Al-Quds Al-Arabi

شعرية الذات في «هواجس قرصان» للشاعر المغربي محمد حمود

- ٭ باحث من المغرب

«ليــس الشــعر تحريرا للعاطفــة، وإنما وســيلة تخلص مــن العاطفة، وهــو ليس تعبيرا عن الشــخصية، وإنما وســيلة فرار مــن الشــخصية، وطبيعي أن أولئــك الذين يمتلكون شــخصية وعواطــف، هم وحدهم الذيــن يعرفون ما تعنــي إرادة التخلص من هذه الأشياء» ت س. إليوت.

العنوان :

تتفــق جــل معاجــم العربيــة علــى أن الهواجس تدل علــى: مَا يَخْطُرُ مِــنْ أَفْكَارٍ أَوْ صُوَرٍ بِبَالِ الإِنْسَــانِ نَتِيجَةَ قَلَــقٍ أَوْ حَيْرَةٍ أَوْ هَمٍّ أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ شَيْءٍ مَّا. والهاجس: الْخَاطِرُ الَّذِي يَجُولُ بِبالِ الْمَرْءِ قَبْلَ النَّوْمِ وَبِالأَخَصِّ عِنْدَمَــا يَكُونُ بِــهِ قَلَقٌ أَوْ حَيْــرَةٌ. وهاجس: مــا خطر في البال ووقع فــي القلب من هم أو غيره. والهواجس: أفكار أو تصورات تسيطر على فكر المــرء يصعب التخلــص منها. وفي الحديث: ومــا يَهْجِسُ في الضمائــر أَي وما يخطر بها ويدور فيها من الأَحاديث والأَفكار.

أما المكون الثاني فــي العنوان: «قرصان» فهــو يحيل علــى عالم البحــار، وبالضبط ، على ذلك البحار الخارج عن القانون، يسطو على الســفن ويســلب ما فيها. وبقدر ما هو مطارَد، مطــارِد، والقرصان دال ينصرف إلى مدلــول التمــرد، والمباغتة والمهارة وشــدة التحمــل، مثلما ينصرف إلــى الرغبة الخفية في عدم الانصياع لأي دائرة تســحق الذات. والقرصان بهــذا الفهم يتقاطع مــع كثير من أخلاقيات المروءة ونبــذ الظلم، والوعي به، وإدراك أن ســر الحياة في هوامشها المتعددة وليــس فــي دوائرهــا المألوفة، وهــو أيضا يتقاطــع مع الشــاعر بوصفــه ذاك المتصيد لكل منفلــت، وتلك العين الحــادة التي ترى مــا وراء الأفق باحثة عن المعنى المتســتر في خضم حياة مشــتركة، وذلك الحــر، المتمرد على القوالب الجاهزة، بل إنه الإنســان وهو يمخر عباب الحياة، يتصيد لحظاتها، يصيب ما يصيب؛ ويصيبه ما يصيبه، هي )الحياة( التــي لا تفرق عــن البحر، كلاهمــا يرمز إلى المطلق واللانهائي.

هاجس الذات:

إذا كان مشــروع كل «أوتوبيوغرا­في» هو: «أن يقدم صورة عن نفســه من خلال التركيز على ما يجعلــه فريدا ومميــزا»، فإنه يمكن لنا، أن نطالع سمات هذا المشروع في ديوان: «هواجس قرصان» حيث «الأنا المتكلمة»، تريد دائمــا أن تعطي للقارئ صورة عن نفســها، وتقربه مــن همومها الخاصة والشــخصية، وتحيطه علما بأهــم محطات حياتها، خاصة تلك التــي تميزهــا وتفردها كــذات: «أيتها الصديقات الخضراء/ سأخرج من قبعتي نهرا يشبهني/عميق المعنى غائر القرار» (في مديح الأروكاديا(، ويظهر هــذا الهاجس من خلال الإصرار على أن الكتابة/الإبحــار، عليها أن تجعل من الذات مجراها ومرساها: «سمكتي الصغيــرة/ تضبط برنامجهــا اليومي/ على عقــارب أحوال طقســي/ وتوقعــات أرصاد شعري/ ترهف الســمع للقمر/ لمعرفة مواقيت المــد والجزر/في تنظيم حركــة الملاحة/ مني إليّ». ويظهر )هــذا الهاجس( أيضا من خلال توصيف هــذه الــذات، ومحاولــة ضبطها وضبط مــا يجعلها متفردة، بــل إن هاجس التعريف بالذات، ومعرفتها هو من كان وراء اختيار «حمود» الشعر، وهو اختيار اقتضاه مقــام التعبير، وســينزع عنه جبة الشــاعر حالما يحقــق هذا الامتلاء : «فلا تقلقوا إن طال الغياب رجاء/ لن أعلن عليكم هذا الحرف بعد اليوم ولن أكتبه أنا هو أنا هو / أنا هو أنا هو.»

وعلــى الرغم من هــذا الحضــور القوي للــذات، فإننا لا نلفي أنفســنا فــي مواجهة ذات غنائية منكفئة على نفســها، كما نجد في قصائد الرومانســ­يين، بل تحضــر )الذات( كموضوع للتفكير والســؤال والمعرفة، وهو موقف يســتند إلى خلفية فلسفية تذهب إلى أن: «أبلغ ما يمكن أن يصل إليه الإنســان هو أن يعــرف ذاتــه بذاته » وينســجم أيضا مع نظرة حداثية تــرى أن: «الأدب، ببســاطة، هو تحديق الإنسان لنفســه في نفسه، وفي أثناء قيامه بذلك يبدأ خيط الوعي في النمو، ويلقي الضوء على هذه النفس»: «بالنظر إلى مســتوى ارتفاعي عن سطح القطيع/ اخترت الطريــق الذي لا يؤدي إلا إلى نفســه/ حتى لا يشــغلنا هدف عن المســير/ فنحن لا نريد الوصول إلا إلينا .»

ونحن نطالع ســمات هذا الحضور القوي للــذات لا يمكن للقــارئ أن يخطــئ ما تميل إليه )هــذه الذات( من نزعــة وجودية، تلك النزعة التي تمجــد الحرية، وتنادي إلى الانطلاق والتحــرر من كل التزام أو قيــد، وتجعــل الــذات المنطلــق والمنتهى لــكل فعل: «لا شــيء يبعث على التوجــس كما تريــن/ الإطاحة بالنظام من صلب اهتمامي/ كي نحكم ذاتنا بذاتنا/ ونعيــش لنا لا لغيرنا// ونعجن بأيدينا/ قدرنــا الأرضي كما نشــتهيه نحن/ لا كما تخطط له على مقاســها/ ملائكــة محلقــة حالمة/ في ردهات المحكمة العليا».

وكأي ذات وجودية، تحب الحياة، فهــي تتميــز بالمكابــر­ة والصمــود؛ تتحــدى، وتعاند أنواءهــا، وترفض أن تنصــاع إلــى الاستســام، ففي الوقت الذي يقر فيه الشــاعر بخيبة أمل التوقعات «لــم تزهر الريح التي زرعت/ غيــر الأعاصيــر والأنواء/ والرهائن الذيــن ملأت بهم العنابر/ لم تكن فديتهم مغريــة كما توقعت/ والســماء المقطبــة الحاجبــن/ ما اســتطاعت ملحــي أن تضحكهــا / والحوريــا­ت هجــرن أعالي بحاري /غيرن مســالك العبــور»( قصيدة هواجس قرصان عنيــد( ما يفتأ أن يســتدرك ويعلن عن إصــراره على المقاومة، وعدم الانسحاب: «غير أني وإن خسرت معاركي /سأعيد ترتيب الكــون بمــا يليــق بهزائمي/فقبعة القرصــان على المشــجب/ وإن بات كالح لونها /ما زالــت تليق بي/ وأنا وإن كنت كسرت الصواري/وألقيت ما غنمته في البحر/ وأحرقت مركبي وســقطت/ فليس كل سقوظ نهاية». هذا الإصرار، وهــذه المكابرة، جعلا الشاعر يتماهى مع «الدونكيشوت» محارب طواحــن الريــاح «بل إنه يصرح بهــذا التماهي والتقاطع لفظا في قصيدة: القرصان الهرم»: «وبأني أقضي ســحابة نهاري/ ألوي أعناق الرياح / أتدرب على الحروب/ والضربات الخاطفة».

وهي أيضا ذات عاشــقة تعبر عن تجارب عشــق حسية، يســتخدم فيها الشــاعر لغة الجســد المعبرة؛ فالمرأة تشــكل في القصيدة محورا، بل إنها الســؤال الــذي تأتم القراءة به، وتحضر المرأة عند الشــاعر تلك المشتهاة في السر: «فكل شــيء يهون/ للإيقاع بك في شــباكي/ للهروب بك بعيدا عن العيون/ إلى أغوار خلجانــي/ وشــعاب مرجاني». وهي الســبيل الوحيد لانبلاج الفرح، والغبطة في النفس، لهذا، يأتيها وفي نفسه وفاء لا حدود له، متغلباً علــى ما يقيد النفس من الانطلاق، وهنا تتجســد النزعة الروحيــة التي نجدها في قصائد تمجد الحب والمرأة، وتســعى إلى صفاء الروح والجســد: «فأنا أخشى أن تهب عليّ في الهزيع الأخير من الحب، تيارات هواء المعرفة، أو عواصف السياسة والانتخابا­ت، أو وصلات إعلانات المطهرات، ونداءات باعة الأوهام في سفوح المدن السياحية السفلى... فما عــادت تهمني أحوال الطقــس أمس، ولا مصائر هيكل ســليمان في القدس، ولا أخبار الأخوات أو أثمان الخرفان، ولا مرتبة وطننا بين الأوطان، ولا أنظمة المــال والأعمال، تلك أشــياء لا تســتحق مني أي حمــاس» (بريد القبعات(.

والشــاعر لا ينظر إلى المــرأة كونها مجرد أنثــى، بــل تتعدى هــذا التنــاول التقليدي إلــى اعتبارها المعادل الموضوعي لاســتعادة التــوازن، وأنه بالحب يمكن للمــرء أن يجد للأشياء معناها وقيمتها، ويمكن له أن يشعر بالأمل وبتســامي الروح، لذلك تحضر المرأة عند الشــاعر مرادفا للميلاد: «أشــتهيك في الخط الخلفــي للجبهة/ كما يشــتهي قناص قلب طريدة برية/.../كي أشــعر بنار الشوق تذيب جسدينا/ وتنفخ في الطين صورة خلق جديد». ينطلق الشــاعر من قناعة أنه بدون الحب لا يمكــن أن نتغلب على المأســاة، وأن ضياع الآخر)المرأة( كأصل منبع الخلاص، هو أيضا ضيــاع للهوية، وأن افتقاد الحب هو في حد ذاته افتقاد لطاقة الفعل والإبداع: «ها قد أعلنت عليك هذا الحب جهارا/ فامرحي أميرة قلبي/ اغســلي وجهك بعذب حناني/ وغردي عصفورتــي/ كــي تمــد أعناقهــا قصائدي» )قصيدة المزارع القديم(.

تحضــر الذات أيضــا وهي تنــوء بثقل الزمــن، بدءا من الأوصاف التي يســتخدمها الشــاعر، من قبيل: القرصــان الهرم «المزارع القــديم» حلم الموريســك­ي الأخيــر «حارس الحقــل العريق» وصــولا إلى تقــديم الزمن ســارقا للأحــام، ومغيبا للأحبــة، والعدو الذي لا يهزم. وقــارئ الديوان يقف مليا على مركزية الإحســاس بالانكســا­ر أمام سطوة هذا الزمن وفعلــه التدميري: «هل تذكرون يا أصدقاء/ كنا صغــارا/ منتصف القرن الماضي بقليــل/ وها أنتم تــرون اليوم يــا أصدقاء/ بعيونكم المضببة الكليلــة/ كف عن وجوهنا حب الشــباب/ ونجحنــا فــي الامتحانات/ لكننا رســبنا في الحياة». أمام هذا الانكسار، لم تجد الذات بدا مــن الانجذاب إلى الماضي، ذلك الماضــي البعيد الذي مهما أوغل في بعده يعود قريبا، بل يتحــول إلى ديمومة صاعقة الحضور، يصوغها الشاعر بأسلوبية غنائية حزينة شــفافة تتدفق من خلالهــا الطفولة: طفولــة الأشــياء، طفولة الأحــام، طفولة المشــاعر، طفولــة اللغــة، طفولــة الأعمار، طفولة الطبيعــة، طفولة الأزمنــة والأمكنة، وطفولة الذكريات؛ فالشاعر لا يزال مشغوفا باســتنباط البراءة الطفولية : «أيها الماضي البعيــد/ عذرا ما زلت أذكــر/ كنت ذاك الطفل الذي بكى». «أيهــا الماضي البعيد/ تركناك مع الأهل هناك/ بمسقط الرأس العتيق/ تركناك بالبيت صغيــرا تحبو/ واليــوم تطل علينا عملاقا/ من وراء جبال الســنين» (لا شــيء يمضي..كل شيء يعود( بتصرف

إن قوة وثقل هذا الحنين إلى زمن البدايات، هو ما جعل الشــاعر يحتمي بفعــل التذكر، ويكون تذكره أقرب إلــى الاعتراف العمومي الحميم، ذلك الاعتراف الذي يسمح بالتوغل في أعماق الذات لاستجلاء حالات الإحباط،، والتوتــر والاغتراب: «ها أنــذا مثلك تقريبا/ باللهفة نفســها/ أعود إلى ذات المكان/ أسفل الجدار/ لأنبش في بقايا الكلام/ حيث تناولنا آخر قصيد/ بطعم الوئــام/ وكان الواحد منا ربمــا/ يطمع فــي أكثر من ســام ». وإذا كان الرجــوع إلى الماضــي )مخــزون الذاكرة(، قاسما مشــتركا بين كل الأعمال، فإن الجديد في الديوان لدى الشاعر، هو هذا الإعلان عن فعل التذكر في لغة الخطــاب )أذكر- أتذكر( بدل الاكتفاء فقط، بصيغ الفعل الماضي: «هل تذكرين أصيــص القرنفل/الأبيض المرتعش بين يديك/ ذاك الصباح البهيج؟/ للأســف لم تقم شــجيرة الدفلى/ فــي حديقتي لجواره اعتبارا/ رغم حذب البستاني/ وقلبه الكبير» )رذاذ صور(. إن هذا الإعــان لفعل التذكر، الذي يتكــرر في كل مرة داخــل اللغة، تأكيد على أن فعل التذكر لم يحدث ســوى لوجود ما يستدعي ذلك في حاضر الذات: وهو أيضا تأكيــد لضغط الذاكــرة وســلطتها، حيث لا مناص من الرضوخ والانســيا­ق لها، ومن تم، فحضور الذاكرة فــي الديوان لم يقتصر على اســتعادة الماضي من خلاله فحســب، وإنما في مناقشــة وجودها كفعل، وقوة، وســلطة في الواقع: «هل نســيت بــاب الحلم مواربا/ قبل الرحيل/أم أن الطريق إليك/ بات مرسوما على جثة السحر والخيال؟ / ينثال عليّ رذاذ صور/ وأســمع لموجك ارتطاما/على رصيف الكلامَ» (التشديد من عندي(.

هكذا تصبح الذاكــرة نوعا من الجهاد ضد الغياب، فإن تتذكــر يعني أنك موجود، وأنك مازلت تملك القوة اللازمــة لصياغة الحياة، وليس مهما أن تخســر الواقع مادمت تحتفظ بالرغبة في اســتعادته، أو أن تخســر المكان مــا دمت تعمــل علــى اســترجاعه ولو عبر قصائد مثقلة بالحنين: هــل تذكرين أصيص القرنفل/الأبيــض المرتعش بــن يديك/ ذاك الصباح البهيج؟/ للأســف لم تقم شــجيرة الدفلــى/ في حديقتي لجــواره اعتبارا/ رغم حذب البستاني/ وقلبه الكبير» (رذاذ صور(. بالإضافة إلى كل ما سبق، تجدر الإشارة إلى أن لعبة التذكر، تســاهم أيضا في تأكيد طابع التشــظي، ذلك أن عملية التذكر ليست أمينة، بل هــي عملية انتقائيــة تقــوم بالقفز على لحظات زمنيــة، ولا تقف إلا عنــد اللحظات المميــزة، الحاســمة والضروريــ­ة، فالذاكرة كما يقــول «امبرتو إيكو»: «إوالية تســمح لا بالحفــظ فقط بــل بالاختيار أيضــا»: «حين افترقنا/على باب المشــفى/ لاشيء يجمعنا/ أنا والموت».

على سبيل التركيب:

ديــوان «هواجــس قرصان» هــو ديوان الأســئلة الحارقة، والهواجس المؤرقة، وهو كشــف يضيء أبعــاد التجربة الشــعرية، والذاتيــة، والحياتية، ويفصــح عما راحت تمثلــه الكتابة لمحمــد حمود كمتــاح للبوح، ومســاءلة الذات، تلك الذات التي لم تحضر باعتبارهــ­ا موضوعا لنرجســية مرضية، أو مجرد مساحة لصياغة الرمز، وافتعال المجاز، وإنما بوصفها بؤرة مفتوحة للتقويم من جهة، ولفتح علاقات ممتدة مع أشــكال الوجود من جهة أخرى، كأنطلوجيــ­ا كاملة، ومطلقة، بما هي عمق الوجود، وعمــق الهوية، و«البؤرة التي ننظر منها إلى العالم، وننظمه».

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom