Al-Quds Al-Arabi

الديكتاتور والكاتب

- ٭ روائي مصري

من العلامــات البــارزة فــي تاريخنــا العربي قتل العشــرات من الكتاب والمفكرين، لكننــي لن أعيد كل «النكــد» التاريخي. فقط ســأعطي بعــض أمثلة على حالات بــارزة مثل عبــد الله بــن المقفع، الــذي ترجم «كليلــة ودمنــة»، وكتــب أكثــر مــن كتاب مــن بينها «الأدب الكبيــر» الذي هو في معظمــه عن العلاقة بين الراعــي والرعية، بمصطلحات زمــان، أو بين الحاكم والمواطنــ­ن بالاصطــاح الحقيقــي، الــذي يغيب عن كل الديكتاتور­يــن، فهــم لا يرون المواطنــن إلا رعايا يوجهونهــم كمــا يشــاءون، كمــا توجه الشــياه في المراعــي، ولا يقبلــون بالمواطنــ­ة التي يتســاوي فيها الحاكم والمحكوم.

مقتل ابــن المقفــع كان رهيبا، إذ ربطــوه في مقعد أمــام التنــور- اللطيف أنه في الشــام يقــال التنورة علــى «الجــوب النســائي» - لكــن طبعا ابــن المقفع المســكين لم يجلــس أمام تنورة بل أمــام تنور - فرن حقيقــي - وصاروا يقطعون من لحمه ويلقونه أمامه في التنور. في كتابه «الأدب الكبير» ينصح ابن المقفع النــاس ويعلمهم كيــف يتعاملون مع الملــوك، فيقول «إذا أصبت عند الوالي لطف منزلة لغناء يجده عندك، أو هوى يكــون له فيك فلا تطمحــن كل الطموح.. ولا تكونــن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفســك علــى طاعتهم في المكــروه عنــدك، وموافقتهم في ما خالفــك، وتقدير الأمــور على ميلهــم دون ميلك فإنك لا تأمــن عقوبتهــم إن كتمتهــم، ولا تأمــن غضبهــم إن صدقتهــم ولا تأمــن ســلوتهم. إن ســخطوا عليك أهلكــوك، وإن رضــوا عنــك تكلفت مــن رضاهم ما لا تطيق .»

كل الروايــات أو أغلبهــا تجمع أن الــذي قتله كان الخليفــة المنصــور. نصيحة ابن المقفــع لا تزال قائمة للأســف، ولايزال بعض الكتّاب يقعون في مصاحبة الحــكّام حتــى ينقلبــوا عليهــم لأي ســبب، ولو على ســبيل التغيير. طبعــا إذا امتــد الأمر إلــى المتصوفة الكبــار مثــل الحــاج أو إلــى النزاعــات الفقهية، لن ننتهي، لكن معتزلــي الفكر مثل الجعد بن درهم الذي ينفي تجسيد الله، وقال بخلق القرآن توحيدا لله، فلو كان القــرآن قديما فهذا يعني وجــود اثنين في العالم من قبل، والله واحد لا يشــاركه شيء أو أحد. قضية خلق القرآن موضوع وحده في علم الكلام الإسلامي. المهم هــذا الرجل قتله والي الكوفــة خالد بن عبد الله القســري، الُمعيَّن من قبل هشام بن عبد الملك أول أيام عيــد الأضحى قائلا: «أيهــا الناس ضحُّــوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم. لقد زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موســى تكليما» ثــم نزل فذبحه تحت المنبر وطبعــا معنى كلام الجعد ذاك، أن الله رغم التشــبيه بما يفعله البشــر غير قابل للتجسيد، لأنه في هذه الحالة سيكون في مكان دون مــكان، يعني الرجل كان ينزه الله عن صفات البشــر الماديــة. وهذا أيضا ركن كبير في صــراع المعتزلة مع الأشــاعرة وغيرهم والكلام فيه يطول. نهرب بسرعة لأن هناك العشرات قُتِلوا ونأتي إلى العصر الحديث فنجــد أن عبــد الرحمــن الكواكبــي صاحــب الكتاب التحفة «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد » وُضِع له السم وهو يشرب القهوة في مقهى في القاهرة عام 1902، وبعد خبر موته صادرت السلطات المصرية ما في بيته من كتب وأوراق، وفعلت السلطات السورية ذلك هنــاك أيضا، فالرجل ســوري كمــا نعرف ومن بنــاة النهضــة العربية، جــاء إلى مصر مــع غيره من الشوام، لأن الأرض أكثر اتساعا من الحكم العثماني في الشام لكنهم وصلوا إليه.

الأمر لم يختلف في العالم القديم والحديث حولنا فكلنــا نعرف حكايــة هيباتيا في مصــر، ومقتلها من قبــل الكنيســة، ومثلها آريــوس الذي قتل عــام 330 ميلادية بسبب كتابه «تاليا» الذي يعارض فيه عقيدة التثليث المسيحية، وطبعا العصورالوس­طى مليئة بمن تم نفيهم أو اغتيالهم بتعاون بين الكنيســة والحكام، الذين رأوا في الدين حصانهم السريع للسيطرة على الرعية!

بعيــدا عن القتــل إذا دخلنا إلى الكتــب التي مُنعت أو صــودرت ســنجد المئــات منهــا على مــر التاريخ. اشتركت في ذلك كل الدول، ففي الاتحاد السوفييتي هرب بعض الكتاب، وتعرض الكثير منهم للسجن أو مصادرة أعمالهم مثل إلكسندر سولجنستين صاحب «أرخبيل الكولاج» التي صودرت، و «دكتور زيفاجو» لباســترنا­ك والقائمــة طويلــة. أمــا جــورج أورويل فمنعــت روايتــه» 1984» فــي الاتحــاد الســوفييت­ي ومُنعــت فــي أمريــكا وإنكلترا فــي بعــض الأحيان، وفي جنــوب إفريقيا مُنعت رواية مثــل «ابنة بيرجر» و«أهل يوليو» لنادين جورديمــر، أما «أليس في بلاد العجائب» للويس كارول فمنعت يوما في الصين لأن الحيوانــا­ت فيها تتكلم مثل البشــر. «عشــيق الليدي تشــاترلي» لديفيد هربرت لورانس مُنعت في إنكلترا يومــا وغيرها. «مدار الســرطان» وكل روايات هنري ميللــر تقريبــا مُنعت فــي أمريكا فهاجر إلــى أوروبا. رواية «عالم رائع جديد» لألدوس هكســلي مُنعت في أيرلندا واستراليا. «لوليتا» لنابوكوف منعت في أكثر من دولة أوروبية وأمريكا نفســها. «آيات شيطانية» لســلمان رشــدي ممنوعة حتــى الآن فــي كل الدول العربية والإســامي­ة، ومن أشــهر الممنوعات العربية التــي ثــارت الضجــة حولهــا روايــة «أولاد حارتنا» لنجيــب محفــوظ و«وليمة لأعشــاب البحــر» لحيدر حيــدر، وكتــب فكرية لنــوال الســعداوي والصادق النيهوم وحســن حنفي ونصر حامــد أبوزيد، والأمر مســتمر وتلاحــظ هنا إنه فــي كل العصــور لا يكون الحاكــم قد قــرأ أيا مــن هذه الكتــب، لكــن هناك من جعلوا أنفسهم مثله أوصياء على الفضيلة، فيصلون إليــه أو لمؤسســاته بما لا يعلمه، وربمــا لا يهمه، لكنه حــن يصــل إليه ذلــك يهمــه الأمــر، فهنــاك رجل أو امرأة غيره تفكر بينما هــو الذي يفكر وهؤلاء الكتاب يمشــون في الطرقــات بلا حراســة مثلــه، وينامون ســعداء بالعوالم التي أقاموها في الخيال، بينما هو الناجح الوحيد الســعيد، وليس حوله إلا من يقول له ذلك وهو يرى من حولــه هم كل الناس. الأمر كما هو واضح تجاوز الدول وامتد إلى الجماعات الشــمولية التي تضع نفسها وصية على المجتمع، ويكون وراءها دائما فكر ديني أو اجتماعي متخلف. هي جماعات لا تختلف عن شــمولية الحاكم الديكتاتور­ي ويمكن أن تفــرح بك حين تعارض مصادرة كتب مفكر إســامي مثــل ســيد قطــب، رغم أنه مــن أكبــر دعــاة التكفير، لكنهــا وقد فرحــت بك يمكن، بــل لا بــد، أن تفتك بك إذا وجَــدَت الفرصــة. تمامــا كالديكتاتو­رالذي يفتك بمؤيديه فــي ما بعد. تفكر هل حقا تقدمت المجتمعات بقتل الكتًّاب، أو مصادرة الكتب تكتشف دمار الدول الديكتاتور­يــة، وكل الكتب التي صــودرت في الغرب أُفــرج عنها أو طبعت في بلاد أخرى وأثرت الســينما العالميــة. لم نعد نســمع عن ذلك في العالــم الآن، كما كنا نســمع من قبل لكن نســمع عنه في عالمنا العربي بشــكل كبير، فمصــادرة الكتب ومنعهــا من معارض الكتــاب أو المكتبــات ـ فــي عصر الإنترنــت - لا يزال عنــد البعض طريق الحفــاظ على الأخــاق الضائعة وعلــى القيــم، وغيــر ذلك مــن أيقونــات يُقصــد بها الجمود، بينمــا نرى حولنا حروبــا ومجاعات وقتلا غير مبرر من سياســات الحكام ومن معهم أو ضدهم من الجماعات الجهادية كلية التفكير شمولية الرؤية مثلهم. إنهم لا يعلمون أن هؤلاء الكتاب الذين يمشون ســعداء في الطرقات وبلا خوف ولا حراســة مثلهم ينامون متألمين من هذا العالم القاتل.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom