Al-Quds Al-Arabi

كعكة الإعمار السورية والانكفاء المصري

- *كاتب أردني

الإخوانيــ­ة، ويبدو أن الحكــم ذا الخلفية العســكرية، لم يستطع الإجابة عن أسئلة التحول المهمة التي كانت تنتظر مصر، ولذلك فالانســحا­ب المجاني من مسألة إعمار سوريا يتناقــض مع وجود رؤيــة تخول مصر أن تــؤدي أي دور قيادي في المنطقة، ومــن دون الدور القيادي فإن الاقتصاد المصري كله ســيدخل في مرحلة الانغلاق والانكفاء، ومعه الدور المصري بأكمله، ومســتقبل مصر بوصفه دولة عالية الكثافة السكانية.

يشكل إعمار سوريا موضوعاً للتنافس الدولي، ولا أحد ينظر إلى فكرة تمويله من حيث المبدأ، فالجميع يوجه نظره للفرصة التي تلوح لمشــروع كبير للغاية، تقف روسيا على رأس الطاولة، وتقبض على الســكين أمــام الكعكة المغرية، وبمحاذاتهـ­ـا ايران وتركيا، وفي المقابل يجلس العم ســام وبعــض الحلفاء الأوروبيين بنظــرة ابتزازية على الطرف الآخر، فالوجود في ســوريا لا يعني أموالاً وأرصدة فورية ســاخنة بقدر ما يحمل في طياته فرصاً استراتيجية بعيدة المدى.

ســتبدأ ورشة إعمار سوريا وســتؤدي إلى انتعاش في المنطقــة، فحتــى الأردن بإمكانياته المحــدودة تواصل مع السوريين، على أساس حق الجيرة والتعويض عن حصته فــي الأزمة الســورية، من أجل أن يحصل علــى قطعة ولو صغيرة من إعادة الإعمار، ويعرف الأردن بالطبع أن الأموال ستتوافر من أجل ذلك، بطريقة أو بأخرى ستتوافر الأموال، وتحت هذا الشعار أو ذلك الترتيب ستبدأ الشركات العالمية والإقليمية والمحلية في العمل، وهذه ليســت المرة الأولى، فالأمريكيـ­ـون عندما أعلنوا مشــروع مارشــال في أوروبا ما بعــد الحرب العالميــة الثانية كانوا ينظرون لمكاســبهم الاستراتيج­ية.

يحمّل الرئيس السيسي السوريين مسألة خراب بلدهم، وهذه مســألة فيها كثير من النظر، ولذلــك يعتقد بأن أحداً يجب أن لا يدفع من أجل اســتعادة ســوريا، يستهجن في ســؤاله فكرة طلب التدخل والمشــارك­ة في إعادة الإعمار، مع أن الإجابة قدمت نفســها مراراً وتكراراً، فلماذا تدخلت إيران وروسيا وتركيا وأمريكا ودول أخرى في الحرب، لماذا تحملت تكلفة الجيوش والإمداد والمغامرة السياسية؟ هذه أســئلة على قدر كبير من الأهمية، تحمل في طياتها الإجابة عن تساؤلات السيسي.

يتناقض ســؤال السيســي مع وقائع تدفق مســاعدات كبيــرة لمصر بعد ثــورة يناير/كانــون الثانــي، فلماذا لم يتســاءل الذين تقدموا لدعم مصر بطريقته نفســها، يعلم السيســي أن الأســباب يمكن أن تجمل في عدم رغبتهم في وجود فوضى في مصر، وضــرورة وجود مصر حليفاً على خريطتهم، وما يمكن أن يوفره موقع مصر وثقلها السكاني في التحالفــا­ت التي تخصهم، وذلك ينطبــق إلى حد بعيد على سوريا.

صناعة الحــرب لا تتوقف عنــد الاشــتباك الميداني أو فعل الحرب نفســه، فإعادة الإعمار لعبــة اقتصادية مهمة تتابعت على مدى التاريخ، وهي جزء من إحداث الانقلابات الجوهريــة فــي دورات الركــود والرواج على المســتوى العالمي، ولكــن الخلفيــة الاقتصادية للرئيس السيســي لا تبــدو على هــذه الدرجة مــن العمق في فهــم الاقتصاد السياســي، وبالطبع ليس دوره أن يكــون كذلك، ولم يكن دوره رئيســاً للمخابــرا­ت الحربية، ومع ذلــك، فإن مصر تحفل بالأســاتذ­ة المهمين في هذا المجــال، الذين يمكنهم أن يهمســوا في أذن الرئيس ببعض من الأفــكار الاقتصادية المهمة، ويمكنهــم أن يحدثوا فرقاً كبيراً يؤســس لاقتصاد يركز على القيمة، وليس علــى الإدارة قصيرة المدى، وهو ما يعاني منــه أصحاب الفكر الاقتصادي فــي مواجهة من يتطلعون إلى توفير أموال ســاخنة، لضخهــا في اقتصاد يجنح لتضخم سعري وتحالفات احتكارية، وتترنح عملته فــي مواجهة ضغوط تراجــع الإنتاجية، وهــو ما يؤكد أن حصول مصــر على حصة في إعادة الإعمــار متطلب يجب أن تســعى مصر لتحقيقه، من أجل التشغيل على المستوى الاقتصادي، ومن أجل أسباب أمنية، فالاستقرار في سوريا يجنب مصر وغيرهــا بالتأكيد مخاطر أمنية كبرى، وإعادة الإعمار في هذا الســياق حتى لو اتخذ صبغة انتهازية، هو استثمار في المســتقبل لتجنب الحروب المحتملة وراء حالة عدم الاستقرار، وهو ما تقل تكلفته عن خوض حرب فعلية، سواء كانت أمنية أو عسكرية.

السلام في المنطقة هو حرب في مفهومه من حيث توظيف المــوارد والاســتثم­ارات، ولا يوجد ســام مجاني، ومصر تعرف تكلفتي الحرب والســام، لأنهــا خاضت التجربتين خلال النصــف الثاني من القرن العشــرين، وهو شــيء يفتــرض أن يبقى متجذراً وحاضراً في الثقافة السياســية والاستراتي­جية لقيادتها في هذه المرحلة من التاريخ، ومن يعرف تكلفة البديلين وعائدهمــا، يفترض أن يعرف تكلفة إعادة الإعمــار وعوائدها، فالأمر ليس مجــرد مناكفة بين أسرتين في قرية مجهولة بعيدة عن الحضارة، ولكنه جزء من علاقات دولية يجب أن تشــهد أصولاً ثابتة ومســتقرة لضمان إدارة التداول العالمي، سواء في شكله الاقتصادي أو الســكاني أو الثقافي، فالدولة تتخطى فكرة الشركة كما يفكر كثير من الأجيال الجديدة من السياسيين، وإن يكن من الممكن تقبل فكرة الدولة كشركة فإنه خارج الزمن ومنطقه أن يجــري التفكيــر بالمنطق الاقطاعي في شــؤون الدولة وتدبيرها.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom