Al-Quds Al-Arabi

ماكرون في مصيدة الذاكرة: تاريخ حقّ أم عداء للسامية؟

- ٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كما هو العرف في كلّ واقعة، فعلية أو مختلقة، ذات صلة بتهمة العداء للسامية، خاصة في البلدان التي تقع ضمن خانة «المشــبوهي­ن الدائمين»؛ انتفض فرنســيس خليفة، رئيس «المجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية في فرنســا»،أو فيالتسميةا­لموجزة،ضدّتصريح أدلى به الرئيس الفرنســي إيمانويــل ماكرون، يخصّ دور أحد جنرالات فرنســا في حســم معركة كبرى أثناء الحرب العالمية الأولى. «الماريشال بيتان كان أيضاً جندياً عظيماً خلال الحرب العالميــة الأولى»، قال ماكرون، قبل أن يستكمل المعادلة: «وذلك رغم أنه اتخذ «خيارات قاتلة خلال الحرب العالمية الثانية»؛ في إشــارة إلى أنّ بيتان تزعم فرنســا تحت الاحتلال النازي في ســنوات 1940 وحتى 1944، كما ســمح بترحيل قرابــة 13 ألف يهودي فرنسي إلى معسكرات الهولوكوست.

«لستُ أغفر شيئاً، ولكني لا أمحو شيئاً من تاريخنا»، ردّ ماكرون على الجدل الــذي أثاره تصريحه هذا، غامزاً من قناة خليفة الذي اعتبر حديث الرئيس الإيجابي عن بيتان «صدمة وإهانة» ليهود فرنســا. سجلات التاريخ، من جانبها، لم تمحُ حقيقة ساطعة تشير إلى أنّ الماريشال فيليب بيتــان كان، بالفعــل، بطل معركة فــردان؛ التي اندلعت في شــباط )فبراير( 1916 وكانت أشــهر معارك الحرب العالمية الأولى وأضخمها، وأكســبت بيتان لقب «أســد فردان». ولم يكن ماكرون أوّل رئيس فرنسي يقرّ بهــذه الحقيقة، إذْ ســبقه إليها الجنرال شــارل دوغول نفســه، حين صرّح في سنة 1966 بأنّ «المجد الذي أحرزه ]الماريشــا­ل بيتان[ في فردان لا يمكن للأمّة أن تنكره أو تمتنع عــن الاعتراف به». وهذا إقــرار بحقوق التاريخ، والمعنى الأبســط للعلاقة بين الماضي والحاضر في علاقة الأمم بذاكرتها؛ ولا تبدّله أية وقائع لاحقة مناقضة، حتى إذا كانت تسمح باستخلاص حصيلة سلبية إجمالية في نهاية المطاف.

لكنّ هــذه الواقعة الجديدة تدخل، مباشــرة وبدون مراجعات مختلفة، في إطار قديم أوّل هو العلاقة الخاصة بين فرنسا واليهود؛ وليس مواطنيها اليهود وحدهم، في الواقع، بــل يهود أوروبا بصفة خاصة، ثــمّ يهود العالم عموماً.

الأســباب تاريخية في الجوهر، ففي هذا البلد ولدت القضية الشهيرة التي تضمنت محاكمة الضابط الفرنسي اليهودي ألفريــد دريفوس، البريء فــي نهاية المطاف، والذي استثار رســالة إميل زولا الشهيرة: «إني أتهم،»! في سنة 1898. وفي هذا البلد ولدت، للمرة الأولى، فكرة الدولة اليهودية كما تخيلها، وحلم بها، صحافي نمساوي يهودي يدعى تيودور هرتزل، كان مراســاً لـ«الصحافة الحرة الجديدة»، أبرز المطبوعــا­ت الليبرالية في أوروبا تلك الأيام. ورغــم أنّ هرتزل لن يشــهد تبرئة دريفوس لأنه توفي عام 1904، فإنه أبصر الجموع المحتشــدة ضدّ دريفوس، وأصغى إلى هتاف «المــوت لليهود!»، وكانت مناخات العداء للســامية هذه هي التي دفعته إلى كتابة مســرحيته «الغيتو الجديد»، ثمّ كرّاسه الأشهر «الدولة اليهودية .»

الإطــار القديم الثاني هو الســجال، الذي لا يُحســم ولا يتوقــف، حول ما إذا كانت فرنســا الأمّة، وفرنســا الدولــة، هي بدورها مســؤولة عن ترحيــل اليهود إلى معســكرات الهولوكوست خلال فترة حكومة فيشي؛ أم، فــي المقابل، كانت تلك قرارات بيروقراطية وعســكرية، ضمن نظــام مرتبط باحتلال خارجي، وهــي بالتالي لا تمثّل إرادة الأمّة ولا الدولة في مفهومها العريض. وكان أربعة من رؤســاء فرنســا خلال الجمهورية الخامســة )دوغول، جورج بومبيدو، فاليري جيســكار ديستان، وفرنســوا ميتيران(، قد تبنوا القــراءة الثانية، فبرأوا الأمّة والشــعب والدولة من جريمة الترحيل؛ وكان جاك شيراك أوّل رئيس اعتنق القراءة الأولى، في سنة 1995، حــن اعتبر أنّ حكومة فيشــي كانت هــي الدولة، وهي فرنسا الرسمية، وهي مســؤولة عن الترحيل. ولسوف يقتفي الرئيســان نيكولا ســاركوزي وفرنسوا هولاند أثر شيراك، بل سيذهب ساركوزي أبعد كثيراً حين حمّل أطفال فرنســا، تلاميذ المدارس الابتدائية والمتوســط­ة، عبئاً من طراز خاصّ، ثقيــل ورهيب: إلزام كلّ طفل حيّ بإحياء ذكرى طفل قضى في المحرقة، على نحو أقرب إلى تقمّص الحيّ للميت!

ولم تكن مصادفة محضة أنّ ساركوزي أعرب عن هذه الرغبة خلال خطبته أمام العشــاء السنوي الذي ينظمه مجلسالـ ،والذييتســ­ابقكبارساس­ــةفرنسا على حضوره والخطابة فيه، للتقرّب من هذه المؤسســة الأهمّ على صعيد تنظيم حياة، واستثمار قوى وطاقات، نُخَب الفرنســيي­ن اليهود. وهذا يقود إلى الإطار الثالث، القديم المتجدد بدوره، أي العلاقات التاريخية بين فرنسا والكيان الصهيوني، وطبائع منعكســات ذلك الســجلّ على «المحــّرم» الأكبر، أي نقد سياســات دولة الاحتلال الإســرائي­لي بوصفها ممارسة ــ مباشــرة، وليست غير مباشــرة ــ لتهمة العداء للســامية. وهكذا، كان روجيه كوكيرمــان،الرئيسالأس­ــبقللـ ،قــدعلّقعلى أحلام السلام الفلسطيني ـ الإسرائيلي، التي أعرب عنها يهودي فرنســي آخر هو تيو كلاين، كان رئيس المجلس التمثيلي ذاته؛ قائلاً: «قد نرغب في رســم الذئب بألوان وردية. لكنه يظلّ ذئباً!»

وكان كوكيرمان يتســاءل عن )ويشــكك في( حقّ أيّ يهودي فــي انتقاد الحكومة الإســرائي­لية، الآن بالذات. وبالطبع، ولمن فاته إدراك طرفَي الاســتعار­ة، فإنّ ياسر عرفات كان هو الذئب الذي يمكن رســمه باللون الوردي دون أن يتغيّر باطنه الذئبي. كذلك تابع كوكيرمان حملة تأثيم أعداء إسرائيل في فرنسا، فكتب مقالة في صحيفة «لوموند»، شــنّ فيها الهجوم على «قــادة هذا البلد ممّن يقللون من أثر الأفعال المعادية لليهود»؛ وعلى «السلطات التي يحلو لها أن ترى في الهجوم على كنيس مجرّد عمل من أعمــال العنف وليس فعلاً معادياً للســامية»؛ وعلى «بعض اليهــود الذين فقدوا الصلــة بالواقع اليهودي»؛ وعلى وســائل الإعلام «التي يطيب لها إعطاء أكبر صدى ممكن للأصوات التي تنتقد إسرائيل واليهود، خصوصاً حــن تكــون تلــك الأصــوات يهودية ....»

يبقــى إطار رابــع، مفهومي بقــدر ما هــو وجدانــي وشــعوري، أيّ علاقة أيــة أمّة أوروبية بتاريخها إجمالاً، وبذلك الشــطر المقيت الأسود الذي يخصّ دورها فــي المحرقة خصوصاً؛ وهذا نطاق لا يبدأ من فرنســا، ولا من ألمانيا، ولا من أيّ بلد استضاف معســكرات الهولوكوست، هنا وهناك في أوروبا. وليس عجيبــاً، وإنْ كان رهيــب الدلالة في الواقــع، أن يعرب ماكرون عــن ذهوله إزاء التشــابها­ت المفزعة بين أيامنا هذه )ويقصــد أوروبا تحديــداً(، وتلــك الأحقاب التي أفرزت مناخات الحرب العالميــة الأولى، وأختها الحرب العالميــة الثانية؛ خاصة في ميدان اســتفاقة العصبيات القوميــة والعنصريــ­ة، وصعودها إلى مصــافّ الحكم فــي دول أوروبية مثــل إيطاليا وهنغاريا والنمســا... صحيــح أنّ اســتفاقة ماكرون على أوروبــا «مغالية في ليبراليتها»، و«لم تعد تسمح للطبقات الوسطى بمستوى معيشة لائق»، جاءت متأخرة تماماً، ومعاكسة لكثير من سياساته؛ إلا أنّ الرئيس الفرنســي اضطر إلى مواجهة الحقيقــة، هنا أيضاً، علــى النحو ذاته الــذي دفعه إلى الإقرار بدور بيتان في إنقاذ فرنســا من الاحتلال الألماني في سنة 1916 .

وعلى نحو أو آخر، كان ماكــرون يتحرّك في هوامش مكشــوفة من المناورة بين الســجلّ التاريخــي والواقع الراهن، ليــس بعيداً عن مصيدة الذاكــرة في الحالتين: حيثمــا توجّب أن يفي التاريخ حقّــه، توجّب أن يغضب أولئك الذين لا ينظرون إلــى التاريخ إلا من ثقب العرف الانتقائــ­ي والاختزالي؛ وحيثما شــاء إنصاف فرنســا الأمّة والدولة، توجّب أن ينزلق أكثــر فأكثر في متاهات المصيدة؛ في بلــد حظي على الــدوام بمكانة خاصة في نفوس يهود العالم، وبأرشيف عاصف أيضاً...

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom