السعودية ومحنة الجثّة التي لا تريد أن تختفي!
■
يحتــار المــرء فــي أي عناصــر قصــة جمــال خاشقجي أكثر إثارة وبقاء في الذاكرة:
هــل هي اللقطات الأولى التــي تصوّر دخوله إلى القنصلية الســعودية في إســطنبول قبل أن يصبح اختفاؤه واكتشاف مقتله لاحقا خبراً يهزّ العالم؟
أم لقطــات خطيبتــه وهــي تنتظر ســاعات وهي ينتابها القلق؟
أم صــور فريق الإعــدام واللقطــات الكثيرة التي اكتشــفت عن تحركاتهم من الشــخص الــذي تنكّر بملابــس الضحيــة ماشــيا مــع أحــد الكومبارس )ونســي حذاءه ثم غيّر ثيابه وعاد إلى فندقه( إلى الفريــق الذي نفّذ الاغتيال ثم ذهب لأكل الشــاورما وشــرب الخمــر، أم قصتهم في الشــريط المســجل الذي كشــف تفاصيل الخنق والقتل والتقطيع على صوت الموسيقى؟
أم هــي نظــرة ابــن الضحيّــة صــاح الــذي كان ممنوعا من الســفر واســتدعي علــى عجل بملابس غير مكويّة لاســتثماره في الترويج للســلطات عبر مصافحة المتّهم بقتل والده بدعوى تعزيته؟
أم الإعلانــات المتناقضة للســلطات الســعودية من الإنكار الكلّــي للحادثة واعتبارهــا مؤامرة ضد الســعودية وولــيّ عهدها وصولا إلــى اضطرارها، تحــت الضغط العالمــي الهائل، للاعتــراف المجزوء بهــا وإعلانها اعتقال 15 شــخصاً مــن دون عرض إفاداتهــم، واختفاء قنصلها وزيــارة مدعيها العام للمملكة المريب النظرات الخ...
توقفت القصّة المذهلة عند نقطة اســتفهام كبرى تتعلّق بمــا حصل لجثة الصحافــي المنكوب، وآخر ما اســتجد فــي الموضــوع تصريــح للنائــب العام التركي يؤكد العثور على عينات من الأســيد والمواد الكيميائيــة فــي البئر الموجــودة في بيــت القنصل الســعودي وفي مياه الصــرف الصحي في المنطقة وتأكيد لـ«مصــادر تركية» بأن «القتلــة أذابوا جثة خاشــقجي بالأحمــاض داخل إحدى غــرف منزل القنصل السعودي».
المفاجــأة أن آلة إعلام المملكــة ونفوذها في دول العالــم والمنطقــة توقفــت عــن العمــل لأن الحقيقة ظهــرت للعيــان وتم افتضــاح الجريمــة وتوثيقهــا ومتابعتهــا في الإعلام الدولــي والعربي، وبالتالي فــإن اعتراف الســلطات الســعودية بالطريقة التي تم فيها التخلّص مــن الجثة أو عدم اعترافها لم يعد الأمر الرئيسيّ.
لقــد تعــدّى الأمــر التفاصيــل الجنائيــة التــي شــغلت العالم ومــا بقي هو التصــاق صورة حكام الســعودية، وبالخصــوص وليّ عهدهــا محمد بن ســلمان، بالحدث، وهو أمر لا يمكن إزالته، كما يُظنّ أنه حصل للجثة، بأحماض الأسيد أو المنظفات.
تلعــب عناصر قضيــة اختفاء جثة خاشــقجي، والأدلــة المتزايــدة على طريقــة التخلــص منها، مع تمنّع ســلطات الرياض عن الاعتراف بطريقة القتل والإخفــاء، دوراً فــي إبقــاء شــبح القتيــل يطــارد القاتل بشــكل لم يعــد ممكنــاً وقفه، فهــذه الحالة ســتبقى، على عكس ما يريد البعــض، معلّقة دائماً، فغيــاب الجثــة يلعــب دوراً فــي اســتمرار حضور قصــة صاحبها في الأذهان وهو ما يعرّض الآمرين بتنفيذها لمحنة من غير الممكن التخلّص منها، وهكذا تصبح فكــرة الجريمة ملتصقة مثــل اللعنة بالقاتل ولا يمكن إخفاؤها كما حصل مع الجثة.
يذكّر الأمــر بالروايــة الخالدة للكاتب الروســي فيودور دوستويفسكي، «الجريمة والعقاب»، التي تصوّر تداعيات الجريمة في نفس القاتل بشــكل لا يمكن الهــروب منه بأي طريقة، كمــا تذكر بالتأكيد بالآية الكريمة «ومن قتل نفســا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا.»