Al-Quds Al-Arabi

جواد بولس*

- *كاتب فلسطيني

انتخبــت الجماهيــر العربيــة فــي إســرائيل مرشّــحيها لمعظــم المجالــس المحلية والبلديــة، بعد أن خاضت معارك اتسّــمت بشراسة شــديدة في كثير من القــرى والمدن العربية، رغم نداء البعض ألّا تخرج الممارســة الديمقراطي­ة عن طبائعها التنافســي­ة الحضارية، ورغم ندائه أن تخلــو المنافســا­ت من العنــف، ذلك أنه ســيترك جروحًا اجتماعية خطيرة، وآثارًا سياســية ســلبية. ولكنّ الأمنيات في شــرقنا تبقى رهائن للخيال وحبيســات في القلوب، ففي الشوارع ســادت، على الأغلب، "حكمة" العصا وتربع سلطان الخوف وتجبّره.

ســتكون لنتائج الانتخابــ­ات، بطبيعة الحــال، تأثيرات مباشــرة على حياتنا اليومية، وعلى مســتقبلنا السياســي العام ومكانتنا كأقلية تواجه تحديّات وجودية في علاقتها مع الدولة. ولكن لا يمكن حصر انعكاســات ما جرى يوم الثلاثاء الماضي في مقالة أسبوعية، ولا عن طريق الاستعانة بتعليلات سطحية تتعاطى مع المتغيّرات الجارية كحدث عابر أو متوقع، وكأنّ الواقــع السياســي، الحزبــي والنخبــوي والقيادي، المتوارث منذ ســبعة عقود، ما زال يحافــظ على أركانه وعلى وشائجه وعلى مركباته وعلى تأثيره.

من الطبيعي أن تختلــف الانتخابات المحلية عن انتخابات الكنيســت، ولكن مــن الطبيعي والمؤكــد كذلــك أن تتقاطع العمليّتان في العديــد من المفاصل، وأن تتبادلا التأثير بينهما، فكما هــو متوقع بعد هــذه الجولة، قد تدفــع أو تندفع بعض الجهات السياســية نحو مبادرة لتأسيس حزب عربي جديد، ســينافس القائمة المشتركة، أو ربما سيكون معاديًا لها، والغد لناظره قريب. تأثرت كل قرية ومدينة بمجموعة من المعطيات المحلية الخاصــة والمميزة، بيد أن جميعهــا واجه، في الوقت ذاته، المؤثرات والعوامل السلبية السقيمة نفسها. لكننا، رغم قتامة الصورة، نستطيع تشخيص بروز عدد من الظواهر التي أرى فيها، رغم محدوديّتها، بشــائر لمستقبل مشرق وضمانات لعافية اجتماعية وسياســية مكنوزة فــي مجتمعاتنا. ظاهرة شــيوع العائلية والحمائلية وتأثيرها في مجتمعاتنا العربية كانت ومازالت من المســلّمات المؤســفة، إلا أننا، رغم هيمنتها، ســنجد من تحدّاها في عدّة مواقع، خاصــة بين بعض النخب الطليعيــة والتقدّمية، وكذلك بين جيل الشــباب، الذين أثّروا أو حســموا النتائج في العديد من المواقع، وكســروا القوالب وأرسوا بذورًا خيّرة إذا ما أحسنت رعايتها ستنمو وستصبح زهورًا لفجر واعد.

المرأة فــي مجتمعاتنــ­ا الذكورية مضطهــدة، ودورها في قيــادة العملية السياســية كان ومازال، شــبه معدوم، فرغم مســيرات النضال ضد سياسات وممارسات قمعها، لم يحصل التغيير المنشــود ولم تنل النساء ما تستحقنه من حقوق ومن دور ومكانة. )مع وجود بعض الحالات الاســتثنا­ئية النادرة كانتخاب الراحلة فيوليت خوري رئيســة لمجلس محلي قرية كفر ياســيف الجليلية فــي بداية ســبعينيات القرن الماضي، وانتخاب عدد قليل من الأعضاء النساء في هيئات المجالس(. مع هــذا، لا يمكننا التغاضي عــن التغيير الحاصــل في هذه القضية، كما عكســته نتائج الانتخابات الأخيرة، فللمرأة كان دور قيادي بارز في الكثير مــن القرى والمدن، حيث لم يقتصر ذلك علــى انتخاب 26 ســيدة كأعضاء في المجالــس البلدية والمحلية، بل بمشــاركة جموعهنّ الفعالــة والمؤثرة في جميع مراحل العمليــة الانتخابية، مــن تخطيط وتجنيــد وقيادة ميدانية وتنظيمية، مشــكّلات بذلك ظاهرة لافتة، ســتصبح واقعًا في مــا إذا احتضنته جميع القــوى التقدّمية الموجودة والناشطة في مجتمعاتنا.

أصبح شــيوع ظواهــر العنف في مجتمعاتنــ­ا العربية من الأمــور الموجعة، وتحوّل العجز في مواجهتــه إلى خطر يهدّد الســامة العامة، ويهزّ أركان هويّتنا الجامعــة، ورغم بقائه كعامــل مؤثر فــي مجريات العمليــة الانتخابيـ­ـة، باختلاف منســوب مفعوله بين مكان ومكان، شــاهدنا كيف انبرت في بعض البلدات معظم الفعاليات الاجتماعية والسياســي­ة إلى مواجهته، ونجحــت في كثير من الحالات في إبطال مفعوله أو بتهميشــه بشكل مفرح. لقد أشــرنا في الماضي إلى معظم هذه العوامل الســلبية وأكدنا على خطورتها وتأثيرها التخريبي على النسيج الاجتماعي، وعلى هويتنا الجامعة وعلى الحالة السياســية العامة المتقهقرة. كان ســؤالنا دومًا: لماذا نجحت هذه العناصــر وتغلغل نفوذها بيننا إلى هذا الحدّ؟ نحن نعلم انها كانت موجــودة بيننا عندما عاشــت مجتمعاتنا عصرها السياســي الذهبي ويــوم كانت هويتنا الجمعيــة هي درعنا الواقي، وكانت نخبنــا التقدمية والوطنية ســدودا حاضنة و"كواســر موج" تصدّ كلّ غريب وتعاقــب كل معتدٍ وتردع كل مشــاغب وتقصي كل عميل، فلماذا إذن؟ لــم تتعاطَ الأحزاب والحركات السياســية والدينية مع خطورة هذه التطورات، وقد تبين لنــا في الواقع أنها لم تكن قــادرة على مواجهة هذه الظواهر، بســبب تكلّس هيئاتها وعجز قياديّيها، ما أدّى إلى اســتقواء تلك العناصر المنهكة وإلى دخولنا في حلقة خبيثة، يغذّي طرفها الواحــد طرفها الآخر حتى وصــل حالنا إلى ما نحن عليه اليوم. فقد كشــفت الانتخابات المحلية، في الواقع، تمكّن تلك الأعراض المرَضيّه من الجسد، لكنها كشفت كذلك عما تختزنه "أجسادنا" من مناعات اجتماعية ومن مجسّات سليمة متأهّبــة وجاهزة لخــوض معاركها من أجل الحيــاة الكريمة والصحية والسليمة.

يجــب أن نقرأ تفاصيــل ما حصل في جميــع المواقع قراءة جريئــة وســليمة وغير متعاليــة، فانتخاب بعــض البلدات لرؤســاء "محســوبين" على الأحزاب والحركات السياســية والدينية التقليدية، يجــب الا يغرّر بهيئات تلك الاحزاب، وألا يوهمهــا ويطعمها "جــوزًا فارغًا"، فنجــاح كلّ رئيس في تلك المواقع حصل رغم انتمائه الحزبــي والحركي وليس بفضله، والعبرة والفلاح سيكونان من حصة من سيجتهد ويستخلص أفيد العبر. أقول ذلك وبرهانــي، علاوة على وضوح النتائج، هو فشل القائمة المشتركة، ومعها ســائر مؤسّسات المواطنين العرب القيادية، بتشــخيص المخاطر الكامنة وإيجاد قواسم مشتركة سياسية قادرة على تمكين أتباعها في القرى والمدن من إقامة أجسام غير متناحرة أو موحّدة ومؤهلة لمواجهة البدائل الغريمــة وقوتها المتنامية. وقد عكس تصرف الفرقاء/ الحلفاء انتهازية صارخة، وأثبــت تغليبهم للمصالح الحزبية الفئوية المحلية، التي تماثلت أحيانًا مع المصالح العائلية المحلية، على مصلحة المجتمع العامة وعلى ســامته، فقد نجــُد ائتلافًا بين حزبي التجمــع والجبهة مثلًا في بلدة مــا، بينما يدور بينهما صــراع دمويّ في بلدة مجاورة. وقد شــكّلت هذه التناقضات مشــهدًا أرخى علــى عامة الناس ظــالًا ثقيلــة وأفضى، في النهاية، إلى نتيجة سياسية واحدة، وهي أن القائمة المشتركة كانت الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات.

على جميــع الأحــزاب والحــركات السياســية والدينية التقليدية إذن أن تراجع بناها التنظيمية، وتستحدث برامجها السياســية وأن تعي أن ولوجها إلى بطــن الحاضنة/ القائمة المشــتركة لن يؤدّي إلى حمايتها من الجــوع ومن الجفاف أو حتى مــن الموت البطــيء. كانت الجماهير هــي الحكم عندما أنصفت أحزابها وحركاتها الوطنية، وستبقى هي الحكم الأول والأخير، ومن لا يراها كيف عاقبت من يعيشــون في ماضيهم فقط، مهما كانت تلك مضيئة ومشــرفة، لن ينجح في مواجهة شــمس الغد الحارقة، ومن لا يشرع فورًا في "تنظيف مداخنه" سيختنق من دخان الحرائق، ومن لا يبدأ ببرمجة حواسيبه من جديد لن يجد لنفسه مكانًا يذكر في عالم "النانو" والروبوتات. قد نختلف على عدة تقييمات حول نتائج الانتخابات الأخيرة، لكنني أسمع، ومعي يسمع الكثيرون، أصوات أوراق الناخبين وهــي تصيح في صناديــق الاقتراع وتفتش عــن هوية وعن طريق وعن مستقبل. وأجزم، هكذا قالت لي الحناجر في بلدتي كفر ياسيف، إنه ما زال في القنديل بعض من زيت وهنالك من سيضيء العتمة لأجيال المستقبل.

الجماهير هي الحكم عندما أنصفت أحزابها وحركاتها الوطنية، وستبقى هي الحكم الأول والأخير

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom