Al-Quds Al-Arabi

معرض الكتاب في الجزائر: حكايات خلف الرفوف

-

علــى مدخــل معــرض الكتاب فــي الجزائــر، يقف رجــان؛ عــون أمــن ورقيــب، الأول يُفتش مــا تحمله أيادي الداخلين، والثاني يُرافقهم في تجوالهم، بدون أن يُضايق أحداً، أو يشعره بوجوده، يُملي على الزوار مــا يجب عليهم قراءته، وما يجــب عليهم تفاديه. وإذا كان لعون الأمــن ما يبرر وجوده، فإن الرقيب بإمكانه أن ينســحب وهو مُطمئن البال، فقــد حفظ الجزائري الدرس، نضج، بما فيه الكفاية، وتعلم أن يُنمي الرقابة الذاتية، بــدون الحاجة إلى وســيط، أن يغمض عينيه عن كتــب الاجتهاد، وأن يتجنــب كل كاتب يقترب من الُمحرمــات، مثــل الهويــة أو الدين أو حــب الوطن. إن الجزائــري يكبر فــي تآلف مع الرقابــة، يبتلعها مثلما تُتبلع أقراص الفياغرا، كي يزداد حماســة في الدفاع عن الســلطة الدينية، وينتصب مثل شرطي في حماية الأئمــة مــن «زنادقة» الفكــر الحر والأدب والفلســفة. ولهــذا، فــإن انســحاب الرقيب، من معــرض الجزائر للكتــاب، في الطبعات المقبلة، يبــدو ضرورياً، لخفض التكاليــف، فهنــاك الآلاف ممــن يقومون بــدوره، في التبليــغ عن الكتب، وفــي ذم الكتاب وفــي التحريض عليهــم وعلــى منعهــم مــن الجـــــــ­لوس فــي ندوات المعرض.

مع التقدم بين أجنحة العارضين، الملتصقة ببعضها بعضــاً، كمــا لــو أنها لعبــة «ليغو»، لا نســمع ســوى شــكوى واحــدة، تتكــرر، عن غــاء الأســعار. ويعود ذلك إلى ســببين، فقــد تعودنا أن الكتــب هي أرخص الســلع، وأقلهــا ثمناً، ونحتــج كلما زاد ســعرها، كما لــو أن الكتــاب يُطبــع كي يــوزع بالمجان، مثلمــا توزع المصاحف وكتيبات السياســة، والســبب الثاني أننا في غمــرة الركض اليومــي، خلف الخبــزة، نغفل عن السقوط المروع ﻟ «الدينار». وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فإن أســعار الكتب ستتضاعف، ثلاث مرات، في السنوات الست المقبلة، وســيجد القارئ ـ حينها ـ ســبباً في تحويل معرض الكتاب إلى معرض لالتقاط صــور الســيلفي، لا أكثر. فقــد كانت دورة هــذا العام بروفــة أولية، كي ينتقل الحدث مــن الكتاب إلى صور تزدحم في الفيســبوك، والصيني مو يان كان شاهداً على ذلك، فعدد صور الســيلفي، التي التقطها عابرون معه، تتجــاوز عدد الكلمات التي تلفــظ بها، بحكم أنه لم يجد من يُناقشه عما كتب وما يكتب، والكثيرون لم يكتشفوا اسمه سوى في 2018.

فــي واحدة مــن زوايا المعــرض، صادفت الســيدة )ف(، وهــي مناضلــة شــيوعية، عرفت الســجن أيام هــواري بومدين، وســألتني عــن كُتب جان ســيناك. شعرت بحرج أمامها. رغم أن سيناك من أهم الشعراء، ليس في الجزائر وحدها، بل في الفضاء الفرنكفوني إجمــالاً، فإنــه يندر أن نجــد كتبه. «ما فائــدة معرض كبيــر للكتاب إذا كان لا يوفر كتــب مؤلفين محليين؟»، علقــت )ف(. وســرعان ما تداركت أنهــا وجدت، على الأقل، «مذكرات سجين سابق»، ورددت عليها: «العام المقبل ســتجدين مذكرات جديــدة، يكتبها صحافيون جزائريون، سجنوا، في الأيام الأخيرة»، وانصرفت.

لا يُمكن أن نمر على معــرض الكتاب بدون أن تلفت انتباهنا دار «كوكو» (نســبة لإمارة كوكو التي قامت، فــي الجزائــر، في القرن الســادس عشــر(. قــراء من مختلــف الأعمار، يقفــون أمام جنــاح «كوكو» يقتنون الإصــدارا­ت الجديدة، ويعبرون عــن تضامنهم معها، بســبب مــا تتعرض لــه مــن تضييــق. فغــداة افتتاح المعرض، انتقــل الرقيب من العمل الســري إلى العمل العلني، ووقف رجلان أمام جناح الدار بغرض سحب كتابين، صدرا، في الجزائر، بشكل قانوني، هما: طبعة جديدة من كتاب «الأيام الأخيرة لمحمد» للتونسية هلا وردي، وكتاب «ديمكتاتوري­ة» لمقران آيت العربي. دار كوكو دافعت عن مؤلفيها وعن كتابيها، وأبرقت دعوة للباحثــة هلا وردي، للمجيء، ومقابلة القراء، وتوقيع كتابها، فهذه الدار، وعلى الرغم من حداثتها، كســبت تأثيــراً وحضوراً مميزين. وليس بعيــداً عن تلك الدار، لمحت رشيد بوجدرة، وهو يجلس قبالة هرم من ترجمة كتابــه الهجائي «زناة التاريــخ»، الذي يتهم فيه بعض الكتاب والسينمائي­ين بتشويه تاريخ البلد، ويتحدث، في بث مباشــر، مع القناة التلفزيوني­ة، التي أســاءت له قبل ســنتين، وحولــت برنامج «كاميــرا خفية» إلى مُحاكمة دينية له، وأرغمته على نطق الشــهادتي­ن، تلك الحادثة أثارت غضباً شــعبياً، في الجزائر وخارجها، ولكن يبدو أن الأمور عادت إلى طبيعتها، بين بوجدرة وتلك القناة، ولكن الشيء الذي يحرض على السؤال: لماذا يجلس بوجدرة شــبه وحيد، في معرض الكتاب؟ وهــو الكاتب الذي كان يصطف الناس طوابير طويلة، للظفر بتوقيع منه، قبل ســنوات قليلة! رشيد بوجدرة لــم يأت فقــط لتوقيع «زنــاة التاريخ»، بــل كان يحمل معه في حقيبته نسخاً من كتب قديمة، حضر وجلس، وانتظــر وصول القــراء، لكنهم تخلفوا عــن الموعد، أم أنهم طلقوا الكاتب؟

لــن نختلــف فــي الــرأي إذا قلنــا إن المقروئية، في الجزائــر، تتســع بالعربيــة، ومعــرض الكتــاب يؤكد تلك الملاحظــة، بدون أن نلغي العــدد الكبير من القراء بالفرنســي­ة، ومــن القراء مزدوجــي اللغــة، وهو أمر ســاعد عليــه ظهور دور نشــر نفعيــة، تنشــر بمقابل مادي، وتتوجه بالأخص للشــباب والُمراهقين، وبات مــن العــادي أن نُصــادف كتابــاً بالمئــات، لا تتجاوز أعمارهــم العشــرين، ولكن في الظل ما يزال الســؤال اللغــوي يتردد: لمــاذا لا نكتب بالعاميــة؟ لماذا لا توجد كتب كثيرة بالأمازيغي­ة على الرغم من ترســيمها؟ هذه أســئلة مشــروعة كان بإمكان إدارة المعــرض التفكير فيها، طرحها في الجلســات النقاشــية، لكنها تفضل التعامل مع البرنامج الثقافي بحذر، غير مبرر، فغالبية الكتب، التي عرفت إقبالاً ونقاشــات مــن القراء، على

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom