Al-Quds Al-Arabi

في البحث عن لغة لا تشبه لغة الطير

- ٭ شاعر وكاتب من المغرب

يعتبر هاجس ضبط حدود اشتغال اللغة، أحد أهم القضايا التي تمحورت حولها اهتمامات مختلف الاختصاصات المعرفية بتنوع وتعدد مشاربها، حيث يحاول كل منها تعميق البحث في مجاله، انطلاقا مــن الإمكانيات التأويلية التي تمده بها علاقته المرجعية باللغة المعتمدة في البحث.

ومن المؤكد أن الثــراء الدلالي الذي تتمتع بــه اللغة، يعود إلى تعدد هذه الاختصاصات التي يكاد كل منها يســتقل بآليات اشــتغاله، لكن ضمن الإطار العام والمشــترك للغة، والمصنف بين مســتوياته الدنيا المتعلقة بالحياة اليومية، إلى مستوياته العليا، ذات الصلة بالقضايا الفكرية والإبداعية الكبرى. فاللغة الإبداعية على ســبيل المثال لا الحصر، ليست في نهاية المطاف ســوى إطار عام مشــترك، تندرج فيه لغــات إبداعية لا حصر لتنوعها واختلافها، حيث يحيــل كل منها على مدارس بعينها، وعلى تيارات أو مذاهب قائمة الذات، قد تتشــابه نســبيا فيما بينها، كما قــد تتعارض وتتناقض، ما يســاهم في إغناء اللغة أو اللغــات المرتبطة بالخطاب الإبداعي والجمالي، حيث يمكننا في مرحلة أولى، الحديث بشــكل عام عن مزايا اللغة الإبداعية ككل، وعــن المقومات المؤثرة في انزياحها عن غيرها من اللغات والخطابات، كي نتحدث في مرحلة ثانية، عن اللغات الإبداعية الخاصة بتيارات معينة، وبمدارس بعينها. ثم في مرحلة تالية، يمكن الحديث عن خصوصيات الكتابات الإبداعية المندرجة في قلب كل تيار، وفي كل نظرية على حدة.

وتتشــكل هذه الخصوصية من طبيعــة الوعي الذاتي الذي تمتلكه الــذات المبدعة تجاه الأبعــاد الفكرية التــي تتضمنها اللغة، وتجاه ما يحدث أن تمارســه من وظائف، يمكن إجمالها في بلورتها لدلالات قابلة للاســتيعا­ب، وقابلة أيضا لأن تتخذ شــكل منظومة تمتلــك كل المقومــات التي تجعل منها ســلطة معرفية، تســاهم في بناء ذهنية ما، أو هوية مجتمعية وثقافيه معينة. والتصور نفسه ينســحب على باقي الخطابات المتعلقة باختصاصات فلســفية، علمية، أو فقهية، تاريخية أو جغرافية وغير ذلك. ذلك أن التعدد الكبير لهذه الخانات، يترجم بشــكل أو بآخر الاهتمامات المتعددة للذات البشــرية، بوصفها عتبات معرفية لاقتحام تلــك المدارات المغلقة، التي تحتجب فيها أرواح الحقائق وجواهرها.

على هذا الأســاس، يحق للكائن عموما، أن يشعر بغير قليل من الزهو، لامتلاكه ســلطة اســتثنائي­ة يعود لها الفضل الكبير في تبديد ما ينشــره غموض الكون أمامــه وحوله من ظلمات، تراوح بين الشــفافية والكثافــة. فاللغة من هــذا المنطلق، هي مصــدر الامتياز الذي يتقدم به الإنســان تراتبيا على غيره من الكائنــات. وبتعبير آخــر، هي مصدر الامتيــاز الذي يخول له القدرة على ترويض جموح نسبة كبيرة من الظواهر الطبيعية، التي يشعره ثقل غموضها، بضعفه وضآلة شأنه. ومن المؤكد أن اللغة ســتظل المفتاح الأكثر إجرائية، لاختراق المزيد من الغرف المغلقة على أسرار الوجود.

لكن وفي غمرة هذا الاطمئنان الكبير الذي تشملنا به السماء الصافية للغة، نفاجأ دوما بزحف بعض الغيوم الداكنة التي من شأنها أن تعكر صفو المشــهد وجماليته، بفعل التباس حيثيات ما صنفناه ســابقا في خانة وعي الذات بآلية اشــتغال اللغة / الكتابة ووظائفها. وبالنظر إلى تعدد الإشكاليات المرتبطة بهذا الموضوع، التي سبق أن قاربنا بعضا من خطوطها العريضة في مقالات سابقة، فإننا سنتوقف في هذا السياق عند سؤال مركزي يتعلق بمدى تطابق مكونات الرسالة قبل التلفظ بها أو كتابتها مع المكونات ذاتها، بعد تحقق عملية انتظامها في نســق لغوي، ذي طبيعة شفاهية أو كتابية، حيث يمكن الجزم باستحالة هذا التطابق المؤثر بشكل ملموس في توسيع الهوة بينهما. ذلك أن سلطة اللغة تظل باستمرار محتفظة بهيمنتها على إرادة الكائن في ما يصبو إلى البوح به، من خلال اســتثماره­ا لرغبة الأفراد في القول، كي تتدخل مباشرة لتلزمهم بقول ما تريد هي قوله.

إن الفــرد في هذا الســياق يتحــدث بلســان اللغة، وليس بلسانه هو. ومهما تميزت كفاءته في ضبط القوانين التعبيرية التي تزخر بهــا اللغة، إلا أن هذه الأخيــرة، لا تعدم أبدا فرص العثور على ثغرات، بياضات وفراغات، كي تقحم خلسة وجهة نظرها الخاصة بها في الموضوع المراد تناوله، لأن الذات ليست مجرد آلة لغوية، تشــتغل بشــكل ميكانيكــي حينما تكون في معرض بلورتها لقول، أو رأي ما، باعتبار أن اللحظة التعبيرية، تتشكل من صلب سيرورة تأملية مزدوجة، يتوجه شقها الأول نحو اختيار المعجــم والبنيات النظمية الملائمــة، فيما يتوجه الشــق الثاني إلى عمق الفكرة، في أفق تكامل حدي السيرورة. وفي تضاعيف هــذه الحركية تحديدا، تتفجــر تلك البياضات وتلك الفراغات الناتجة عن التلكؤ الطبيعي الذي تستشــعره الذات خلال معايشتها لحالة هذا التأمل المزدوج، وهي اللحظة التي تلقي فيها اللغــة بثقلها الكبير، مالئة تلك البياضات وتلك الفراغات، بما ينسجم مع رؤيتها الخاصة للموضوع وليس بما هــو متطابق مع رؤية الذات الكاتبــة، أو المتحدثة التي تتحول إلى مجرد وســيط، تمارس عبره اللغة حضورها الخاص بها. وهو ما يؤثر ضمنيا في تحوير أبعاد الدلالات التي كانت تجهد نفســها للتعبير عنها. والجدير بالذكــر، أن التدخل العنيف أو المبيت الذي تمارســه اللغــة، قد يكون بفعل قلــة خبرة الذات المتحدثــة في العثور علــى البنيات اللغويــة الملائمة، أو بفعل فقر زادها المعجمي، أو لمجرد انتشــائها بتوظيف معجم لا صلة له بالرســالة المراد توصيلهــا. وهذا الخلل مهيمــن على أغلب الخطابات الهادفة عادة إلى إقناع الآخرين بحقيقة ما، ســواء ما هو متداول منها فــي الفضاءات الخاصة أو العامة، كما لو أن قدر الكائن محكوم دائما بالســير في الاتجاه الخطأ، وبتزكية تامة من أوهامه التي بقوة وجلال استيطانها لدواخله، تجعله يعمى تماما عن رؤية ما يتخلل خطاباته من بياضات وفراغات قادرة فــي حالة إنصاته لها، أن يقف على رعب وهول المفارقات المؤثثة لوجوده.

نخلص من هذه الإشــارات إلى القول، بــأن الكائن نادرا ما يفلح في ترويض اللغة بغاية تحويلها إلى وســيط يصل بينه وبين ما يطمح إلــى التعبير عنه، كما نســتخلص أن اللغة هي التي تنجح في توظيف الكائن كوســيط لما تلح هي على تعميمه وتوصيلــه من خطابات وأفكار، كي يظل بالتالي ذلك الشــقاق الأبــدي محتفظا بهيمنته واســتمرار­يته، خاصة حينما يتعلق الأمــر بالحرب الضــروس الدائرة رحاها أبــدا بين الخطابات اللاهوتية، بتعدد أزمنتهــا ومرجعياتها، وهي لا تكف - مثلاعن توريط نفســها في بنــاء وصياغة تصوراتهــا المضحكة، حول هوية الخالق الأول، بدون أن تنتبه إلى أن كل ما تســرف في نحته من أوصاف وتوصيفات، قد ينســحب على الكائنات البشرية أو الحيوانية، وحتى الخرافية، بدون أن يرقى لبلورة الحد الأدنى من رؤية لاهوتية قابلة للتصديق. كي يظل الاقتناع بها في حكم الاستحالة، بالنظر لتمحورها حول «ذات»يقتضي الحديث عنها تجريــب لغة أخرى غير اللغة البشــرية، التي لا نرجــح في جميع الأحــوال، أن تكون لغة مســتمدة من منطق الطير، أو من منطق النمل.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom