Al-Quds Al-Arabi

فلسفة إدارة التغيير: القوة الناعمة وخيار الضرورة

- *كاتب تونسي

لم تســتطع أمريــكا رغم اعتماد أوباما نهج «السياسة الناعمــة» تقليصــا للقــوّة الخشــنة، الخروج من مأزق السياســة العدائيــة الــذي أصبــح مرتبطا بهــا لعقود، اســتنادا إلى القوّة القسرية والتدخّــل العســكري فــي أكثر من دولة ذات ســيادة، ولن يتراجع منسوب التوجّــس لدى الشــعوب من هذه الدولــة، لأنّها ببســاطة لم تُغيّر أهدافهــا السياســية المرتبطة بمشــروع الهيمنة، وإن غيّرت الأسلوب ليظهر أقلّ خُشونة بالشّكل الذي يعتمد «الوكلاء».

ولكن القــوّة الحربيــة تعُود لتكــون العنصر الحاســم عنــد فشــل الاســترات­يجيات الأخرى، التي يُلخّصها جوزيف ناي فــي «القوّة الناعمة،» فالوســيلة الأســرع في تحقيق الغايات هي القوّة العســكرية، والولايات المتحدة استخدمتها لعقود غير عابئة بالمرجعيات الدولية، فوتّرت بذلك مناخ العلاقات الدولية والآلية العسكرية كانت حاضرة بقوّة، دمّرت دولا، ومزّقــت بنيتها القومية وفكّكت نســيجها الاجتماعي. وقــد أصبحت السياســة الأمريكية منذ باراك أوباما واســتنادا إلى مفكّرين ومنظّرين اســتراتيج­يين تعتمد القــوّة الناعمة، إضافــة إلى القــوّة العســكرية والاقتصادي­ة، في تكتيك جديــد للحدّ من كلفة النفقــات التي ضُخّت في الحــروب، خاصّة تلك التــي خيضت في العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأوّل من الألفية الثالثــة، ضمن ســياق التدخّــل الخارجي المفرط لمن نصّب نفسه «شــرطي العالم». وبدا من الممكن أن تكــون «قوّة التعــاون الطّوعي» بديــا للقوّة العسكرية المباشــرة، من جهة القدرة على تشكيل ما يُريده الآخرون بالاعتماد على «طيف السّــلوك غير الآمر .»

إنّها القــوّة الجذّابة أو هي القــدرة على امتلاك الجاذبيّــة للتّأثير في ســلوك الآخريــن، من دون إرغامهم بتهديــد أو إغرائهم بمورد مــادّي. وهي القدرة على كسب العقول والقلوب في آن، لتحقيق الأهداف الاستراتيج­ية التي ترجُوها أمريكا، وحثّ عليها مفكّروها الذين يؤثّرون بطريقة غير مباشرة على القناعات السياســية للبيت الأبيض، وتظهر نظرياتهــم في مســتوى التطبيق داخــل الإدارة الأمريكيــ­ة. وهذه القوّة تحمل فــي جوهرها قدرة أمّة ما على التأثير في أمم أخرى، وتوجيه خياراتها العامّة، اســتنادا إلى جاذبيــة نظامها الاجتماعي والثقافــي، ومنظومــة قيمهــا ومؤسّســاتها بدل الاعتماد على الإكراه أوالتهديد.

وربّما لا نعــدو الحقيقة عندما نقــول إنّ القوّة النّاعمــة التــي بــدت تتجلّــى منذ عهــدة أوباما الرئاسية، ســاهمت في زعزعة استقرار الدول في المنطقة بشــكل ملحوظ، من دون تدخّل عســكري وفق النمط التقليــدي الذي دمّر العراق زمن بوش الابــن. وفي ما يبدو نجحــت الولايات المتحدة في اســتخدام وســطاء إقليميين في حــرب بالوكالة شُــحِذت فيها الطائفية، واُســتُغِلَّ العامل الثقافي والعرقي والمذهبــي في خلق التّفرقــة والاقتتال، ضمن مشــروع «الفوضى الخلاّقة»، وهي مسارات مغايرة للقوّة العســكريّة المباشــرة التي كانت لها تكلفة بشــرية ومعنويــة ومادّية كبيــرة، وبذلك وجــدت الولايــات المتحــدة «التّغيير عــن بُعد» بعبارة ريتشــارد آرميتاج الوســيلة الأقلّ تكلفة، وإن كان هناك من يُموّل كلّ التحرّكات العســكرية والاســترا­تيجية على اختلاف أنواعهــا، ويكفيه اعتــزازا أن يبقى ضمن قائمة الحلفــاء الإقليميين للولايــات المتحدة الأمريكية، رغــم حجم ما يُنفقه لتغطية العمليات الأمريكية في الشــرق الأوســط وحوض المتوسّــط، من صعود طائرة بدون طيّار إلى إطــاق صاروخ توماهــوك، أو تحريك بارجة حربية للتهديد والوعيد.

ويجري الاعتقاد الجازم أنّ مثل هذه السياســة هي التي فُعّلت بشكل واضح في السنوات الثماني الأخيــرة منذ وصــول بــاراك أوباما إلــى البيت الأبيض، وتعبيراتها الأبرز التي تُتَرجم اصطلاحا فــي القوّة الناعمــة، تعني القــدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية واستمالة القلوب وترويض العقول بــدلا من الإرغام أو دفع الأموال، وهي سياســة تخلق فجوة بين الشعوب والأنظمة الحاكمة، من خلال أشــكال التواصل الحديثة عبر التقنيــات التكنولوجي­ــة، التي تُعــدّ لغة العصر، جاذبيّة الثقافة أوالسياســ­ة لبلد ما تُحدث تأثيرا فــي دول أخــرى أو كيانات جيوسياســي­ة، ومثل هذه الاســترات­يجية الناعمة تُفقد الدول سيادتها وتفكّكها مــن الداخل، مــن دون تدخّل عســكري تقليدي مباشــر، وبالتالي ليســت سياسة ضعف كما نقــد كثيرون، وفــق منظور مقارنــيّ، واقعية أوباما اســتنادا إلــى منطق القوّة التــي انتهجها الجمهوريون قبله، وتُرجمت في العمل العســكري والحروب الخارجية، بل هي شكل من أشكال القوّة وقد تكون من أخبث الوســائل غيــر المنظورة في العلاقات الدولية وفلســفة إدارة التغيير وتطويع الأحداث المتسارعة واستيعابها.

القوّة النّاعمة التي بدت تتجلّى منذ عهدة أوباما الرئاسية، ساهمت في زعزعة استقرار الدول في المنطقة بشكل ملحوظ

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom