعد المئة لوعد بلفور فوجدتها فرصة أن أربط الماضي بالحاضر وأتحدث عن معاناة الشعب الفلســطين­ي الذي تكالبت عليه القوى الاســتعما­رية والإمبريال­ية وأذنابهم في المنطقة الذين ما فتئوا يلحقون الأذى بقضية الشــعب الفلسطيني تقربا من سادتهم وحماية لعروشهم.

«جئت أيها الرفاق لأشارككم الحزن والألم فمشاكلكم تهون أمام مشــاكلنا. وقافلة المهاجرين التي تتحدثون عنها لا تزيد عن عشرة آلاف مهاجر علما أن الألم لا يقاس بالعدد، بل بحجم القهــر والظلم. أتعرفــون أن عدد المهاجريــ­ن والمهجرين في العالم يزيد عن 65 مليونا معظمهم عرب ومسلمون؟ أتعرفون أن بلادنا العربية أغنى بقاع الدنيا من حيث المصادر الطبيعية والثقافة والمعالم التاريخيــ­ة والتنوع الحضاري ولكن اليمن على حافة مجاعة وســوريا ممزقة بين لجوء وتشــرد وموت والعراق بعد الاحتلال الأمريكي أصبح قطعا ممزقة تتلاصق، ولكن تتنافر، وليبيا تشهد أكثر من حرب ومصر يا حسرة على دورها الغائب. أما فلسطين فما زالت تحتل الرقمين القياسيين في عدد المهاجرين وطول الهجرة».

عقد المؤتمر وأخبار قافلــة المهاجرين المتجهة نحو الحدود الأمريكية تحتل الاهتمام الأعلى فــي المنطقة، خاصة أن أكثر من 2000 وصلوا العاصمة فــي طريقهم إلى حدود كاليفورنيا الجنوبية، وقد اســتغل الرئيس الأمريكــي، دونالد ترامب، حكايــة القافلة لإثارة المخاوف لــدى الناخبين الأمريكيين من الهجرة، ووعد بأن يتعامل مع القافلة بإغلاق الحدود وإعطاء أوامر لحرس الحدود بإطــاق النار على من يحاول أن يدخل عنوة واعتقال من يمكن اعتقاله.

معظم المشــاركي­ن في المؤتمر يمثلون أحزابا يســارية أو ما تبقى منها أو منظمات حقوق إنسان في المكسيك ودول أمريكا الوسطى والجنوبية مثل، غواتيمالا ونيكاراغوا وهندوراس والســلفاد­ور والإكوادور وكولمبيا وفنزويلا. كل هذه الدول، خاصــة فنزويلا، تحولت إلى بلاد تصــدر المهاجرين. كولمبيا تصدر أبناءها وتســتقبل الملايــن من فنزويــا، مثلها مثل المكســيك، حيث يتســلل منها ملايين المواطنــن إلى الجارة الأغنــى في الشــمال، بينما يحلــم كثير من جائعــي أمريكا الوسطى أن يستقروا في المكســيك، لتوفر فرص أكثر في هذا البلد الكبير والغني والحنون على كل الناطقين بالإســبان­ية، رغم ما يعاني منه من مشــاكل كبرى، وعلى رأسها الجماعات المنظمة التي تشــرف على أكبر عمليــات تهريب مخدرات في العالم، والتي تشكل دولة ضمن الدولة واقتصادا موازيا يدر ملايين الدولارات، لكنها تخلف مئات القتلى كل عام.

لمــاذا ترتد أمريــكا اللاتينية إلــى اليمين بعــد أن وصلت غالبية قوى اليســار سدات الحكم بعد نهاية الحرب الباردة؟ التحليــات والكلمات وشــهادات عدد من ضحايــا اللجوء والتشرد والتمييز والاستهداف تجيب.

جــرت انتخابات رئاســية وتشــريعية في المكســيك في شــهر يوليو/تموز الماضــي، حيث ذهب نحــو 59 مليونا إلى الصناديــق، وفاز في الانتخابات مرشــح اليســار أندريس مانويل لوبــز أوبرادور، من حركة التجديد الوطنية، بنســة 53% مقابل 22% للمرشح الأقرب إليه، ريكاردو أنايا. وهذا الانتصار جاء على خلفية انتشــار قصص الفســاد للرئيس الحالي، الــذي تنتهي ولايته في 30 نوفمبر/تشــرين الثاني الحالــي، إنريكــي بينيا نيتو، وانتشــار مافيــات المخدرات وتراخي الشرطة في التصدي لهم، خوفا أو رشوة، والارتفاع الحاد في معدلات الجريمة، لكن الأهم، كما يرى الكثيرون، أن التوجه لليسار كان ردة فعل على سياسات ترامب العنصرية، الــذي ألحــق الأذى بكرامة الشــعب المكســيكي، في وصفه مهاجريهم في أمريكا بأنهم «مجرمون ومغتصبون ويحملون معهم المخــدرات»، كما وعد بإقامة جدار عــازل على الطريقة الإســرائي­لية ومراجعة اتفاقية نافتا. لكن المكســيك أصيبت بالإحباط مــن نتائج الانتخابات في البرازيل. فقد كان يتمنى الرئيس المكســيكي المنتخب أن يستقوي بحكومة يسارية في الدولة الأكبر في أمريكا اللاتينية، يســتند إليها ويسندها ثم تتكاتف الدولتان للتأثير على الدول الصغيرة والأكثر عرضة للهيمنة الأمريكيــ­ة، إلا أن نتائج انتخابــات البرازيل جاءت مخيبة للآمال. فالرئيس المنتخب، جاير بولســينار­و، الفائز على منافسه اللبناني الأصل فرناندو حداد، ليس يمينيا فقط، بل أقرب إلى الفاشية، وكان أول القرارات التي ينوي تنفيذها بعد استلام الرئاســة في بداية العام نقل السفارة البرازيلية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس.

وفي تفسير ذلك قال لي أســتاذ أمريكي في جامعة بيركلي الشــهيرة، شــارك في المؤتمر بــأن الناس يتجهــون لليمين عنــد الخوف والقلــق والضعف الاقتصــاد­ي وغموض آفاق المســتقبل، ويتجهون لليســار والليبرالي­ة واحترام حقوق الإنسان والأقليات عند الاستقرار والراحة الاقتصادية والثقة في البلاد ومستقبلها.

لا أريد أن أناقــش مدى صحة هذه النظرية، ففيها شــيء من الحقيقة، إلا أنهــا تتجاهل العامــل الخارجي الذي تمثله الولايــات المتحدة فــي منطقة تســمى تاريخيــا «حديقتها الخلفية» والتاريخ شــاهد على ذلك. فقــد تعاملت الولايات المتحدة مــع دول أمريكا اللاتينية المشاكســة والخارجة عن طاعتها بالقتل والاغتيال )رفائيل تروخيلو في الدومينيكا­نســلفادور أليندي في تشيلي- تشــي غيفارا في غواتيمالا( والانقلابا­ت المدبــرة )بنما، هايتي، نيكاراغــو­ا، هندوراس، الدومينكان( والحصار والاســتفز­از والعقوبات )كوبا والآن فنزويلا( والغزو العســكري، )بنما وكوبا وهايتي والمكسيك وغرانادا( وأخيرا دعم الحركات المعارضة والثورات المضادة ودعم المرشــح اليميني بالمال والضغط والتدخل )نيكاراغوا، السلفادور، الإكوادور(. ويبدو أن التدخل الأمريكي ترك حالة من التخوف وعدم الاطمئنان بعد أن تعرضت الدول اليسارية لضغوطات وتدخلات أدت إلى أزمات اقتصادية هائلة.

الأمــر الملاحظ فــي المكســيك أن التوجه نحــو اليمين في أمريكا اللاتينية بدأ ينتشــر من دولة إلى أخرى. ما تبقى من اليســار يمر بصعوبات قاتلة مثل فنزويلا ونيكاراغوا، بينما سقط اليسار في انتخابات الأرجنتين وإكوادور والسلفادور وتشــيلي والبرازيل، ما عدا المكســيك الدولــة التي تأتي في المرتبة الثانية من حيث عدد السكان والمساحة وقوة الاقتصاد بعد البرازيل.

ومراجعــة للــدول التي اتجهــت إلى اليســار ووقفت مع الحق العربي والفلســطي­ني خاصة، تجد أنها تتمزق وتتفكك اقتصاديا وســكانيا. ففنزويــا منذ انتخبت هوغو شــافيز (1999( وهــي تعاني مــن خلخلة اقتصاديــة أوصلت البلاد في عهد مادورو، خليفة شــافيز )2013(، إلــى حافة الانهيار الاقـتصادي الشامل. ولا أحد يشك في دور الإدارات الأمريكية المتعاقبة في هذا الانهيار، بعد ســحب الاستثمارا­ت، وإغلاق الشــركات، ووقف الصادرات الفنزويليـ­ـة، وفرض عقوبات اقتصادية على البلاد. لكن هذا لا يعفي السياسات الشعبوية غير المدروســة من قبل شــافيز- مادورو كتوزيــع البترول مجانا أو بأســعار زهيدة على دول أمريكا اللاتينية الفقيرة، خاصة كوبا وتأميم الشــركات الأجنبية، مــا أدى إلى هروب رؤوس الأموال وانتشار الفساد وتغلغل أجهزة الأمن وتغيير الدســتور، ليلائم السيطرة المستمرة لشــافيز وورثته )على الطريقــة العربية(، فســاءت الأحوال وانتشــرت الفوضى واختفت كثير من المواد الأساســية وهــرب الناس من البلاد، حيث تشرد ما لا يقل عن خمسة ملايين فنزويلي، وكأن لسان حــال الولايات المتحدة يقــول: تريدون أن تتجهوا لليســار وتعادوا إســرائيل وأمريــكا هذا هو الجــواب. وما جرى في فنزويلا يجري الآن في نيكاراغــو­ا حيث ظل أورتيغا وحزبه مســيطرين على البلاد بالانتخابا­ت لا بالعصا، وآخرها عام 2016. إلا أن هذا غير مقبول عند الجار الإمبريالي.

أمــا الأرجنتين فبعد أن دوى صوت الرئيســة كريســتينا فرنانديز كيشــنر، في الجمعيــة العامة ومجلــس الأمن في سبتمبر/أيلول 2015 بأعظم خطاب عن القضية الفلسطينية، بدأت الدوائر تدور عليها، حيث اتهمت على الفور بأنها فاسدة وأنها أخفت حقيقة دور إيران فــي تفجير المركز اليهودي في بوينس أيرس عام 1994 وطالب المدعي العام باعتقالها ورفع الحصانة عنها. وديلما روســيف، رئيسة البرازيل التي لقنت أوباما درســا في الكرامة الوطنية وألغت «زيارة دولة » للبيت الأبيض عام 2013 بعد فضيحة تجسس أمريكا على الشركات البرازيلية، تعرضت بعد ذلك للتحقيق بتهم الفســاد والكذب وإعطاء صورة غير واقعية لإنجازاتها الاقتصادية، وأخرجت من الرئاسة عام 2016 قبل نهاية دورتها.

كثيــرة هــي القصــص الشــبيهة حدثت في هنــدوراس وإكوادور وكولمبيا والبيرو. وتــكاد الحكومات اليمينية الآن تطبق على خناق القارة لولا المكسيك وكوبا وبوليفيا.

لكن الحقيقة أن زعماء أمريــكا اللاتينية وطنيون يحبون بلادهم وليســوا عملاء للولايات المتحدة، ولا نشك أن بندول الســاعة الذي كان منشــدّا نحو اليســار لعقدين من الزمان ســيرتد مرة أخرى إلى حيث تكمن مصالح الشــعوب التي لا تســاوم على كرامتها ولا تقبل الإهانة من أحــد حتى لو كان رئيس الولايات المتحدة. وكما عاقــب الناخبون الأمريكيون ترامب على سياســاته الحمقاء في الانتخابــ­ات النصفية، لا نشــك في عودة شــعوب قارة أمريكا اللاتينيــ­ة إلى موقعها التاريخي في رفض التدخلات الأمريكية والانتصار لكرامتها ومصالحها الوطنية.

زعماء أمريكا اللاتينية وطنيون يحبون بلادهم وليسوا عملاء للولايات المتحدة

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom